الأقباط متحدون - الكارثة التى أخفاها المسئولون فى وادى النطرون
أخر تحديث ٠٩:٢٣ | الاثنين ٩ نوفمبر ٢٠١٥ | ٣٠ بابه ١٧٣٢ ش | العدد ٣٧٤١ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

الكارثة التى أخفاها المسئولون فى وادى النطرون

محمد البرغوثي
محمد البرغوثي

منذ اللحظة الأولى التى سمعت فيها محافظ البحيرة ونائبته يتحدثان للفضائيات حول كارثة غرق محافظة البحيرة، أيقنت أن كبار الموظفين فى مراكز إدكو وكفر الدوار ورشيد ووادى النطرون تمكنوا من خداع الجميع، وعلى رأسهم المحافظ الذى ظل لعدة أيام يتحدث عن محاولات إنقاذ عشرات المزارعين من الموت غرقاً فى «قرية عفونة» التابعة لوادى النطرون، ودفع كل أجهزة الدولة إلى الاعتقاد الخاطئ بأن الكارثة تنحصر فى مجرد قرية صغيرة لا تضم غير عدة بيوت فقيرة جرفتها السيول، وأن الانتهاء من إنقاذ سكان هذه البيوت وتعويضهم بمساكن إيواء ومنحهم عدة آلاف من الجنيهات يضع نهاية معقولة لهذه الكارثة، ويصرف انتباه الجميع عن الفاجعة الحقيقية التى حدثت وما زالت تحدث حتى الآن.

والحقيقة التى أخفاها كبار الموظفين عن المحافظ، هى أن «عفونة» ليست مجرد قرية صغيرة جداً تضم عدة بيوت وعشرات المزارعين، ولكنها منطقة شاسعة تشغل مساحة 36 ألف فدان، بمعنى أن مساحة عفونة وحدها تعادل نصف مساحة القاهرة الجديدة التى تضم التجمع الأول والثالث والخامس ومدينة الرحاب، وأن الطريق الرئيسى الذى يربط هذه المنطقة بطريق العلمين - طريق الأوائل - يمتد إلى مسافة 30 كيلومتراً، وتتفرع منه طرق ومدقات على الجانبين تصل أطوالها إلى نحو 200 كيلومتر، وتتناثر فى أرجائها الشاسعة مئات المزارع الصغيرة التى تتراوح بين 10 أفدنة و100 فدان، بالإضافة إلى عدة مزارع كبيرة تتراوح بين ألف وعدة آلاف من الأفدنة، ولا تخلو مزرعة واحدة من كل هذه المزارع من مسكن ريفى بسيط وحظائر للمواشى والدواجن ومنشآت للمولدات والمحولات والآبار، بالإضافة إلى عشرات المزارع المتوسطة والكبيرة التى تضم بيوتاً سكنية على طراز عمارة المهندس حسن فتحى، التى تتميز بالقباب الرائعة والحدائق المنزلية البسيطة، وتضم بيوتاً للعمال من الطراز ذاته، ومبانى شاسعة عبارة عن محطات فرز وتعبئة لمحاصيل الخضار والفاكهة التى تنتجها هذه المزارع. وحتى تكتمل الصورة لمن يريد أن يعرف، فكل المزارع تقريباً بها جرارات زراعية ومواتير رش مبيدات وسيارات نصف وربع نقل، وشبكات رى ومولدات طاقة وطلمبات تكلفت عشرات الملايين من الجنيهات.

الأهم من كل ذلك بالطبع، أن كل هذ المزارع فاجأها السيل الرهيب ليلة الثلاثاء الماضى وهى فى منتصف موسم جنى محصول الزيتون، وفى بداية عروة جديدة لزراعة العديد من أصناف الخضار، وهو ما يعنى أن هناك آلاف العمال كانوا نائمين فى قلب هذه المزارع المتناثرة عندما انفتحت بوابات السماء وأسقطت أمواجاً عاتية من مياه الأمطار مصحوبة برياح شديدة، راحت تهدم البيوت السكنية وتجرف المواشى والأغنام وتقتلع الأشجار العالية، وبعد نحو 15 دقيقة بالضبط من هذا الجحيم انقطعت الكهرباء فى المزارع الموصولة بخطوط الضغط العالى، وتعطلت كل مولدات الديزل فى المزارع الأخرى، وتحول الليل الدامس إلى بحر من الظلمات، وكلما عثر العمال وأصحاب المزارع على مكان للاختباء، جرفته السيول المنهمرة، وبعد ساعات قليلة مرت كأنها سنوات من هذه الكارثة، انقطعت الاتصالات تماماً بسبب تعطل أبراج التقوية وانقطاع الكهرباء، واختفت كل الطرق والمدقات الفرعية تحت جبال من الكثبان الرملية، حتى الطريق الرئيسى الذى يربط مشروع الـ 36 ألف فدان بطريق العلمين - وادى النطرون، اختفى تماماً تحت عدة أمتار من مياه الأمطار والملاحات القريبة والبحيرات الضحلة التى لم تستوعب كل هذه المياه، فاندفعت منها فى سيل جارف أخذ فى طريقه كل شىء.

فى هذه الليلة السوداء قطع بعض عمال المزارع عدة كيلومترات يخوضون فى البرك والمستنقعات تحت وابل رهيب من قصف الأمطار، وعندما طلع نهار الأربعاء الماضى اكتشف المئات منهم أنهم كانوا يسيرون فى الاتجاه الخطأ، فبدأوا رحلة كابوسية أخرى فى البحث عن مدقات سليمة تقودهم إلى أقرب طريق مرصوف، ولولا الخبرة المتراكمة والضمائر الحية لدى أبناء قبائل العرب المنتشرين فى هذه المنطقة، لهلك معظم هؤلاء العمال من الجوع والبرد والإنهاك، فقد تمكن العرب من اقتحام هذه المتاهة الجهنمية على ظهور الجمال، وأنقذوا مئات العمال من الموت المحقق، بينما كان محافظ البحيرة ومعه كل أجهزة الدولة يحصرون اهتمام الجميع فى مساحة لا تزيد على مائتى فدان فقط، ومع ذلك لم يتمكنوا أبداً من الوصول إلى قلب هذه المساحة الصغيرة واكتفوا بالوجود فى غرفة إسعاف صغيرة تقع على بعد 4 كيلومترات من مشارف هذه المساحة الصغيرة.

والذى حدث بعد ذلك، وأخفاه كبار الموظفين عن الجميع، أن كل هذه المزارع بكل ما فيها من معدات ومبانٍ وشبكات رى ورش تعرضت للتخريب الكامل، واقتلع السيل جانباً كبيراً من أشجار هذه المزارع ودمر أكثر من نصف أشجارها وألحق أضراراً فادحة بالنصف الآخر، وضاعت فى هذا الجحيم العاصف آلاف الرؤوس من قطعان الأغنام والمواشى، وحملت السيول آلاف الأطنان من الثمار بعد حصادها وطمرتها تحت رمال الصحراء، وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يتمكن صاحب مزرعة واحدة من الوصول إلى مزرعته ليعرف بالضبط حجم خسائره، لأن كل الطرق الفرعية التى كانت تؤدى إلى هذه المزارع لم يعد لها وجود على الإطلاق.

بعض الذين خرجوا من هذا الجحيم -ومنهم شقيقى محمود البرغوثى- قضوا أكثر من 14 ساعة فى محاولة الخروج إلى أقرب نقطة على طريق العلمين، وخلال الرحلة شاهدوا أهوالاً رهيبة أفظعها الأذرع البشرية المرفوعة لأناس مطمورين تحت الرمال والحيوانات التى تستغيث من الغرق ولا مغيث.. وأقلها كل ملامح النشاط الإنسانى فى تخضير الصحراء وتحويلها إلى جناين مدهشة وقد تحولت إلى خرابات رهيبة. كل هذا والمحافظ ورجاله ما زالوا هناك يبذلون أقصى ما فى وسعهم لصرف الأنظار عن هذه الكارثة.
نقلا عن الوطن
 


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع