بقلم : سليمان شفيق
الإعلام الخاص والفضائيات والمواقع الالكترونية وراء «العيب الخلقى» الذى نعانيه الآن
يشغلنى فى الآونة الأخيرة قضية ما يحدث فى الصحافة والإعلام والتواصل الاجتماعى.. أكثر من مناهضة الإرهاب، أو الانتخابات البرلمانية، أو حتى ما يدور حول أزمة الطائرة الروسية المنكوبة، لأن كل القضايا السابقة قضايا تنتهى بانتهاء وقتها، أما قضية (الصحفجية والإعلامجية) فقد تتحول من «عيب خلقى مهنى»، يمكن إصلاحه بعملية جراحية إلى «عاهة مستديمة»، تستمر بين أجيال قادمة من «الوافدين» على المهنة وتؤدى إلى مرض مزمن فى الثقافة المصرية.
بداية لابد أن نؤكد أن الصحافة المصرية العريقة تعرضت لطفرة مفاجئة حينما انفتحت السموات.. ولم يكن الصحفيون أو الإعلاميون مؤهلون لاستيعاب هذه الطفرة، بمعنى أن الصحافة الورقية كانت تسير وفق منظومة محترمة ومحترفة مهنيًا وأخلاقيًا، وكانت هناك مؤسسات صحفية أقرب إلى المدارس التى تربى الشباب الصحفى.
كيف تكون الصحافة مهنة صناعة ضمير قبل أن تكون صناعة الرأى العام؟، (أساتذة وتلاميذ) أجيال عظيمة ومدارس أعظم مثل: (أهرام هيكل وأخبار على ومصطفى أمين وجمهورية حسين فهمى وإحسان عبد القدوس روزا اليوسف) إلخ، وبرز من تلك المدارس تلاميذ صاروا أساتذة مثل (أحمد بهاء الدين ولويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح حافظ وموسى صبرى وكامل زهيرى ومصطفى بهجت بدوى، ومكرم محمد أحمد، وأجيال من الرسامين وفنانى الكاريكاتير مثل البهجورى وحجازى وعبد السميع، وجمعة.. إلخ) وحينما ظهرت الصحافة الحزبية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى، قدمت مدارس وأساتذة مثل: محمد عودة وحسين عبد الرازق وفيليب جلاب الأهالى، وعبدالله إمام ومحمود المراغى العربى، ومصطفى شردى الوفد، وعادل حسين العمل، ومحمود عوض الأحرار، ومن رحم هؤلاء ولد العديد من التلاميذ الذين صاروا أساتذة: أمينة النقاش ومصباح قطب، عبدالله السناوى، عبد الحليم قنديل، عماد حسين، إلخ.
كانت الصحافة بمدارسها المختلفة لها منظومة ونسق للتربية والتعليم، كانت الأهرام مؤسسة للرأى والثقافة : كتب فيها العقاد ونجيب محفوظ ولويس عوض وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور ونعمات أحمد فؤاد، والأخبار مدرسة للخبر والعناوين الصحفية موسى صبرى، والكاتب الكبير أحمد رجب والرسام مصطفى حسين، والأديب جمال الغيطانى وغيرهم، وانفردت الجمهورية بالصحافة الرياضية التى أسسها ناصف سليم، وكانت روزا تحوى مدارس مختلفة من رسامين عظام إلى كتاب مرموقين وصحفيين هم فاكهة الصحافة المصرية حتى الآن من أساتذة وتلاميذ أساتذة وراء أغلب الإصدارات الناجحة فى الصحافة الورقية.
الطفرة والانقلاب الصحفى نحو الإعلام والفضاء الالكترونى :
كانت الصحافة حتى نهاية الثمانينيات تسير وفق المنظومة والنسق السابق الإشارة إليه، حتى حينما ظهرت الصحافة الخليجية واستقطبت بعض الصحفيين والكتاب لم تغير فى قيم الصحافة شئ يذكر سوى أنها حركت بعض الأجور، ولكن نقل الأساتذة وتلاميذهم قيم الصحافة المصرية إلى الخليجية، ومن رحم تلك الصحف ولدت مئات المطبوعات الفنية والمتخصصة، وفى أوج ازدهار الصحافة والاستقرار النقابى حيث اعتلى كرسى النقيب أساتذة مهنيين عظام (حافظ محمود، حسين فهمى، كامل زهيرى، مكرم محمد أحمد وغيرهم من جيل النقباء الكبار) حينذاك استطاعت النقابة أن تكون قلعة للرأى والمهنة وربط القيم بالمهارات.
لكن مع بداية بروز الإعلام الخاص والفضائيات والمواقع الالكترونية، لم يكن لا الأساتذة ولا تلاميذهم مؤهلين لذلك.
ماذا حدث ؟
أولًا: حدث الخلط التعسفى بين الإعلان والإعلام من جهة، ونزح صحفيين كثيرين إلى العمل فى الإعداد أو مقدمى برامج.
ثانيًا: قفزت الأجور قفزة لا تقاس فكان هناك صحفى يعيش على بدل النقابة وآخر يقبض بالملايين.
ثالثًا: ظهر ما اسميه «بارونات» الإعلام الذين يشكلون «لوبى» فى خدمة بعض رجال الإعلام فى الصباح رئيس تحرير صحيفة وفى المساء مقدم برامج.
رابعًا: كانت الصحافة تسير وفق قاعدة : حامل رسالة جمهور، وبفعل آليات السوق وبورصة الإعلانات تحول الشكل إلى مندوب إعلانات سلعة سوق !!
خامسًا : زحفت شركات احتكار الإعلانات إلى الإعلام واشترت خدمات «اللوبيهات» الإعلامية بمقدمى برامجها وضربت «المزاحمة الحرة» وبدأت تركز فى التوجه إلى محاولة امتلاك النظام السياسى، والشراكة مع الحاكم، وتحول بعض مقدمى البرامج إلى أدوات فى يد «الرأسمالى المالك» الذى أضاف إليهم مواقع وصحف ومرشحين للمجلس النيابى من أجل أما الحصول على الأغلبية إن أمكن أو خلق منظومة (إعلامية سياسية اقتصادية) تشكل «لوبى» يشارك فى ملكية الرأى العام، للترويج لوجهات نظر الرأسمالى، الاقتصادية والسياسية، والمشاركة فى صناعة القوانين التى تحمى رأس المال، الأمر الذى دعا الرئيس السيسى إلى انتقاد الإعلام ومن قبله الدستور !!
سادسًا: اختلط «الحابل بالنابل» أى الصحافة بالإعلام، وظهرت أجيال جديدة
(بلا أساتذة، يمتلكون مهارات بلا قيم) أغلبهم يفتخرون بما كنا نعتبره عار (مثل جلب الإعلانات) أو العمل فى خدمة البارونات الذين يخدمون محتكرى الإعلانات، ومع احترامى للجميع، لم يعد هناك «أساتذة» بل بارونات، واندثرت التلمذة وبرز «خدم» فى بلاط «السلطنة» أو «المافيا» (أثناء كتابة المقال ألقى القبض على أحد مالكى كبريات الصحف متهمينه بالفساد وتجارة السلاح) أو الأذرع الإعلامية لجماعات مصالح اقتصادية.
سابعًا: أصبح الصحفيون طبقات فقراء يعتمدون على «الفتات» وفئة مستورة تحاول أن تحتفظ باستقلاليتها فى صمت، وثالثة من البارونات تدافع عن من يدفع، ويلتف حولها بعض «الخدم» وينتقلون من سيد إلى آخر حسب سعر الصرف.. (أحد البارونات ثروته فى عشر سنوات ضعف ما كونه الأستاذ محمد حسنين هيكل فى أكثر من نصف قرن).
سيادة الرئيس: هكذا تم تجريف ضمير الوطن وليس أمامك سوى دخول السوق الإعلامى بشركات مساهمة تضم منافسين يستطيعون توجيه الرأى العام وصناعة الضمير قبل أن تتحكم المافيا الإعلامية والبارونات والخدم فى الأخضر واليابس، اللهم إنى قد بلغت اللهم فاشهد، أقول قولى هذا واستغفر الله لى ولكم ولهم.