الأقباط متحدون | بقاء الروح وخلودها
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٤:٣٧ | الخميس ٢٣ سبتمبر ٢٠١٠ | ١٣ توت ١٧٢٧ ش | العدد ٢١٥٤ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

بقاء الروح وخلودها

الخميس ٢٣ سبتمبر ٢٠١٠ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: راندا الحمامصي
إنّ مسألة بقاء الرّوح واردة في الكتب السّماويّة، وهذه المسألة هي أُسّ أساس الأديان الإلهيّة، لأنّ المجازاة والمكافأة وردت على نوعين:
 الأوّل: ثواب وعقاب وجوديّ، والثّاني: مجازاة ومكافأة أخرويّة، أمّا النّعيم والجحيم الوجوديّ فهو في جميع العوالم الإلهيّة، سواء في هذا العالم أو في العوالم الرّوحانيّة الملكوتيّة، والحصول على هذه المكافأة يؤدّي إلى الحياة الأبدية، ولذلك يقول حضرة "المسيح": "اعملوا كذا وافعلوا كذا حتّى تجدوا الحياة الأبديّة، وتُولدوا من الماء والرّوح، حتّى تدخلوا في الملكوت"، وهذه المكافأة الوجوديّة هي الفضائل والكمالات الّتي تزيّن الحقيقة الإنسانيّة.
 مثلاّ.. الإنسان كان ظلمانيّاً فصار نورانيّاً، وكان جاهلاً فصار عالماً، وكان غافلاً فصار عاقلاً، وكان نائماً فصار مستيقظاً، وكان ميتاً فصار حيّاً، وكان أعمى فصار بصيراً، وكان أصمّـًا فصار سميعـًا، وكان أرضيّاً فصار سماويّاً، وكان ناسوتيّاً فصار ملكوتيّاً، ويهذه المكافأة يُولد ولادة روحانيّة ويصبح خلقاً جديداً، ويكون مظهر آية الإنجيل الواردة في حقّ الحواريّين القائلة: "الذّين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله"، أي نجوا من الأخلاق والصّفات البهيميّة الّتي هي من مقتضيات الطّبيعة البشريّة، واتّصفوا بالصّفات الرّحمانيّة الّتي هي فيض إلهيّ، هذا هو معنى الولادة.
 وليس لهذه النّفوس عذاب أعظم من الاحتجاب عن الحقّ، ولا عقوبة أشدّ من الرّذائل النّفسانيّة، والصّفات الظّلمانيّة، وانحطاط الفطرة، والانهماك في الشّهوات، وحينما يخلّصون بنور الإيمان من ظلمات هذه الرّذائل، ويتنوّرون بإشراق شمس الحقيقة ويتشرفون بجميع الفضائل؛ يعدّون هذا أعظم مكافأة، ويوقنون بأنها هي الجنّة الحقيقيّة، وكذلك يعتبرون المجازاة المعنويّة يعني العذاب والعقاب الوجوديّ، الابتلاء بعالم الطّبيعة والاحتجاب عن الحقّ، والجهل وعدم المعرفة، والانهماك في الشّهوات النّفسانيّة والابتلاء بالرّذائل الحيوانيّة، والاتّصاف بالصّفات الظّلمانيّة، من قبيل الكذب والظّلم والجفاء والتّعلق بالشّؤون الدّنيويّة، والاستغراق في الهواجس الشّيطانيّة، يعتبرونها أعظم عذاب وأشدّ عقاب.
 
 أمّا المكافأة الآخرويّة الّتي هي الحياة الأبدية المصرّح بها في جميع الكتب السّماويّة، هي تلك الكمالات الإلهيّة والمواهب الأبديّة والسّعادة السّرمديّة، فالمكافأة الآخرويّة هي الكمالات والنّعم الّتي تحصل في العوالم الرّوحانيّة بعد العروج من هذا العالم.
 أمّا المكافأة الوجوديّة فهي الكماٍلات الحقيقيّة النّورانيّة الّتي تتحقق في هذا العالم، وتكون سبب الحياة الأبديّة، لأنّ المكافأة الوجوديّة هي رقيّ نفس الوجود، مثالها انتقال الإنسان من عالم النّطفة إلى مقام البلوغ ويصير مظهر "فتبارك الله أحسن الخالقين". 
 والمكافأة الآخرويّة هي نعم وألطاف روحانيّة مثل أنواع النّعم الرّوحانيّة في الملكوت الإلهيّ، والحصول على أمنيات القلب والرّوح ولقاء الرّحمن في العالم الأبديّ، وكذلك المجازاة الآخرويّة يعني العذاب الآخرويّ، وهو الحرمان من العنايات الخاصّة الإلهيّة والمواهب الّتي لا ريب فيها، والسّقوط في أسفل الدّركات الوجوديّة، وكلّ نفس حرمت من هذه الالطاف الإلهيّة؛ وإن تكن باقية بعد الموت ولكنّها عند أهل الحقيقة في عداد الأموات.
 وأمّا الدّليل العقلي على بقاء الرّوح هو أنّه ليس للشّيء المعدوم آثارًا؛ يعني لا يمكن أن تظهر آثار من العدم الصّرف، لأنّ الآثار فرع الوجود والفرع مشروط وجوده بوجود الأصل، مثلاً لا تسطع من الشّمس المعدومة أشعّة، ولا يظهر من البحر المعدوم أمواج، ولا ينزل المطر من سحاب معدوم، ولا يأتي ثمر من شجر معدوم، ولا يكون ظهور ولا أثر لشخص معدوم، إذاً ما دامت آثار الوجود ظاهرة فهي دليل على أنّ صاحب الأثر موجود.
 أنّ سلطنة "المسيح" موجودة إلى الآن؛ فكيف إذاً تظهر من سلطان معدوم سلطنة بهذه العظمة، وكيف تعلو إلى الأوج أمواج كهذه من بحر معدوم، وكيف تنتشر نفحات قدسيّة كهذه من حديقة معدومة، أيضاً أنّه لا يبقى أثر ولا حكم ولا تأثير لأيّ كائن بمجرّد تلاشي الأعضاء وتحليل التّركيب العنصريّ، سواء أكان من الجماد أو النّبات والحيوان إلاّ الحقيقة الإنسانيّة والرّوح البشريّ، فإنّه تبقى وتستديم آثاره ونفوذه وتصرّفه بعد تفريق الأعضاء وتشتّت الأجزاء وتحليل التّركيب.
 
 أمّا لو استبشر الرّوح الإنسانيّ وانجذب إلى الملكوت وانفتحت بصيرته وتقوّى سمعه الرّوحاني وتملّكه الإحساس الرّوحاني، فإنه يشاهد بقاء الرّوح كما يشاهد الشّمس، وتحيطه البشارات والإشارات الإلهيّة. 
 إنّ تصرف الرّوح الإنسانيّ وإدراكه على نوعين، يعني له نوعان من الأفعال ونوعان من الإدراك، نوع يكون بواسطة الالات والادوات فهو يرى بهذه العين،ويسمع بهذه الأذن، ويتكلّم بهذا اللّسان، فهذه أعمال الرّوح وإدراكات الحقيقة الإنسانيّة ولكنّها بواسطة الالات، يعني أنّ الرّائي هو الرّوح ولكنّ الرّؤية بواسطة العين، والسّامع هو الرّوح ولكن بواسطة الأذن والنّاطق هو الرّوح ولكن بواسطة اللّسان.
 والنّوع الآخر من تصرّفات الرّوح وأعمالها يكون بدون الالات والادوات مثلاً وهو في حال النّوم يرى بدون عين، ويسمع بدون أذن، ويتكلّم بغير لسان، ويمشي بغير قدم، وبالجملة فهذه التّصرّفات بدون واسطة الالات والادوات، وكثيراً ما يرى في منامه ما يتحقّق حدوثه بعد عام، وكذلك كثيراً ما يتعذّر عليه حلّ مسألة في عالم اليقظة، ثمّ تحلّ في عالم الرّؤيا.
 فالعين لا ترى إلاّ المسافة القصيرة في عالم اليقظة، ولكنّ الإنسان في عالم الرّؤيا يرى الغرب وهو في الشّرق، ويرى في عالم اليقظة الحال وفي عالم النّوم يرى المستقبل، ونهاية ما يطويه بالوسائط السّريعة في عالم اليقظة عشرين فرسخاً في السّاعة، ولكنّه في عالم النّوم يطوي الشّرق والغرب في طرفة عين، لأنّ سير الرّوح على نوعين، سير من غير واسطة وهو السّير الرّوحانيّ، وسير بالواسطة وهو السّير الجسمانيّ، كمثل الطّيور الّتي تطير(الحرة المطلقة) والطّيور الّتي تتحرّك بواسطة حامل(السجينة المقيدة).
 
