كتب: القمص أثناسيوس چورچ.
ليست الكنيسة مؤسسة سياسية؛ ولن تكون أبدًا. فهي لا تنتمي لحزب ولا لبرنامج سياسي، وهي ليست يمينية ولا يسارية؛ لأنها ملكوت الله وبره وخلاصه في الشعوب... ينحصر عملها في تقديس الزمان الحاضر ليبدأ الملكوت منذ الآن. ذلك الملكوت الذﻱ اقترب... الله هو حاكمها ومالكها ورأسها وهو أهمّ وأبقَى من كل قيصر. لذا ينبغي أن يُطاع أكثر من جميع الناس، وليكن هو صادقًا وكل إنسان كاذبًا.
فمع كوننا مواطنين سمائيين مدعوين دعوة عليا لنعيش كما يحق لإنجيل المسيح؛ إلا أننا نشارك اهتمامات هذا العالم فيما يحقق سلامه وخيره وتقدُّمه؛ من دون انكماش أو تقوقع مضاد، ما دُمنا نحيا هنا على الأرض ونتعاطىَ مع أمور هذا الزمان؛ على أن لا يستعبدنا العالم أو يُلهينا عن رجاء خلاصنا المنتظر.
لقد أوصى المسيح له المجد قائلاً : "أعطوا ما لقيصر لقيصر ؛ وما لله لله" (مر ١٢ : ١٧)؛ موضحًا حتمية الوفاء لمواطنتنا التي لا تتعارض مع تكميل خلاصنا؛ لأن كل ما نفعله إنما نفعله لمجد الله إلهنا، وكل إيجابية تنطلق من رحمته كي لا نفشل، وكل طاعة نابعة من طاعتنا وخضوعنا لمشيئته ووصيته؛ ومستمدة من رضاه.
لذلك مهمة الكنيسة كواقع وكحقيقة تاريخية وأُخروية، تتركز في إعلان الحق "الأليثيَّا" Aλήθεια، الحق الحقيقي وحده الذﻱ يجعل هدف انخراط المسيحي في مجتمعه، في أن يكون نورًا وملحًا وسفيرًا من دون انعزال أو انكماش.
لم تُنشئ المسيحية أﻱ دولة؛ لأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم؛ لكنه أعطىَ المؤمنين بإسمه وصايا الأمانة والصدق والاستقامة والعطاء وعمل الخير للجميع، وبأمره الإلهي المباشر والواضح ؛ كي تخضع كل نفس للسلاطين الفائقة المرتَّبة لمشيئة الخير التي تصبّ في النهاية لخير جميع الذين يحبون ظهوره أيضًا.
وأُحبّ أن أشير إلى الفارق بين ما هو سياسي وبين ما هو وطني، بين ما هو سياسي وبين ما هو اجتماعي وخيرﻱ وحقوقي، وهو ما تعيه الكنيسة جيدًا ويضبط إيقاع أدائها، فهي لا ترشح مرشحًا بعينه؛ ولا تقولب أبناءها أو توجههم للتكتل في قالب واحد؛ بل تحثهم على الإيجابية والمواطنة وإلتزام المشاركة، كلاً وفق اهتماماته ورؤيته وقناعته الشخصية الحرة؛ على اعتبار أن الأقباط ليسوا كتلة واحدة صماء؛ لكنهم يتنوعون ويتوزعون وفقًا لشخوصهم وتكويناتهم وانتماءاتهم الفكرية والاجتماعية.
إننا واحد فقط في إيماننا وعقيدتنا وتقليدنا الكنسي؛ لكننا متنوعون وموزعون فيما لقيصر، من دون إخلال بالانتماء والولاء لمصرنا التي شرفها وخصها المسيح له المجد ببركة الزيارة والإقامة فيها... ليس للكنيسة مرشحون ولا مقارّ ولا برامج ولا إشارات أو إعلانات انتخابية سياسية، ولن يكون أبدًا... وكل من يخرج عن هذا التسليم والتقليد الثابت والمتراكم؛ لا يمثل إلا نفسه، بل ويسيء إلى الرضائية الجموعية وعموم آباء الكنيسة وإدارتها العليا؛ ممثلة في قداسة البابا البطريرك.
إنها حكمه كبيرة في أن تنأىَ الكنيسة عن أﻱ عمل سياسي، وفي أنها لا تعمل بالتقنية السياسية؛ لكنها فقط تحرص على المواطنة ببُعدها الوطني والقومي والاجتماعي؛ من دون الخوض في البرامج السياسية والانتخابات ومجالس الحُكَّام؛ لأنها تعمل عمل ربها؛ لتكون صوته وأيقونته الحاضرة عبر الزمان، شاهدة لحقِّهِ وعدله وسلام رحمته لجميع الناس؛ من كل الأديان والطبقات.
تصلي وتخدم وتنادﻱ لرفع المظالم والفوارق عن الخليقة كلها، مسامحة المخربين والخونة والمجرمين والمتطاولين، والذين حرقوا كنائسها وسرقوا ممتلكاتها وذبحوا شعبها، معلنة لهم غفران ومسامحة الله، مهتمة بخلاص الإنسان كل الإنسان من أجل حياة أفضل؛ ومن أجل عدم الفشل في غرس وتعليم الأخلاقيات الحسنة لأجل عيش مشترك.
ولعلنا رأينا كيف تسامحت الكنيسة في هذا الزمان مع مَنْ حرقوها وأهانوها وتطاولوا على قادتها؛ ولطخوا جدرانها بالإساءات؛ ودنسوا مقادسها؛ لأنها على خُطَى المسيح تسير وتحيا، لا بأفكاره فقط؛ بل وأيضًا بوصاياه وقدوة حياته، في مسالمة ومصالحة عملية، لا تتوقف عند الشعارات.
كذلك تمنع الكنيسة نهائيًا ترشيح الإكليروس للانتخابات، وتمنع الزجّ بها كمؤسسة إلهية، في أﻱ معارك أو شجار سياسي؛ لأن هذه جميعها لقيصر؛ إذ أن كل رأﻱ سياسي له مؤيدون ومعارضون، وهي إذا انجرَّت إلى هذه الخيارات وانحازت؛ تكون قد ابتعدت عن طبيعتها الاكليسيولوجية Eκκλησiologeia وانزلقت إلى التفتت والتشرذم والضديات، انطلاقًا من أن شعبها لن ينجمع ويتحد إلا في الإيمان الواحد، فكيف إذن هي تكون ضد رغبات وخيارات بعض رعيتها؟!! كذلك لا يحق لمن يأتي السياسة ويشتغل بها؛ إلا أن يتوقع المعارضة والانتقاد والتورط في الاتهام المتبادل، الأمر الذﻱ ترفضه الكنيسة ولا يليق بها.
كل من يلبس عباءةً غير عباءته؛ لا بُد وأن يجد ما لا يسرُّه. ومن يعمل بالسياسة عليه أن يتحمل تبعاتها.. فما من أحد عمل بها؛ إلا واحترقت يداه جراء ذلك... لذلك مَنْ يعمل بالشأن السياسي عليه أن يخلع عنه رداء الدين، ما دام يخوض في اجتهادات غير معصومة؛ مطروحة على الطاولة للاختيارات.
أمَّا المفتونون بالألاعيب السياسية والنجومية؛ عليهم أن يتوقعوا أن لا يعاملهم المعارضون بالطريقة التي يعاملهم بها المريدون؛ لأن أقدامهم انزلقت إلى وَحْل السياسة المرتبطة بالمعارضة في أمور لا قدسية لها... ولا يمكن قبول الاحتماء بالمكانة الدينية، لمن يعمل في الوسط السياسي.. ولا حصانة وراء جدران الدين للاختباء من التراشق المقابل، لكل من يسيِّس الدين ويديِّن السياسة، ظانًّا أنه فوق الخلاف أو محل إجماع عام؛ بل يكون قد غامَرَ بمركزه وكونه محل إجماع منذ أن قرر الخوض في غمار السياسة... ومَنْ يخوض بحر السياسة عليه أن يتوقع أن يَطَاله صخبها وضجيجها؛ بل يزحف انتقاده ويتدرج لا ليناله هو فقط؛ بل يتسبب في الدينونة وعثرة الجميع.
كيف لمن تُطلب الشريعة من أفواههم؛ و للمكرسين تكريسًا أبديًا لأجل العبادة والخدمة والتعليم؛ أن ينزلقوا لسياسة المصالح والتوازنات والتحالفات والتملُّص والنفاق والأغراض والاستنفاذ والموالاة وثقافة الوجْهَيْن؟؟! الأمر لا يستقيم.
مستحيل أن تتواءم الكنيسة مع استقطابات السياسة ومساوماتها وتحالفاتها الجهنمية، ولا مع مناوراتها وطبخاتها وتكتيكاتها؛ وذِممها ورهاناتها وتوليفاتها وتعميتها وشفرات هاويتها؛ لأنه من المعروف أن الحقيقة تتلوَّن في السياسة وتتغير انتهازيًا؛ لكن الكنيسة ثابتة راسخة لا تتبدل، إنها مع الوطن كل الوطن، وهي ليست لحاكم أو لنظام؛ ولا ضالعة في عمل سياسي؛ حتى لا تُغرﻱ الأضداد بالتطاول عليها... معبرة دائمًا عن الحق الإلهي؛ مرتفعة به فوق الجميع، عاملة بالشأن الوطني كله... ليست في ذِمَّة أحد ولا محسوبه على أحد، وولاؤها للوطن جزء لا يتجزأ من إيمانها العقيدﻱ... أصيلة فيه؛ قديمة قدم التاريخ؛ بل ومن قبله، كأقدم مؤسسة فيه، وقائمة من بعد الأهرامات مباشرة كهرم رابع شامخ.
١٥ مايو ٢٠١٤