الأقباط متحدون - روح الضباب
أخر تحديث ٠٤:٤٨ | السبت ١٠ اكتوبر ٢٠١٥ | ٣٠ توت ١٧٣٢ ش | العدد ٣٧٠٩ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

روح الضباب

قصة قصيرة

بقلم - أحمد الخميسي
 تقطعتْ أنفاسه وهو يعدو في الضباب. يجري تنحل الطرق وتذوب جوانبها أمام عينيه وتعلو وتميل. يواصل العدو، ولا شيء سوى صرخات صغيرة من حوله، وفوقه تهرس أذنيه برنين أبيض قاطع. لمح بصيص نور في آخر زقاق عن يمينه. انطلق نحوه وقبل أن يصل إليه تفجر النور أمامه حريقًا هائلاً. تراجع مذعورًا يحمي وجهه بكفيه وركبتاه ترتعدان. تكشفت عمائر من حوله على ضوء ألسنة اللهب. أطلق ساقيه نحوها. انسربْ إلى مدخل أول عمارة صادفته من دون أن يحسب حساب أي شيء. خطفًا ارتقى في العتمة درجات سلم. توقف يلهث أمام باب مصعد حديدي قديم. اندفع يفتحه بقبضة مرتجفة. أضاءت "لامبة" ضعيفة في الكابينة الضيقة. فوجيء بفتاة على أرضية المصعد ظهرها للجدار منكمشة في بلوزة وبنطلون جينز. 
- أنتِ؟ ماذا.. ماذا تفعلين؟ من أنتِ؟
حدجتْ فيه بهلع:
- أنا؟!      
ضمتْ ركبتيها إلى بطنها وطوقتهما بيديها. أغلق الباب بدفعة من كتفه. أدرك أنها على الأرجح لاذت بمصعد العمارة من الصرخات الحادة في الضباب الأزرق. أرهف السمع وهو ينهج إلى الهواء بعيدًا. مازال الصوت يتدفق لكنْ ممطوطًا تكسرت حوافه. عاد إليها ببصره. وجدها تتطلع إليه برجاء ثم قالتْ بابتسامة مغتصبة:
- وأنتَ؟
هز رأسه بالإيجاب.   
سألها وهو يلتقط أنفاسه: 
- كم لك من الوقت هنا؟
- ربما يومين أو ثلاثة. لم أعد قادرة على التذكر.
سدد إليها نظرة ليتحقق ما إن كان الصوت قد خبلها.  
- هل نمتِ خلال ذلك ولو قليلاً؟
مرتْ بأناملها بين شعرها ترسله للخلف:  
ــــــ لا. لم أنم. كانت عقارب الساعة تدور من الثانية عشرة حتى الثانية عشرة، ثم تبدأ دورة جديدة، وأنا لا أدري أليل هذا أم نهار؟
يتساقط رأسي من التعب وما ألبث أن أفيق على صرخة إنسان يُجن في خيالي أو في الواقع.
امتد موج الصوت يلعق حوائط العمارة. لزم الاثنان الصمت تمامًا. كفا عن الإتيان بأية حركة. راحا يتنصتان على الهواء بتوتر. انحسر الصوت مهزومًا. تنفست الصعداء. قالت: 
- الصوت هنا أضعف ما يكون بفضل الجدار الإسمنتي المبنى أمام العمارة.  شادوه ساترًا في حرب من الحروب ، بقي على حاله. 
هز رأسه بانزعاج:      
- في الحرب كل شيء مفهوم. أما الآن فإننا لا نرى العدو ولا نعرف أية حرب نخوض.  
دقتْ الأرض بكفها:
- استرح. أستبقى واقفًا هكذا؟
- لن أمكث طويلاً. ما إن يخفت الصوت حتى أخرج.
ابتسمت بألم: 
- تخرج إلى أين؟ إلى حيث تنزف أذناك وحيدًا على الأسفلت حتى الموت أو الجنون؟ 
- لا يمكن أن نقيم هنا إلى الأبد.    
- أنا سأبقى. لم تعد عندي قوة ولا قدرة.
تنهدتْ:
- لا أحبُ أن أموت مرمية بجوار بالوعة أو على الرصيف مثل طيور ضربتها عاصفة. يفر الكثيرون، أصابعهم تسد آذانهم يهزون رؤوسهم من الألم وفي النهاية يتساقطون بنظرات ذاهلة. 
التفت إليها:
- عفوًا.. ما اسمك؟
- هدى. وأنتَ؟
- حاتم.
خبطتْ الأرض بيدها ثانية: 
- استرح على الأقل حتى تحل لحظة مواتية للخروج. 
ارتمى بجوارها. أسند ظهره إلى الجدار. كان منهكًا للغاية. جرى يومًا كاملاً والآن يشعر أن ساقيه مثل غصنين مكسورين. اختلس نظرة إلى جانب وجهها. رغم الإنهاك البادي عليها إلا أن عينيها الواسعتين وملامحها كانت تشع بجاذبية وجمال خاص. أحست نظرته فلمت طرفي البلوزة المفتوحة عند صدرها.  
قال:
- لم يمر علينا زمن كهذا. لا ندري فيم نحن غارقون. لا ندري من أين أو إلى أين نمضى. 
قالت تلوك الكلمات ببطء:
- يظن الجميع أن الطمأنينة دائمة، كأنما لا مكان للقلق، ثم يحل وقت تقتص فيه الظلال من النور. أتفهمنى؟
أمعن النظر إلى اللمعة الغريبة التي برقت في عينيها يستوثق إن كانت تهذى من قلة النوم والخوف والتعب. 
قالت:
- في الفجر تخفت الأصوات. تصبح عميقة. هل أجد معك سيجارة؟
- لستُ مدخنًا. 
- حاجتي إلى سيجارة تعذبني أشد من الجوع. 
سألها: 
- ألا توجد هنا شقة مفتوحة؟
طرقعتْ بلسانها:
- تؤ. كلها مهجورة وأبوابها مغلقة.
سألتْ: 
- كم من الوقت قضيتَ في الشوارع؟  
- طيلة اليوم. خرجتُ منذ الصباح أبحث عن "أنسولين" لأمي المريضة بالسكر. لم أجد صيدلية واحدة تعمل. كنتُ أجرى والشوارع تبدو لي مجهولة تكرر نفسها، من دون علامة على الحياة، أندفع أقطع مسافة يمينًا وأخرى يسارًا، أتقدم وأتأخر، لأكتشف أني أرجع إلى النقطة ذاتها.
- أما زالت المدينة على حالها؟
- كل شيء على حاله. الشوارع مهجورة، المحلات مغلقة، محطات المترو، الأسواق، نوافذ البيوت، معتمة، حتى الجو لم يعد يعبره طير ولا نحل كأنه مرسوم في لوحة. في الليل تقف القطط على أفاريز الشرفات. تقوس ظهورها وتنفش شعرها وتموء مواءً طويلاً مرعبًا.
أزاحتْ بطرف قدمها فردة صندل مخلوعة:
- أهلكتني الطرق. يومان كاملان كنتُ كلما تخيلتُ أني وضعتُ قدمي على بداية طريق أجدني حيثما كنتُ، إلى أن حط عليَّ اليأس والتعب وشعور عميق بالمرارة. 
سرحتْ ببصرها بعيدًا. بدا أنها انفصلت عما حولها للحظة ثم عادت:
- في البداية لم أصدق شيئًا مما قيل مطلع الربيع الماضي حينما بدأت الأصوات تظهر في مناطق متفرقة. لم أصدق ما كتبته الصحف عن أصوات تتشرخ إلى صرخات صغيرة تشق آذان المارة؛ فينزفون حتى الموت أو الجنون، إلى أن كانت ليلة سمعتُ فيها مع أخي صراخًا من شقة مجاورة يسكنها مهندس شاب بمفرده. استدعينا حارس العمارة وفتحنا الباب بالقوة، فشاهدنا الرجل يركض بملابسه الداخلية من ركن إلى ركن وهو يصرخ. عندما وجدنا أمامه توقف وتطلع إلينا بنظرة ملتاثة وحين هممنا بأن نتقدم نحوه سارع بإلقاء نفسه من نافذة مفتوحة. حينذاك فقط قلتُ لنفسي لابد أن شيئًا ما يحدث. تذكرتُ في تلك الليلة ما جرى في أبريل1968حين ظهرتْ السيدة العذراء بعد الهزيمة فوق كنيسة بمنطقة الزيتون. لمحها أحد الخفر على قبة شديدة الانحدار فراح يهتف "نور فوق القبة". واندفع مئات البشر على صيحته ليروا النور الذي هبط من السماء. 
مط شفته السفلى بأسف:
- لكن ما يحيط بنا الآن ليس نورًا. وأنا صدقتُ بيان وزارة الصحة حين قالت في البداية: إن الجو مشحون بموجات صوتية مجهولة المصدر وإن الوزارة ستضع مانعات صواعق على أسطح البيوت. لكن الشك أخذ يراودني مع تزايد عدد الوفيات من تسع حالات في الشهر الثاني، إلى خمس عشرة، ثم إلى عشرين. ثم تأكدت أن شيئًا غريبًا يحدث عندما توقفت عن الظهور سيارات الإسعاف التي كانت تجيء في الأيام الأولى ويهبط منها الأطباء بملابسهم البيضاء. بعدها أخذت المدينة تقفر وتعتم يومًا بعد يوم. لم تُجدِ التفسيرات الدينية والسياسية والعلمية بشيء، إذ أن أحدًا مازال لا يدري من أين جاءت الصرخات وإلى متى تدوم؟      
- أتسمحين لي أن أمد ساقي لأستريح قليلا؟  
نظرتْ إليه بدهشة وعلى شفتيها بسمة صغيرة: 
- أهذا بيتي لأسمح أو لا أسمح؟
فرد ساقيه بجوار ساقيها. أحس بركبتيه تستريحان.
- أكنتَ تعمل أم تدرس؟
- أعملُ من البيت. أجمع الأخبار من وكالات الأنباء والصحف وأدرجها في موقع على الإنترنت. أجلس ثماني ساعات يوميًا أمام الكمبيوتر إلى أن تحمر عيناي وتتيبس رقبتي.
لمع فضول في عينيها: 
- أية أخبار؟
- كل شيء. بدءًا من فضائح النجوم مرورًا بالاكتشافات العلمية حتى الكوارث الطبيعية والحروب. أقدم للموقع يوميًا مئة وعشرين خبرًا علاوة على تقرير مرة في الأسبوع عن موضوع ما.
- غريب أن يتابع الإنسان الأحداث بوعيه فقط، من ناحية هو في قلب الأحداث تمامًا ومن ناحية هو خارجها تمامًا. يتفرج بالحريق ولا يكتوى بناره كأنه في دار عرض سينمائي.   
- أنتِ محقة. لكنه عمل في نهاية الأمر مثل كل الأعمال. وأنتِ؟ 
قالت:
- أنا طبيبة تخرجت منذ ثلاثة أعوام. أشتغل في مستشفى. كنت أستقبل حالات الولادة وأشهد كل يوم ولادة حياة جديدة، رغم القذارة التي تعم المستشفى ونقص المعدات والأدوية. 
لامست كتفه كتفها بالسهو فشملته رجفة خفيفة. خطر له أن يسألها إن كانت مخطوبة وخشى أن تسيء فهمه وهما محبوسان وحدهما.
قال:   
- في كل الأحوال هى حالة غريبة نادرة. 
عضتْ على شفتها وهي تتنهد:   
- أتظن أنها حالة نادرة؟ لقد سُمعت صرخات كهذه منذ عام 1970 في مدينة برستول البريطانية، ثم في مدينة تاوس المكسيكية، وبعد ذلك في اسكتلندا ونيوزلندا وأمريكا والهند وأيرلندا وغيرها. افترض البعض أن الصوت وافد من كوكب آخر. ورد البعض هذا إلى إصابة من يسمعون الأصوات بمرض نفسي أو خلل سمعي، لكن بفحص كل من سمع الأصوات لم تثبت إصابة أحدهم بأي مرض. أتفهمنى؟     
اختلس نظرة إلى أذنيها ولم ير أثرًا لأي خيط أحمر يشير إلى إصابتها. تذكر فجأة أن بجيبه باكو بسكويت. أخرجه. فتح الورقة. كان بها أربع قطع نصفها مطحون. فردها أمامها. التهمتْ القطع الأربع بسرعة القطط ثم لعقت ذرات البسكويت بلسانها. مدتْ يدها وراء ظهرها. سحبتْ زجاجة مياه معدنية ممتلئة إلى نصفها. دفعتها إليه: 
- أتشربْ؟
ابتلع جرعة كبيرة من فم الزجاجة. تناولتها وشربت الجرعة الأخيرة المتبقية. رجتْ الزجاجة ثم ألقت بها قرب قدميها. قالت:
- أحيانًا يشبع المرء من بسكوتة صغيرة.
قال وهو ينطق اسمها لأول مرة:
- يا هدى أنا تابعت بحكم عملي أحداثًا غريبة وأخرى عنيفة. كان هناك دائمًا تفسير لما يجرى حتى وإن كان غير مقبول. ما جرى في البوسنة والهرسك. فظائع معتقل "أبي غريب" بالعراق ومعتقل جوانتنامو التي وصلت حد اختراع تعذيب الإنسان بمحاكاة الغرق. لكنني لا أجد تفسيرًا لما يحدث حولنا. أذكر أن طفلاً من بين آلاف الأطفال السوريين الذين يموتون من البرد والجوع على الحدود التركية قال لأمه قبل أن يموت "سأقول لربنا كل شيء".
حكتْ بأحد أصابع قدمها جنب قدمها الأخرى. قالت ببطء:
- لا يحب أحد أن يقر بأننا مذنبون، أننا نتخبط في ذنوبنا. أتفهمنى؟
حدقتْ به قائلة:
- أتفهمني؟ كان الناس يقتلون ويعذبون أمامنا ونحن نواصل حياتنا كأن شيئًا لم يكن. أي عذاب عانى منه الرجل الصعيدي الذي ألقى بطفليه الصغيرين في النيل بسوهاج لأنه غير قادر على إطعامهما؟ أي عذاب أحسه رجل قبل أن يشنق نفسه بسبب الجوع على عمود لوحة إعلانات كبيرة على طريق القاهرة الإسماعيلية؟ مع ذلك كنا نتجه إلى أعمالنا، ونأكل ونضحك، ونتبادل البسمات. كنتُ أحيانًا أفكر في المحامي الشاب الذي توفي تحت وطأة التعذيب في قسم شرطة، أحاول أن أتخيل شعوره بوحدته، ويأسه عند الموت من أن يدًا ستمتد إليه. إني أستوحش تمامًا في هذا العالم. أتفهمنى؟
رأى عينيها أشبه بغيمتين محملتين بالدمع. مد يديه. أمسك بكفيها يربت عليهما: 
- عما قريب تخرجين من هنا. تعودين إلى بيتك وعملك. وتنسين كل ذلك، تنسين حتى أننا التقينا ذات ليلة في كابينة ضيقة.
ألقتْ رأسها إلى الوراء:
- لا. لن أنسى. لقد تقاسمنا الخوف والحيرة والهواء القليل، فكيف أنسى؟ أتمنى الآن مادمتَ هنا لو استطعت أن أخطف ساعة واحدة من النوم. 
حشر ذراعه بحذر بين ظهرها وجدار المصعد. أخذ بدنها كله يرتج ببكاء حار. طوق كتفها. همستْ بتعب:
- سامحني. أتمنى لو نمت ولو عشر دقائق. 
- استريحي.
تزحزح ناحيتها قليلاً. وضعتْ رأسها على كتفه. أغمضتْ عينيها. كانت ترتجف بحركة عصبية ومقلتاها تتحركان باضطراب تحت جفنيها، ثم أخذت أنفاسها تنتظم. راح يتأمل وجهها، منهكًا جميلاً. مرت دقيقتان أو ثلاث وهي نائمة شعر خلالها بدفء بدنها الملتصق به. تثاءبت ثم فتحت عينيها. تطلعت إليه بصمت وامتنان. اعتصر كل منهما يد الآخر بقوة.
قال بنصف ابتسامة: 
- لا بد أن نتحين لحظة ونخرج بعد أن أكلنا وشربنا كل ما لدينا!
قالت بوهن:
- كان عشاءً فاخرًا! لكن فكرة الخروج تصيبني بالرعب.
ضم كتفها:
- سنكون معًا. لا تخافي.
سرحتْ بأفكارها بعيدًا:
- بوسعي ألا أخاف، لكن كيف يسعني أن أرى أملاً؟ حين كنتُ طالبة في الجامعة انضممتُ إلى كل جماعة سياسية تأسست. شاركتُ في كل مظاهرة. ولم أجد في أي من ذلك لا طريقًا ولا شيئًا ولا شخصًا ملهمًا. 
قال برجاء:
- البقاء هنا انتحار.
تنهدت:  
- البعض ينتحر. أذكر أنهم احتفلوا من فترة صغيرة بالذكرى العشرين لانتحار مصور شهير من جنوب افريقيا!  
تساءل: 
- أي مصور؟
قالت:
- "كيفن"؟ "كيفن كارتر"؟ عام 1993 التقط  صورة في قرية سودانية لطفلة في الرابعة من عمرها، كانت تزحف ببطء شديد على الأرض هزيلة جائعة إلى مركز لتوزيع الطعام واللبن. سمع "كارتر" أنينها وهي تزحف وغير بعيد عنها نسر كبير يترقب موتها. ظل يتابع المشهد عشرين دقيقة من دون أن يتدخل. أخيرًا طرد النسر والتقط الصورة. بعد عام فاز بأرفع جائزة في التصوير الصحفى عن الصورة. 
قال:
- لكنك تقولين إنه انتحر؟ 
- بعد شهر واحد من نيله الجائزة ركب سيارته متجهًا إلى النهر بمدينة جوهانسبرج. أوصل عادم السيارة بداخلها. أنهى حياته تاركًا خطابًا في منزله كتب فيه "أنا مطارد بذكريات القتل والجثث والغضب والألم والأطفال الجائعين والجرحى".
تنهدت: 
- أرواح المعذبين تطاردنا لصمتنا الطويل. أتفهمنى؟
لزم الصمت مدهوشًا. قال:
- لا يمكن أن يحكموا علينا بالعزلة والموت. سنخرج معًا. سأمشي بجوارك لا أفارقك خطوة بخطوة. إن فقدنا الأمل نكون قد فقدنا كل شيء. صدقيني.
هزتْ رأسها ببطء:
- لا أستطيع يا حاتم. حقيقة لا أستطيع.
- لن أدعك هنا وحدك.
- لن تحملني ساقاي. إن أردتَ أن تغادر فهذا هو الوقت الأنسب. قرب الفجر تهدأ الأصوات.  
نهضتْ فجأة واقفة فارتطمت بجدار المصعد. نهض فورًا. طوق خصرها بذراعيه قبل أن تخر على ركبتيها. وضعتْ فردة صندلها في قدمها.
قالت:    
- الآن هو الوقت الأنسب للانصراف. هيا.
شملته بنظرة طويلة كأنما تحفر وجهه في ذاكرتها.
قالت:
- قد تكون هذه آخر مرة أرى فيها وجهًا إنسانيًا. وأنت تقول إنني قد أنساك؟
اقترب منها فلم يعد يفصله عنها شيء تقريبًا. أحس بالحرارة التي تنبعث من بدنها. ضمها إلى صدره. اندفع يقبلها في عنقها وشفتيها وشعرها وعينيها. فتح باب المصعد الخارجي. قال لها ويده على مقبض الباب:
- لا يمكن لكل ذلك أن يستمر. سنخرج ونجد طريقًا.   
جذبها من يدها يستحثها على التقدم. خرجتْ من المصعد إلى البسطة. هبطتْ ببصرها تتبين موقع قدميها في العتمة. 
رفعتْ إليه عينيها برجاء:
- سنضيع في الضباب ولا أمل ولا طريق؟
- دعينا نحاول.   
سحبتْ كفها من يده: 
- لا تتعجلني إذن.
رفعتْ رأسها لأعلى وقامت بشهيق عميق. خطت خطوة صغيرة إلى الأمام، أعقبتها خطوة ثانية، ثم خطوة ثالثة. هبطا ببطء درجات المدخل. توقفا وراء الساتر الإسمنتي. هبت عليهما نسمة باردة من الشارع الغارق في الضباب. حدجتْ فيه ودمعها يهتز على أهدابها. أمعن النظر إليها. كيف اجتمع لجمالها كل هذا الإنهاك وكل هذا النور؟


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter