الأقباط متحدون - في وداع الدكتور محمد المشاط
أخر تحديث ٠٣:٠١ | الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠١٥ | ١٧ توت ١٧٣٢ ش | العدد ٣٦٩٦ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

في وداع الدكتور محمد المشاط

بقلم : د. عبدالخالق حسين

رحل عن عالمنا مساء يوم 19 أيلول/سبتمبر الجاري في فانكوفا/ كندا، بعد مرض عضال لم يمهله طويلاً، الشخصية الوطنية، والدبلوماسي اللامع، الدكتور محمد صادق المشاط، سفير العراق الأسبق في عدد من أهم عواصم دول العالم، كفرنسا والنمسا، وبريطانيا، وأخيراً الولايات المتحدة.

ورغم أنه لم يسعفني الحظ باللقاء به في حياته، إلا إني أعتبره صديقاً عزيزاً عليَّ بفضل مبادرته الكريمة قبل أكثر من عشر سنوات، في التواصل معي عبر البريد الأكتروني أولاً، ثم عبر الهاتف، حيث كان يتابع كتاباتي على الانترنت، ويحرجك في حديثه الدافئ بتواضعه وأدبه الجم، وهو الذي تسنم عدة مناصب وزارية مهمة قبل أن ينخرط في السلك الدبلومسي، فتطورت العلاقة بيننا إلى صداقة حميمة. فكان الرجل كريماً في ثنائه ومشجعاً لي، ومؤيداً لطروحاتي، بل وملهماً لي في الكثير من الأحيان بأفكار قيمة. وكان دائماً هو السباق في تقديم التهاني بمناسبات الأعياد، أو عندما يقرأ مقالاً لي يرغب في مناقشته معي... لذلك جاء نبأ وفاته صدمة مفاجئة ومؤلمة لي.

ولا يخفى أن الرجل، وكأي شخصية وطنية عمل في الشأن العام العراقي، لم يسلم من خصوم، فلا بد وأن يكون هكذا شخصية موضع جدل واختلاف، ولم يكن الراحل المشاط استثناءً، إذ تعرض إلى حملة ظالمة من قبل بعض الكتبة من أيتام النظام البعثي المقبور، لأنه تبرأ من هذا النظام الذي تسبب في تدمير العراق، وخاصة بعد جريمة غزو الكويت. لذلك وبعد هذه الجريمة مباشرة عام 1991، رفض الراحل العودة إلى العراق، واستقال من منصبه كسفير، وطلب اللجوء إلى كندا مع عائلته والى ان وافاه الأجل.

ولحسن الحظ أن الفقيد ترك لنا مذكراته التي نشرها عام 2008، وأتحفني بنسختين، وكنت قد كتبت مراجعة إيجابية عنها(*)، وهي غنية بالمعلومات المفيدة عن النظام، ودوره في الأحداث، ومعاناته من عقليات الحزبيين. و هذه المذكرات تعتبر مصدراً مهماً للباحثين في الشأن العام العراقي، خاصة وأن قيمة المذكرات عادة تتناسب مع مكانة ومؤهلات كاتبها، ودوره في الأحداث التاريخية التي يكتب عنها، والمناصب التي تبوأها في أداء مهامه في تلك الفترة الساخنة. لذلك تتخذ مذكرات الراحل المشاط أهمية خاصة، ولأسباب عديدة لا يمكن الشك في صدقيتها، فهي في رأيي تعتبر شهادة موثقة للتاريخ عن فترة حرجة مر بها العراق تركت آثارها المدمرة إلى مستقبل غير معلوم.

فالرجل مؤهل للإدلاء بمثل هذه الشهادة المهمة من عدة نواحي، فهو لم يكن شاهد عيان على الأحداث الساخنة فحسب، بل وكان مشاركاً فيها، وفي قلب العاصفة، وذلك لعلاقته المباشرة بحزب البعث الذي كان عضواً فيه لثلاثين عاماً، والمسؤوليات التي أنيطت به، والمناصب العالية التي تبوأها لأكثر من عشرين عاماً إبان حكم البعث، خاصة وكان الراحل يتمتع بقاعدة ثقافية عريضة،  ومؤهلات أكاديمية متنوعة، وخبرة عملية واسعة، فهو حاصل على شهادة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق/جامعة بغداد، وبكالوريوس وماجستير في علم الإجرام (Criminology) من جامعة كاليفورنيا/أمريكا، وشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مريلاند/أمريكا. أما خبرته العملية، فقد تدرج الدكتور المشاط في السلم الوظيفي وحسب مراحل تحصيله العلمي، ابتداءً من مدير البعثات العام، و أستاذ جامعي، ووكيل وزارة، ثم وزير التعليم العالي، ورئيساً لجامعة الموصل لسبع سنوات، ومن ثم سفيراً لخمسة عشر عاماً، ممثلاً لبلاده في أهم عواصم الدول الغربية مثل، باريس مرتين، وفيينا، ولندن، وأخيراً، وفي أحلك فترة مر بها العراق، في واشنطن إبان غزو الكويت وما تلاه من حرب تدمير العراق.

لقد تم نقل الدكتور المشاط كسفير من لندن إلى العاصمة الأمريكية في أواسط شهر آب (أغسطس) 1989، في فترة بدء تحسن العلاقات بين أمريكا والعراق. وكما جاء في مذكراته، أنه يقتضي العرف المتبع في حالة نقل سفير من عاصمة إلى عاصمة دولة أخرى أن يعود السفير إلى بغداد لتلقي التعليمات من وزير الخارجية والمسؤولين الآخرين عن طبيعة مهامه في المكان الجديد. ولما عاد إلى بغداد والتقى طارق عزيز، وزير الخارجية آنذاك، ونزار حمدون، وكيل الوزير، فوجئ بتعليمات لم يكن يتوقعها فيما يتعلق بسياسة الدولة والحزب. فيقول أن أهم سبب دفعه للإنتماء لحزب البعث هو شعاراته ومبادئه المعلنة، وخاصة فيما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية التي هي قضية العرب المركزية. ولكن في هذا اللقاء بطارق عزيز، أصيب بصدمة لم يتوقعها، فيقول الدكتور المشاط : "ولكن الذي لفت نظري، وبشكل لم أكن أتوقع قوله بصريح العبارة، بما معناه بضرورة الابتعاد عن التعرض أو انتقاد أو مهاجمة إسرائيل، منتهياً بالقول إن موقفنا واضح من القضية الفلسطينية، إذ إننا نقبل بما تقبله منظمة التحرير الفلسطينية." وهنا يصاب الكاتب بخيبة أمل فيضيف قائلاً: " لقد أدهشني هذا القول من وزير الخارجية وعضو القيادة القطرية، إذ أن أساس التحاقي بحزب البعث كان إعجابي بأحد المبادئ الأساسية في أدبيات الحزب، وهي اعتبار القضية الفلسطينية العمود الفقري وأساس القضية العربية. ولكنني نجحت في إخفاء دهشتي، حيث سألته عن بعض الأمور الروتينية المتعلقة بواشنطن،...الخ"

ومن ثم التقى بوكيل الوزير، نزار حمدون، الذي كان قد عمل سفيراً في واشنطن لعدة سنوات، فيقول
أن حمدون قدم له قائمة بأسماء شخصيات قال عنها مهمة يجب تعميق العلاقة معها. ولدهشة الدكتور المشاط، أنه أكتشف فيما بعد أن بعض هذه الشخصيات كانوا من عتاة الداعمين لإسرائيل. وقبل انتهاء الاجتماع قال بالحرف الواحد: "يا دكتور أرجو أن تهتم بقضايانا العراقية، وعليك أن لا تتحرش بإسرائيل أو تتعرض لها لأننا في حاجة إلى أمريكا، ...".

ومن هنا نعرف أن كل ذاك الضجيج الذي أثاره حزب البعث حول القضية الفلسطينية، كان مصطنعاً ومجرد ضحك على الذقون، ومتاجرة بمأساة الشعب الفلسطيني، واستغلالها للتسلط على رقاب الشعب العراقي واضطهاده، وتبديد ثرواته في عسكرة البلاد، بحجة تحرير الأرض من النهر إلى البحر!! وهي ذات الذريعة التي تمسكت بها غالبية الحكومات العربية لبقائها في السلطة، ومحاربة الديمقراطية واضطهاد شعوبها، رافعة الشعار الديماغوجي الزائف (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).

ولما استلم الراحل مهام عمله كسفير في واشنطن، بدأت حملة ضد الحكومة العراقية لتجاوزاتها الفظة على حقوق الإنسان، وحملات إبادة الجنس، مثل الأنفال وحلبجة وغيرهما، وكان على السفير بحكم عمله، أن يدافع عن سمعة الحكومة التي يمثلها، لذا وجد نفسه في موقف حرج، لأنه كان عليه أن يدافع عن سياسة لا يؤمن بها. فمن الواضح أنه كان يعرف في قرارة نفسه أنه يدافع عن قضية باطلة تتنافى مع ضميره، فيقول بهذا الصدد: "ولكن يجب أن أقولها صراحة إن موقفي الدفاعي كان كثيراً ما يحز في قلبي، إذ كان لا بد من تكذيب ما هو واقع فعلاً في العراق، أي إنني لم أكن مؤمناً بصدق ما أتحدث به. وكنت أقاسي من هذا الأمر، ولكن لم تكن لدي أية حيلة سوى السكوت أو محاولة تفسير ما لا أؤمن به، خاصة فيما يتعلق باستعمال العراق الأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد، وخروقات حقوق الإنسان المستمرة. وبالطبع فإني لم أكن مرتاحاً أبداً في الإستمرار في استعمال ما تورده لي وزارة الخارجية من توجيهات كمادة دفاعية في مواجهة الحملات الاعلامية."

إن معظم مذكرات الفقيد تخص الأحداث التي وقعت بعد قيام صدام حسين بجريمة غزو الكويت في 2/8/1990، وزج العراق في أحلك فترة في تاريخه. وهي يوميات التهيئة للحرب التدميرية للعراق، ومساعي السفير لدرأ هذه المخاطر، ونشاطاته في واشنطن في هذا الخصوص، والنتائج التي توصل إليها، ومفادها أن الغرض من هذه الحرب هو تدمير العراق وإعادته إلى مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، وليس تحرير الكويت فقط.

وقد حاول إيصال هذه الرسالة إلى القيادة العراقية ولكن دون جدوى. فيقول أنه  قبل وقوع حرب تحرير الكويت بأسابيع، دُعي مع بقية السفراء العراقيين في دول أعضاء مجلس الأمن الدولي إلى بغداد وتم اللقاء في الخارجية العراقية يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 1990، حيث افتتح طارق عزيز، وزير الخارجية، الاجتماع بالترحيب ثم قال ما نصه: " نحن طلبنا قدومكم إلى بغداد لكي تسمعوا منا، أي إننا لم نستدعكم لكي نسمع منكم عن الأزمة الحالية". ويعلق الراحل الدكتور المشاط : "لقد وقع قوله عندي وقع الصاعقة، إذ إنني كنت أتأمل أن أعرض حصيلة ما حصلت عليه من معلومات إنطلاقاً من واجبي كسفير، إضافة إلى تحليلي الشخصي للحقائق التي حصلت عليها، والتي كنت قد كتبت فيها في السابق إلى الخارجية". ورغم تحذيرات طارق عزيز، فلما قابل صدام السفراء كان المرحوم المشاط هو الوحيد الذي جازف وقال لصدام: "لا للحرب إما ننسحب من الكويت او يدمر العراق".

ومن هذه المذكرات، نعرف أنه كان لدى الراحل المزيد من المعلومات الجديرة بالنشر، وقد وعد بأنه سيتبع مذكراته بكتاب آخر يعمل على تأليفه ونشره مستقبلاً، ولكن مع الأسف الشديد لم يصدر هذا الكتاب، إلى أن وافاه الأجل في بلاد الغربة.
تعازينا الحارة لعائلته الكريمة و ذويه وأصدقائه ولأنفسنا... ولفقيدنا الذكر الطيب.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter