بقلم : فاطمة ناعوت | الاثنين ٢٣ نوفمبر ٢٠١٥ -
١٦:
٠٦ م +02:00 EET
فاطمة ناعوت
التجار جشعون. طماعون. يبيعون السلعة التى ثمنها جنيه بثلاثة جنيهات وأربعة وعشرة. ويجدون دائمًا مَن يشتريها. فيزدادون جشعًا، وثراءً، ونزدادُ فقرًا وجوعًا. مَن الذى علّم التاجرَ الجشَعَ؟ نحن، ولا أحد غيرنا. وراء كل تاجر جشِع، مستهلكٌ غير واع. الهَدرُ آفةُ المجتمعات الرجعية. الهدرُ قرينُ المجتمعات الشكلانية التى فيها يعمل المواطنُ ألف حساب «لصورته» أمام الآخر، دون أن يعبأ بجوهره. تذهب إلى الفكهانى وتخجل أن تشترى كيلو برتقال، رغم أن احتياجك فى ذاك اليوم لا يتعدى نصف الكيلو. «ماذا سيقول عنى البائع إن اشتريتُ أربع ثمرات؟ وماذا سيقول جارى الذى يقف يراقب عدد الأكياس التى سأحملها لأهلى؟ سيقول إننى رجلٌ بخيل يشحُّ على أطفاله وزوجته؟ إذن أشترى خمسة كيلوجرامات، ومش هايخسّروا».
هكذا تقول لنفسك وأنت تشترى ما لا تحتاج وتدفع من قوت يومك ما تحتاج إليه مُرّ الحاجة. لا يا سيدى! «هايخسّروا»! وسيكون مآلها سلة القمامة بعدما تتحنّط فى درج الثلاجة مع غيرها من فاكهة وخضراوات وعلب زبادى وعصائر عفّت نفوسُ أسرتك عن أكلها لأنها زائدةٌ عن الحاجة. ثم تشكو من العَوَز وضيق ذات اليد. وتنشأ معاركُ بينك وبين زوجتك لأنك لا تُلبّى احتياجات أخرى أساسية لا تجد فى جيبك ثمنَها. وتلعن الفقر وجشع التجار والعيشة واللى عايشينها والمجتمع والناس. ولا تعترف أبدًا أنك أحد أسباب الغلاء وجشع التاجر والتضخم وعجز الموازنة. ولا تفكر أن تنظر يومًا إلى سلة مهملات بيتك قبل أن يحمل عاملُ النظافة ما بها من صنوف طعام مغدورة لم تؤكَل!
تقول الإحصاءاتُ الدولية والمراقبون الاقتصاديون إن الدول الأكثر فقرًا هى ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا. بينما الدول الغنية لا تعرف تلك الثقافات الشكلانية المرضية المقيتة. مَن سافر إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها من دول الغرب «الكافر» يعرف أن المواطن هناك يذهب إلى السوبر ماركت فيشترى عدد واحد ثمرة برتقال، دون خجل، وعدد واحد عنقود عنب وعدد ٢ شريحة بطيخ ملفوفة فى غلالة بلاستيكية شفافة أنيقة، دون خجل، وثلاث حبات من ثمر الخوخ دون أن ترتعد فرائصه وهو يفكر فى نظرة الكاشير وماذا سيقول عنه. لن يقول عنه شيئًا لأنه مثله ينتهج السلوك المحترم نفسه، ولا يشترى إلا ما يحتاج إليه، وفقط.
راقت لى كثيرًا تلك المبادرة المحترمة التى أطلقتها وزارة التموين بالتعاون مع القوات المسلحة فى توفير وجبات مدعومة، بسعر رمزى، تتكون من اللحوم والدجاج والخضر والأرز ومكونات السلاطة تكفى أربعة أفراد. أعجبتنى الفكرةُ ليس فقط لأنها ستساعد الفقراء على الحياة الكريمة، وليس فقط لأنها وجبة بها كافة ما يحتاج إليه الجسمُ البشرى ليتغذى غذاءً صحيًّا من بروتين وڤيتامين وأملاح معدنية ونشويات، وليس فقط لأنها سيفٌ مسلّط على عنق التاجر الجشع بحيث تُكسِّد بضاعتَه وتقتل جشعَه، ولكن أيضًا لأنها تعلّم المواطنَ المصرى ثقافة التدبر والاقتصاد والتعقّل وشراء ما يحتاج إليه، وفقط، وشيئًا فشيئًا يتدرّب على مكافحة غريزة الهدر المتجذّرة فينا بحكم التقليد الموروث جيلاً بعد جيل.
وأنا أكتب هذا المقال رحتُ أفكّر فى عنوان جذاب غير مباشر على غرار «الهدر والمجتمعات الشكلانية»، أو «قاوموا الهدر بالاقتصاد»، وغيرها من العناوين الصحفية التى لا أميل إليها كثيرًا، فقفز إلى عقلى العظيمان بشارة الخورى ومحمد عبدالوهاب فى أغنية «جفنُه علّم الغزل»، فنسجتُ عنوان مقالى على نسقها، فيما أفكّر أن أطلب من صديقى الموهوب وليد فكرى أن يكتب كلمات تكافح الهدر على وزن الأغنية الوهابية الخالدة، ليغنيها صديقى الموهوب محمد زهيرى بصوته الآسر على عوده الساحر.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع