بقلم: ماريا ألفي
حلم السفر إلى الخارج هو حلم يسعى إليه كل شاب مصري، ولكني مرّ بيَّ وقت تعجبت فيه من هذا المنطق، وتساءلت: "لماذا يسافر الإنسان ويبعد عن وطنه ويترك أهله وأصدقاءه وجيرانه"؟! وكنت أظن أنه لا يوجد سبب ليترك الإنسان كل هذا ويسافر إلى بلد غريب عنه في عاداته وتقاليده وشعبه.
ولكن جاء اليوم الذي حالفني فيه الحظ وسافرت إلى "آوروبا"؛ لأقضي بها 25 يومـًا؛ كانت أول ثمانية أيام لي هناك تابعه لمعسكر يضم جنسيات أكثر من 30 دولة، كان من بينهم العربي والأجنبي، الأبيض والأسود، المسيحي والمسلم، وما إلى ذلك من ديانات أخرى.
فوجدت هناك روحـًا واحدة مسيطرة على جميع أعضاء المعسكر، ألا وهي روح المحبة والتعاون؛ دون النظر إلى دين أو لون؛ فكنت عندما أستيقظ مبكرًا لا أجد أمامي إلا الابتسامة العريضة على وجوه مليئة بالتفاؤل، كما لاقيت هناك بلادًا تحترم الآخر وتقدِّر آدميته وحريته ورأيه.
إلى أن جاء اليوم الذي عدت فيه إلى "مصر"؛ ورأيت وجوهـًا قد تلاشت من عليها الابتسامة، وظهرت عليها علامات اليأس والهمّ، مما جعلني أتساءل: ماذا قدمت "مصر" لأولادها؟؟ فـ"مصر" هي الأم، فماذا فعلت لتؤمِّن مستقبل أولادها وتضمهم إلى حضنها؟؟
"مصر" قدمت لكثير من أولادها الذل والهوان؛ قدمت لهم البطالة والعنوسة على طبق من ذهب؛ فالمئات.. بل الآلاف يتخرجون من الجامعات بعد سنوات من الدراسة دون عمل ينتظرهم، أو بالكاد يجدون عملاً براتب بسيط للغاية لا يتناسب مع تكاليف المعيشة الحالية؛ وما يصاحبها من غلاء مستمر دون سبب واضح، ومَن أين لهم إذن ليتزوجوا ويستقروا وهم في مثل هذا الحال؟!
وخلال "شهر رمضان" شاهدت حلقة من برنامج "بدون رقابة" للإعلامية "وفاء الكيلاني"، استضافت فيها شابـًا مصريـًا حاول الانتحار نظرًا لظروف معيشته الصعبة، كان عندما تزوج أن أنجب طفلاً مريضـًا لا يستطيع حتى أن يصرف على علاجه؛ لأن راتبه 600 جنيهـًا، يكفي بالكاد مصاريف المنزل من إيجار ومأكل، فكيف له أن يعالج ابنه المريض؟؟ كان هذا يكفي لأن يفكر مثل هذا الشاب في الانتحار أكثر من مرة، ولكن العناية الإلهية حفظته، وبسؤاله عن قرار الانتحار قال: "إن الموت كان أرحم من أن أرى ابني يتألم أمامي وأنا عاجز لا أستطيع أن أقدم له أي شيئ لأنقذ به حياته".. يا له من أمرٍ محزن للغاية؟! فنحن فعلاً في بلد يزداد الغنيُ فيه غنى، ولكن الفقير يموت فيه جوعـًا!!
أصبحنا حاليـًا نستحق المركز الأول -وعن جدارة- في انتشار الفساد والواسطة؛ لدرجة أن رغيف العيش أصبح بالواسطة، فمن الممكن أن يقف الإنسان البسيط لساعات في طابور العيش، ولكن إذا كان له واسطة فلن يلقى هذا الذل، وكان للواسطة أيضـًا أن تلتهم حقوق البسطاء في العلاج على نفقة الدولة!!
كل ما سبق -وهو بعض مما يعانيه المواطن المصري- جعلني أدرك لماذا ترغب الغالبية في السفر للخارج، حيث الحرية والاحترام، وأنه هناك تكون الفرصة مواتية للحصول على فرصة عمل نظيفة يستطيع من خلالها أن يؤمن بها مستقبله وحياته.
وعندها أدركت وتأكدت أن نار الغربة في أن يعيش الإنسان وحيدًا بعيدًا عن أهله، في وطن ليس وطنه ولكن يحترمه ويحتويه، تكون أفضل من جنة العيش في "مصر"، في وطنه الذي يهمله ويجعله مشردًا يفكر كل يوم في الانتحار والموت!!