هذه هى الحلقة (٦) من دراستنا بعنوان «غروب الجماعة»، وتتناول قضية مهمة لها آثارها وأخطارها، ليس فقط على غير المسلمين، وإنما على المسلمين أيضاً، أقصد بها قضية اعتبار مجرد علة الكفر سبباً للقتال فى الإسلام.. إذ من الأحاديث الشهيرة التى يستمد منها دعاة العنف والإرهاب من أمثال داعش والقاعدة (ومن لف لفهم) حجتهم فى قتال غير المسلمين، ما أورده البخارى فى كتاب الإيمان (٢٥/١)، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله».. والحديث -كما هو واضح- يتناقض بشكل صارخ مع قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» (البقرة: ٢٥٦)، وقوله أيضاً: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: ٢٩)، وقوله كذلك: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس: ٩٩)، وقوله: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود: ١١٨).. هذه الآيات وغيرها هى آيات محكمات لا تقبل نسخاً ولا تأويلاً، وتضع الحديث المذكور موضع الشك والريبة، وعدم القبول.. ومن الأحاديث الشهيرة التى يعتمدون عليها أيضاً، ما جاء بمسند الإمام أحمد عن ابن عمر (رضى الله عنهما) أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «بُعثت بين يدى الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله وحده لا شريك الله، وجُعل رزقى تحت ظل رمحى، وجُعل الصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم».. هذا الحديث، بغض النظر عما أثير حول سنده، يتناقض بل يتصادم متنه مع الكثير من الآيات القرآنية، المكية والمدنية، وهو ما يجعلنا نرده ونتوقف عن قبوله والرضا به.. تأمل قول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: ١٠٧)، وقوله: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل: ٨٩)، وغير ذلك من الايات.. تدبر أيضاً قول النبى (صلى الله عليه وسلم): «إنما أنا رحمة مهداة».. فكيف يتفق هذا مع السيف، والرمح، خاصة ونحن نتحدث عن دعوة الآخرين (بالحكمة والموعظة الحسنة)، وإقامة الحجة على المخالفين لدين الله (بالإقناع والمناقشة والحوار والجدال بالتى هى أحسن)، حتى يعبد الله وحده لا شريك له (طواعية واختياراً، ودون شبهة إكراه)؟!
إن جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنابلة يقولون إن العلة التى تبيح للمسلمين قتال أعدائهم هى الحرابة -أى المحاربة- والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر، بينما يرى الشافعى فى أحد قوليه أن علة القتال هى الكفر. ورأى الجمهور هو الراجح بناء على الآيات المحكمات التى ذكرناها آنفاً.. وقد أورد فيصل مولوى فى كتابه (المسلم مواطناً فى أوروبا) أدلة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التى تمنع قتل كثير من الكفار؛ لأنهم لم يحاربوا أو لعدم قدرتهم على القتال.. وقد استدل أيضاً بوصية أبى بكر لجيشه وهى ألا يتعرضوا لمن حبسوا أنفسهم فى الصوامع، وألا يقتلوا امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً، وبما ذكره البيهقى عن جابر أنه قال: «كانوا لا يقتلون تجار المشركين»، وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «اتقوا الله فى الفلاحين فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب».. إن الأصل فى العلاقة بين المسلمين وغيرهم ليست الحرب، ولا يكون الكافر حربياً إلا إذا أعلن هو (أو دولته) الحرب على المسلمين، أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته لأسباب مشروعة، وعند ذلك فقط يمكن أن نطبق فى معاملته أحكام الحرب.
وفى كتابه (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية)، يعلق «الريسونى» على آية (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (المائدة: ١٣)، بأنها تتضمن دعوة صريحة للعفو والصفح عن الأعداء والخصوم، فيما يصدر منهم من إساءات وإذايات، وهذا وذاك من الفضائل الخلقية الكلية، التى تصلح للأفراد والجماعات وفى جميع الأحوال والمجالات، وهى محتاج إليها مع المخالفين والأعداء أكثر مما يحتاج إليها مع الأخوة والأصدقاء.. ولكنها على كل حال عامة فى هؤلاء وهؤلاء، بل إن هذه الآية وأمثالها إنما نزلت فى الأعداء والمناوئين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).. على الرغم من ذلك وجد من العلماء -سلفاً وخلفاً- من يقول بنسخها أو بتخصيصها، كما أن عدداً من المفسرين يحكون ذلك دون إنكار أو تفنيد، كما عند البيضاوى فى الآية المذكورة، وأن العفو والصفح مرتبط بالذين تابوا وآمنوا أو عاهدوا والتزموا «الجزية».. وقد حكى عن قتادة (أحد مفسرى التابعين) من أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية براءة (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» (التوبة: ٢٩)، إلا أن الطبرى رفض القول بالنسخ، وقال: والذى قاله قتادة مدفوع إمكانه.. وليس فى هذه الآية دلالة على الأمر بنفى معانى الصفح والعفو عن اليهود.
لذا، نقول إنه لا بد -ابتداء- من تنقية كتب التراث من النصوص التى تأمر وتحرض على قتال أهل الكفر، لمجرد علة الكفر، وذلك لمخالفتها وعدم اتفاقها مع المحكم من الآيات، حتى لا يقع من لا يتوافر لديهم الفهم والعلم والفقه فى أخطاء وخطايا كبيرة، تصل إلى حد استحلال الكثير من الدماء!!.. والذى يتأمل حال جماعات التكفير والعنف والإرهاب، قديماً وحديثاً، وما ترتكبه من جرائم بشعة فى حق الإنسانية يتأكد له أن هؤلاء يحملون -إلى جانب جهلهم- نفوساً مريضة (ناقمة وحاقدة)، وينتمون إلى بيئات تعيسة (أسرياً وعاطفياً)، ويعكسون حياة لاهية وعابثة (فارغة بلا أهداف ولا مضمون)، الأمر الذى جعلهم يبحثون عن أدوار يحققون فيها ذواتهم ولو على حساب دماء الآخرين.. هذه الجماعات تنظر إلى أنظمة الحكم العربية ومؤسساتها من جيش وشرطة وقضاء وإعلام على أنها كافرة، وتعتبر مجتمعاتها جاهلية (كما وصفها سيد قطب منذ أكثر من خمسين عاماً)، ومن ثم فهم يعتقدون بوجوب قتالها (!).. ولا شك أن الهجمات الإرهابية التى حدثت فى باريس مؤخراً ومن قبلها إسقاط الطائرة الروسية تدل بوضوح على أن الخطر أصبح يهدد الجميع.. وهذا كله يضع أهل الفكر الصحيح والفهم السليم أمام تبعة كبيرة ومسئولية ضخمة فى توضيح وتبيان أوجه الخطل والخلل فيما وقع فيه هؤلاء.. وللأسف، هذا الفكر ينتشر كما النار فى الهشيم، ويجد له أنصاراً لدى الكثيرين من الشباب الذين لا يملكون علماً، ولا فهماً، ولا فقهاً.. ومن ثم، فإن تحصين شبابنا من الوقوع فى براثنه هو واجب الوقت، حتى لا يتحولوا فى لحظة إلى إرهابيين.
نقلا عن الوطن