 وأمّا في وقت النّوم فالجسد يكون كالميّت لا يرى ولا يسمع ولا يحسّ ولا يشعر ولا يدرك، يعني تتعطّل القوى الإنسانيّة، ولكنّ الرّوح حيّ باقٍ، وهو في هذه الحال أكثر نفوذاً وطيراناً وإدراكاً، فلو ان الرّوح يفنى بعد موت الجسد يكون مثله كمثل طير كان في قفص وهلك بتكسيّر هذا القفص مع أنّ الطّير لا يبالي ولا يخشى تكسير القفص، وهذا الجسد كالقفص والرّوح كالطّير.
 ونحن نلاحظ أنّ لهذا الطّير، طيراناً في عالم النّوم بدون هذا القفص، إذاً لو كسر القفص فالطّير باقٍ ومستقرّ، بل إنّ إحساس ذلك الطّير يزيد وادراكاته تكثر وابتهاجه يزداد، وفي الحقيقة إنّه ينتقل من الجحيم إلى جنّة النّعيم، لأنّه ليس للطّير الشّكور جنة أعظم من إطلاقه من القفص، وهذا هو سبب هروع الشّهداء بنهاية الطّرب والسّرور إلى ميدان الفداء، وكذلك فإنّ نهاية ما ترى عين الإنسان في عالم اليقظة مسافة سير ساعة واحدة، لأنّ هذا مقدار تصرّف الرّوح بواسطة الجسد، ولكنّها بعين البصيرة والعقل ترى أمريكا وتدرك أنحاءها، وتكتشف أحوالها وتدّبر أمورها.
 بينما لو كان الرّوح عين الجسد للزم أن تكون قوّة بصيرتها محدودة بذلك أيضاً. إذاً صار من المعلوم أنّ الرّوح غير هذا الجسد، وأنّ الطّير غير القفص وأنّ نفوذ الرّوح وقوّته بدون واسطة الجسد أشدّ، من أجل هذا لو تعطّلت الآلة فصاحبها مستمرّ في العمل، مثلاً لو انكسر القلم وتعطّل فالكاتب حيّ حاضر، ولو انهدم البيت فصاحبه باقٍ مستقرّ.
 
 هذا من جملة البراهين العقليّة على بقاء الرّوح ، وهناك دليل آخر، هذا الجسد يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ويتعب ويستريح، بل أحياناً تقطع اليد والرّجل وتختلّ القوى الجسمانيّة، فالعين تعمى والأذن تصمّ واللّسان يبكم والأعضاء تبلى بمرض الفلج.
 وبالاختصار فقد ينتقص الجسد بالكلّيّة والرّوح باقٍ مستديم على حاله الأصليّة وادراكاته الرّوحانيّة لا يعتريها نقص ولا اختلال، ولكن حينما يبتلى الجسد كلّه بالأمراض والعاهات يحرم من فيض الرّوح ، كالمرآة عند كسّرها أو عندما تتغبّر لا يظهر شعاع الشّمس فيها، ولا يظهر فيضها.
 ونعرف أنّ الرّوح الإنسانيّ ليس بداخل الجسد، لأنّه مجرّد ومقدّس عن الدّخول والخروج اللّذين هما من شأن الأجسام،بل تعلّق الرّوح بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، والخلاصة أنّ الرّوح الإنسانيّ بحال واحدة، لا تمرض بمرض الجسد، ولا تصحّ بصحّة الجسد، لا عليلة ولا ضعيفة، لا ذليلة ولا حقيرة، لا خفيفة ولا صغيرة، يعني لا يعتري الرّوح أيّ خلل ولا تأثيّر بسبب فتور الجسد ولو صار الجسد سقيماً ضعيفاً وقطعت الأيدي والأرجل والألسن واختلّفت قوّة السّمع والبصر.
 إذاً اتّضح وتحقّق أنّ الرّوح غير الجسد، وبقاؤه ليس مشروطاً ببقاء الجسد، بل الرّوح في نهاية العظمة له سلطان في عالم الجسد، ويتجلّى نفوذه واقتداره كما يتجلّى ويظهر فيض الشّمس في المرآة. فإذا انكسرت المرآة أو تغبّرت حرمت من أشعّة الشّمس.
كمالات الوجود غير متناهيّة.
 
اعلم أنّ مراتب الوجود محدودة، وهي مرتبة العبوديّة ومرتبة النّبوّة ومرتبة الرّبوبيّة. ولكنّ الكمالات الإلهيّة والإمكانيّة غير متناهية، ولو أمعنت النّظر لرأيت أنّ كمالات الوجود بحسب ظاهر الظاهر غير متناهية ايضا، أنّك لا تجد كائناً من الكائنات كاملاً بحيث لا تستطيع أن تتصوّر كائناً أكمل منه، مثلاً لا يمكنك أن ترى ياقوتة في عالم الجماد أو وردة في عالم النّبات أو بلبلاً في عالم الحيوان بدون أن تتصوّر أنّ هناك أحسن منها.
 ولما كان الفيض الإلهيّ غير متناهٍ فالكمالات الإنسانيّة غير متناهية، ولو كان الوصول لنهاية كمال ممكنا لوصلت حقيقة من حقائق الأشياء إلى درجة تستغني فيها عن الحقّ، ولأصبح الممكن واجباً، ولكن لكلّ كائن من الكائنات رتبة لا يمكنه أن يتجاوزها.
 يعني أنّ الذّي في رتبة العبوديّة مهما ترقّى في تحصيل الكمالات الّتي لا تتناهى فإنّه لن يصل إلى رتبة الرّبوبيّة، وكذلك في الكائنات الجمادية فانها مهما ترقت في عالمها الجمادي لن تنال القوّة النّامية، وكذلك الورد مهما ترقّى في عالم النّبات لا تظهر فيه القوّة الحساسّة، مثلاً معدن الفضّة هذا لا يمكن أن يحصل على سمع ولا على بصر، وأقصى ما يصل إليه أن يترقّى في رتبته ويصير معدناً كاملاً، فلا ينال قوّة النّموّ أو قوّة الحسّ أو قوة الرّوح، ولا يمكن أن يحصل عليها، بل إنّه يترقّى في رتبته فقط.
 فمثلاً إنّ بطرس لا يمكنه أن يصل إلى رتبة المسيح، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه هو أن يحصل على كمالات لا تتناهى في مراتب العبوديّة، لهذا فكلّ حقيقة موجودة قابلة للتّرقّي، وحيث أنّ الرّوح الإنسانيّ له حياة أبديّة بعد مفارقة هذا الجسد العنصريّ، فلا شكّ أنّ كلّ موجود قابل للتّرقّي، ولهذا فإنّه يجوز طلب العفو والتّرقّي والعناية والمبرّات والفيوضات للإنسان بعد وفاته، لأنّ الوجود قابل للتّرقّي.
 
 ولهذا ورد في مناجاة حضرة بهاء الله طلب العفو والغفران للّذين صعدوا، وفضلاً عن هذا فكما أنّ الخلق في هذا العالم محتاجون إلى الحقّ كذلك هم في ذلك العالم أيضاً محتاجون، فالخلق في احتياج دائم والحقّ هو الغنيّ المطلق سواء في هذا العالم أو في الآخرة، والغنى في العالم الأخرويّ هو التّقرّب إلى الحقّ، ففي هذه الحال تجوز الشّفاعة يقيناً للمقرّبين لدى باب الأحديّة، وهذه الشّفاعة مقبولة لدى الحقّ، ولكنّ الشّفاعة في ذلك العالم لا تشبه الشّفاعة في العالم الاخر بل هي شيئ أخر لا يمكن التّعبير عنها.
 فلو وصّى إنسان غنيّ وقت وفاته بإعانة الفقراء والضّعفاء وإنفاق مبلغ من ثروته عليهم، فمن الممكن أن يكون هذا العمل سبب العفو والغفران والتّرقّي في ملكوت الرّحمن، وكذلك إنّ الأب والأمّ يتحمّلان من أجل أولادهما نهاية التّعب والمشقّة وحينما يصل الأولاد في الغالب إلى سنّ الرّشد يهرع آباؤهم وأمّهاتهم إلى العالم الآخر، ويندر أن يرى الآباء والأمّهات مكافأة من أولادهم مقابل مشقّاتهم وأتعابهم في الدّنيا.
 فيجب إذاً على الأولاد عمل الخيرات والمبرات مقابل مشقّات الأبوين وأتعابهما، ويلتموسون لهما العفو والغفران ، مثلاً يجب عليك أن تنفق على الفقراء في مقابل محبّة والدك وشفقته، وتطلب له العفو والغفران والرّحمة الكبرى بكمال التّضرّع والابتهال، وحتّى يمكن للّذين ماتوا في المعصية وعدم الإيمان أن تتغيّر حالهم، يعني يكونون مظهر الغفران وهذا بفضل الله لا بعدله، لأنّ الفضل إعطاء بدون استحقاق والعدل إعطاء باستحقاق.
 فكما أنّنا نقدر أن ندعو ههنا لهذه النّفوس في هذا العالم، كذلك لنا مثل هذه القدرة في العالم الآخر أي في عالم الملكوت، أوليس الخلق في ذلك العالم هم خلق الله؟ إذاً فهم في ذلك العالم يستطيعون أن يترقّوا، وكما أنهم يستطيعون أن يقتبسوا الأنوار بالتّضرّع في هذا العالم، فكذلك يمكنهم أن يلتمسوا الغفران ويقتبسوا الأنوار في ذلك العالم بالتّضرّع والابتهال.
 
 إذاً لما كان حصول التّرقّي ممكناً للنّفوس في هذا العالم بواسطة التّضرّع والابتهال أو بدعاء المقدّسين، فكذلك بعد الموت أيضاً يمكنهم التّرقّي بواسطة دعائهم وابتهالهم، ولا سيّما إذا كانت الشّفاعة من المظاهر المقدّسة. 
ترقّي الإنسان في العالم الآخر
 لنعلم أنّ كلّ موجود لا يثبت على حال واحدة، يعني أنّ جميع الأشياء متحرّكة وكلّ شيء صائر إمّا إلى النّمو وإمّا إلى الاضمحلال، فجميع الأشياء إمّا أن تأتي من العدم إلى الوجود أو تذهب من الوجود إلى العدم، مثلاً هذا الورد وهذا السّنبل استغرقا زمناً ليظهرا من العدم إلى الوجود، والآن قد أخذا في الذّهاب من الوجود إلى العدم، فهذه الحركة يقال لها حركة جوهريّة يعني طبيعيّة، ولا تنفكّ هذه الحركة عن الكائنات لأنّها من مقتضياتها الذّاتية كالإحراق فهو من المقتضيات الذّاتية للنّار.
 إذاً ثبت أنّ الحركة ملازمة للوجود، وهي إمّا إلى السّموّ أو إلى الدّنوّ، وعلى هذا لمّا كان الرّوح باقياً بعد الصّعود فلا بدّ وأن يكون سائراً إمّا إلى السّموّ أو إلى الدّنوّ، وعدم السّموّ في ذلك العالم هو عين الدّنوّ، ولكنّه لا يتجاوز رتبته بل إنّما يترقّى في هذه الرّتبة، مثلاً إنّ حقيقة روح بطرس مهما تترقّى فإنّها لا تصل إلى رتبة حقيقة حضرة المسيح، بل إنّها تترقّى في دائرتها، كما تلاحظ أنّ هذا الجماد مهما ترقّى فإنّ ترقّيته لا تتعدّى رتبته، كما إنّه لا يمكنك أن تصل بهذا البلّور إلى درجة يكون فيها مبصراً، فذلك مستحيل وغير ممكن.
 
 ومثلاً هذا القمر السّماويّ مهما ترقّى لا يكون شمساً نورانيّة، فأوجه وحضيضه في مداره، فالحواريّون مهما ترقّوا فلن يكونوا هم المسيح، نعم يمكن أن يصير الفحم ماساً ولكن كليهما موجود في الرّتبة الحجريّة وأجزاء تركيبهما واحدة.
مقام الإنسان وترقّياته بعد الصّعود
 إنّنا إذا نظرنا إلى الكائنات بعين البصيرة نجد أنّها تنحصر في ثلاثة أقسام، يعني جملتها إمّا جماد وإمّا نبات وإمّا حيوان، فهي ثلاثة أجناس ولكلّ جنس أنواع والإنسان نوع ممتاز، لأنّه حائز لجميع كمالات الأجناس، يعني له جسم وله نموّ وله حسّ، ومع وجود الكمال الجماديّ والنّباتيّ والحيوانيّ فله كمال مخصوص محروم منه سائر الكائنات وهي الكمالات العقليّة.
 وإذاً فالإنسان أشرف الموجودات، وهو في نهاية المرتبة الجسمانيّة وبداية مرتبة الرّوحانيّات، يعني نهاية النّقص وبداية الكمال، في نهاية مرتبة الظّلمة وبداية مرتبة الروحانيات، يعني نهاية النقص وبداية الكمال في نهاية مرتبة الظلمة وفي بداية مرتبة الروحانيات،يعني نهاية النقص وبداية الكمال في نهاية مرتبة الظلمة وبداية مرتبة النورانية.
 
 لهذا قالوا ان مقام الانسان نهاية الليل وبداية النهار يعني جامع لمراتب النّقص حائز لمراتب الكمال، فله جانب حيوانيّ وجانب ملاكيّ، والمقصود من المربّي هو أن يربّي النّفوس البشريّة حتّى يتغلّب الجانب الملاكيّ على الجانب الحيوانيّ، فلو تتغلّب القوى الرّحمانيّة في الإنسان الّتي هي عين الكمال على القوى الشّيطانيّة الّتي هي عين النّقص ليكون الانسان أشرف الموجودات، اما لو غلّبت القوى الشّيطانيّة على القوى الرّحمانيّة لاصبح أسفل الموجودات، ولذا فهو في نهاية النّقص وبداية الكمال.
 ولا يوجد تفاوت وتباين وتضادّ وتخالف بين أيّ نوع من أنواع الموجودات كما يوجد في نوع الإنسان. فالانوار الألهيّة تتجلّى على البشر مثلما تجلّت في المسيح.
 اذا فانظروا كيف ان الإنسان عزّيز وشريف، وكذلك فقد عبد الإنسان الحجر والمدر والشّجر، فانظروا كيف ان الإنسان ذلّيل لدرجة ان يعبد أحطّ الموجودات يعني الحجارة والطّين والجبل والغابة والشّجر وكلّها لا روح لها.
 فأيّ ذلّة أعظم من أن يصير أحطّ الموجودات معبود الإنسان، فالعلم صفة الإنسان وكذلك الجهل، والصّدق صفة الإنسان وكذلك الكذب، والأمانة صفة
.الإنسان وكذلك الخيانة، والعدل صفة الإنسان وكذلك الظّلم، وقس على ذلك

وبالاختصار فجميع الكمالات والفضائل صفات للإنسان وكذلك الرّذائل، انظروا أيضاً إلى التّفاوت بين أفراد النّوع الإنسانيّ، فقد كان حضرة المسيح في صورة البشر وقيافا في صورة البشر، وحضرة موسى كان إنساناً وفرعون كان إنساناً، وهابيل كان إنساناً وقابيل كان إنساناً، وحضرة بهاء الله كان إنساناً ويحيى كان إنساناً، من أجل هذا يقال إنّ الإنسان هو الآية الإلهيّة الكبرى يعني هو كتاب التّكوين، لأنّ جميع أسرار الكائنات موجودة في الإنسان، إذاً لو يتربّى في ظلّ المربّي الحقيقيّ يصير جوهر الجواهر ونور الأنوار وروح الأرواح،ومركز السّنوحات الرّحمانية ومصدر الصّفات الرّوحانيّة ومشرق الأنوار الملكوتيّة ومهبط الإلهامات الرّبانيّة.
 أمّا لو حرم فإنّه يكون مظهر الصّفات الشّيطانيّة وجامع الرّذائل الحيوانيّة ومصدر الشّؤون الظّلمانيّة، هذا هو حكمة بعثة الأنبياء لتربية البشر حتّى يصير هذا الفحم الحجريّ ماساً، ويتلقح هذا الشّجر الغير المثمر فيعطي فاكهة في نهاية الحلاوة واللّطافة، وحينما يصل الإنسان إلى أشرف مقامات عالم الإنسانيّة فعندئذ يترقّى في مراتب الكمالات لا في الرّتبة، لأنّ المراتب محدودة ولكنّ الكمالات الإلهيّة لا تتناهى، وللإنسان ترقٍّ في الكمالات لا في الرّتبة سواء قبل مفارقة هذا القالب العنصريّ أو بعده.
 مثلاً إنّ الكائنات تنتهي إلى الإنسان الكامل، ولا يوجد موجود آخر أعلى منه، ولكنّ الإنسان الذّي وصل إلى رّتبة الإنسانيّة له التّرقّي بعد ذلك في الكمالات لا في الرّتبة، لأنّه لا توجد رتبة أعلى من رتبة الإنسان الكامل حتّى ينتقل إليها فله التّرقّي فقط في الرّتبة الإنسانيّة، لأنّ الكمالات الإنسانيّة غير متناهية، مثلاً مهما كان إنسان عالماً فإنّه يتصوّر وجود من هو أعلم منه، وحيث أنّ الكمالات الإنسانيّة غير متناهية فبعد الصّعود من هذا العالم يمكنه أن يترقّى أيضاً في الكمالات.(حضرة عبد البهاء-كتاب المفاوضات) 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :