بقلم - يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (555)
رصيد الرئيس السيسي في قلوب المصريين يزداد فيما يخص الإعجاب والمؤازرة.. ما نتابعه من تحركاته وكلماته وأسفاره يترك داخل كل منا زهوا كنا قد افتقدناه بأننا مصريون نفخر بانتمائنا لهذه الأرض وهذا البلد ونتطلع باهتمام وإصرار إلي استعادة هيبة وكرامة مصرنا والعمل من أجل بناء الدولة المدنية الحديثة فيها.
لن أسرف في ثناء السيسي ومديحه, فهذا ليس موضوع اليوم, بل علي غير ما يتوقع الكثيرون افتح ملفا مسكوتا عنه يتجمع فيه قدر متزايد من القلق عليه.. قلق مبعثه بعض ما يصدر عنه ويفوق ذلك ما يصدر عن محبيه ومؤيديه من دعوات أراها متسرعة مندفعة بل ومجهضة للمكتسبات التي حققها المصريون عقب ثورتهم في 30 يونية.
إن أعظم مكتسبات الدستور الجديد الذي بين أيدينا والذي أقره الشعب بأغلبية ساحقة -والذي أعتبره أنا أعظم الدساتير المصرية المتعاقبة علي الإطلاق- إعادة التوازن في السلطات بين رئيس الدولة والبرلمان والحكومة, ذلك التوازن في توزيع السلطات والصلاحيات والذي أنهي عهد الجمهورية الرئاسية لتحل محلها الجمهورية الرئاسية البرلمانية, حيث يمارس الشعب عن طريق نوابه المنتخبين ديمقراطية التشريع والحكم وتمتد رقابته من السلطة التنفيذية إلي الرئيس نفسه.. وكانت واحدة من أهم وأخطر المكتسبات التي حققها هذا الدستور إعادة فرض حدود زمنية واضحة علي فترة تولي رئيس الجمهورية السلطة بتجديد فترة أولي مدتها أربع سنوات يمكن تجديدها بالانتخاب لفترة ثانية مساوية لها في المدة وتكون السنوات الثماني هي السقف الزمني لتولي أي رئيس جمهورية الحكم بغض النظر عن درجة شعبيته أو نجاحه أو إعجاب الشعب به.
ولعلني في هذا السياق أجدني مدفوعا لأن أسجل أن وضع حد زمني أقصي لتولي رئيس الجمهورية السلطة ليس الهدف منه حرمان المصريين من رئيس وطني عظيم نجح في قيادة البلاد بحكمة ورؤية ثاقبة وحقق إنجازات ملفتة, إنما يكمن التوجه الدستوري وراء ذلك في حماية المصريين من صلف وغرور وتسلط مثل هذا الرئيس إذا اطمأن إلي استحواذه علي السلطة مددا طويلة, أو بدون حد زمني أقصي -وذلك ما اختبرته مصر من امتداد حكم الرئيس مبارك زهاء واحد وثلاثين عاما (1981-2011).. والأكثر من هذا وذاك يكمن التوجه الدستوري في تحديد فترة حكم الرئيس إلي ضمان تدوير السلطة والتخلص السلمي الهادئ من أي رئيس يأتي مستقبلا ويخفق أثناء حكمه في قيادة البلاد أو يغامر بأمنها وسلامها أو يتقاعس عن حماية الشعب وتحسين أحوال معيشته إلي الأفضل.
إذا يجب أن نعي جيدا أن إعجابنا بالرئيس السيسي سواء كان مبعثه مشاعر التقدير والعرفان لدوره في الانحياز لإرادة المصريين في 30يونية, أو الإعجاب بقيادته مصر بسرعة ملفتة نحو المصالحة مع العالم سياسيا واقتصاديا, أو الانبهار إزاء رؤيته الحاسمة لطرح وإنجاز المشروعات القومية العملاقة -وباكورتها قناة السويس الجديدة-.. إعجابنا بالسيسي المبرر إزاء كل ذلك لا يجب أن يثنينا عن التقاط أية عثرة أو كبوة تصدر عنه أو عن فريق رئاسته, كما لا يجب أن يدعو البعض منا إلي إطلاق صيحات تعديل الدستور من أجل ضمان فترة حكم أطول له!!!
إن حبنا للرئيس السيسي يجب أن يتجلي في الإعجاب العقلاني واليقظة الواعية والإصرار علي احترام الدستور -بل دعوني أقول ببساطة إننا يجب أن نترجم ذلك الحب إلي أن نفعل كل ما يساعد علي نجاحه ويحميه من أن يضل السبيل- وفي هذا الصدد أسوق ملاحظات ثلاث تقلقني وقد يكون هناك أكثر منها:
00 في طريقنا إلي النضج الديمقراطي لم يعد الشعب المصري مكتفيا بدور المتلقي لكل ما يصدر عن الرئاسة دون أن يفهم ويعرف المسببات والمبررات -ولست أقول أن يوافق الشعب بالضرورة علي كل شئ مسبقا وإلا وقفنا وتجمدنا ولم نفعل شيئا- وما حدث الشهر الماضي من مفاجأة المصريين بإقالة حكومة المهندس إبراهيم محلب علي عكس التوقعات كان يعوزه التفسير… صحيح كان هناك قبول واسع لدي المصريين لحتمية إجراء تعديلات وزارية, مع الإبقاء علي الحكومة لأشهر معدودة لحين انتخاب البرلمان ويتم تغييرها بشكل طبيعي بموجب الدستور, لكن لم يكن المصريون مستعدين لمفاجأة العصف بالحكومة برمتها ودون تقديم مبرر لذلك, حتي إنني أشفقت علي رئيسها محلب من تلاطم الشائعات القاسية التي طالته في محاولة تبرير رحيله, ولم تعد الأمور إلي نصابها الصحيح إلا حينما أعاد له الرئيس السيسي تقديره واعتباره وألحقه ضمن مجموعة مساعديه ومستشاريه.. لكن بقي السؤال معلقا دون إجابة: أمال شاله من الأصل ليه؟.. وما فسرلناش عمل كده ليه؟!!
00 قبل الانتخابات البرلمانية وأثناء مرحلة صراع الأحزاب وسيادة ما أطلقت عليه مدرسة المشاغبين علي ساحة الصراعات السياسية والحزبية, أطلق أحد المخضرمين الحزبيين دعوة في منتهي الغرابة لتأسيس ما أسماه حزب الرئيس بهدف مؤازرة رئيس الجمهورية في عمله (!!) والحمد لله أن تلك الدعوة لم تجد استجابة ولم تر النور لأنها كانت تمثل انتكاسة خطيرة في التوازن السياسي وتكافؤ الفرص بين الأحزاب ولا تتفق مع النظام السياسي المصري الذي يحتم وقوف الرئيس علي مسافة متساوية من جميع الأحزاب, فلا يستقيم أن يكون له حزب وحتي إن جاء مستقبلا كمرشح للرئاسة من حزب من الأحزاب عليه أن يتخلي عن انتمائه الحزبي ويعمل رئيسا لكل المصريين دون أن يسقط ويخاطب شريحة منهم بقوله: أهلي وعشيرتي!!!
00 الدعوة المثارة حاليا لتعديل الدستور -قبل حتي أن يبدأ تطبيقه!!- من أجل ضمان فترة حكم أطول للرئيس السيسي تفتقر إلي الحكمة السياسية وتسوق مبررات واهية مؤداها إتاحة فرصة أطول للسيسي لتنفيذ مخططاته لتحديث مصر, وكأننا نعود لحكم الفرد وغياب مؤسسات الدولة, وانعدام التخطيط القومي, بل وجفاف جميع ينابيع تفريخ الشخصيات العاملة والكفاءات وذوي الرؤي بين المصريين بحيث تحل بمصر كارثة يوم تنتهي فترة حكم السيسي (بعد فترة أو فترتين طبقا للدستور) ويجئ يوم يودعه المصريون بكل عرفان وتقدير وحب ويستقبلون من يخلفه في السلطة.
000 ليتنا ما نشب عن الطوق ونغادر منطقة المراهقة السياسية إلي النضج الديمقراطي وإعلاء الشرعية الدستورية.