د.نادر نور الدين محمد
من أساسيات تخصيص الدولة لأراضي مشروعات استصلاح الأراضي أن نعلم أنها تخصص مياها وطاقة للمستثمر قبل أن تخصص الأرض القابلة للزراعة، ومن هنا فإن استكشاف المياها الجوفية وتحديد نوعيتها وملوحتها وصلاحيتها للإنتاج الزراعي ثم تقدير مخزونها لمستقبل الزراعة لمدد تتراوح بين 100و150 عاما قادمة للمساحة المحددة حتى يكون لها جدواها الإقتصادية واطمئنان المستثمر على ضمان زراعاته لثلاثة أجيال قادمة، علينا أن نعي جيدا أن الزراعة هي المستنزف الأول للمياه بمتوسط عالمي 70% ومحلي 85% من إجمال مواردنا المائية المحدودة، ولأهميتها القصوى في توفير الغذاء بسعر رخيص للعامة لذلك لا يزيد العائد من المترالمكعب من المياه على خمسة جنيهات مقابل 50 جنيها للقطاع الصناعي و 500 جنيه للقطاع السياحي والفندقي، يمكن القول إن الزراعة تمثل أستخداما كثيفا للمياه مقابل عائد قليل ولذلك فإنها قطاع منخفض الربحية وقليل الاستيعاب للعمالة، الأمر الثاني في مشروعات استصلاح الأراضي هو توفير مصادر الطاقة من الكهرباء والمحروقات من أجل رفع المياه من أعماق الآبار والإنارة ونقل المحصول وتوفير المحروقات اللازمة لإدارة آلات وماكينات الزراعة من حرث وزراعة وحصاد ودراس وتعبئة وغيرها، وأخيرا تأتي الأرض بخصوبتها ومناخها وعمقها وملوحتها وقابليتها للزراعة المطلقة أو المحدودة والمقننة إما بالمُناخ السائد أو بنوع التربة.
نتيجة لذلك أطلقت الأمم المتحدة مصطلح ملتزمة ثلاثية المياه والطاقة والغذاء وأصبح الحديث عن أحدها دون الآخرين غير علمي، فالمياه يستنزف منها 70% في إنتاج الغذاء وتسهم في إنتاج 15% من الكهرباء عبر سدود الأنهار وإنتاج الطاقة الكهرومائية، وفي الطاقة يحتاج استخراج البترول والفحم والغاز إلى كميات هائلة من المياه بل إن إنتاج الكهرباء من المفاعلات النووية يستهلك مابين 75 إلى 450 مترا مكعبا من المياه لإنتاج الكيلوات ساعة ولذلك تقام بالقرب من البحار والسواحل وبالمثل تحتاجها المناجم وجميع أنواع محطات توليد الكهرباء، يسهم الغذاء فيما بين 33و50% من إجمالي مخلفات العالم كما يسهم في إنتاج الوقود الحيوي والمخلفات المستخدمة في المحروقات وإنتاج الكهرباء، بينما تسهم الطاقة في تحلية مياه البحار التي يحتاج إنتاج المتر المكعب من المياه المحلاة 2.5 كيلووات/ساعة من الكهرباء، وكذا في معالجة مياه المخلفات وتدويرها وسحب المياه من الآبار وضخها في قنوات الري كما تحتاجها محطات تنقية مياه الشرب.
الأمر المهم في استصلاح الأراضي أن موضوع الاستصلاح المطلق قد ولى زمنه والاستصلاح حاليا يتم بغرض زراعة محصول أو محاصيل بعينها أو لنوعية محددة مثل محاصيل وفاكهة التصدير والتي تتحمل إنفاق مبالغ أكبر من تلك الأراضي المخصصة للمحاصيل التقليدية قليلة الربحية من قمح وشعير وخضراوات وغيرها، ثم يأتي بعد ذلك تحديد صلاحية أراضي كل منطقة مناخية في مصر لزراعة الحاصلات المختلفة وتوصيات الدولة للمستثمر بالحاصلات الأكثر ربحية أو بتلك التي تجود في مثل هذه الأراضي وتحت هذا المناخ حتى لا نكرر فشل وتجارب توشكي لمعرفة المحصول المناسب، هذا الأمر يتطلب أن يسبق الفكر العمل وربما يتطلب تسويق المحاصيل قبل زراعتها وقبل استصلاح أراضيها وأيضا استقطاب المستثمرين أو التخصيص للإستصلاح الحكومي.
فمثلا إذا علمت مصر أن دولا جارة مثل المملكة العربية السعودية شرقا وليبيا غربا من أكبر دول العالم استيرادا للشعير وبحجم يتجاوز 4 ملايين طن سنويا فهذا الأمر قد يتطلب اتفاقا مسبقا معهما لزراعة الشعير وتصديره إليهما بدلا من استيراده من بلاد بعيدة تكلفهما نقلا بحريا اوتفريغا وتشهيلات، أو عرض الأمر على مستثمريهما أو حكوماتهما للاستثمار الزراعي في مصر لزراعة هذا المحصول وهو بالمناسبة قليل الاستهلاك للمياه ويمكث في الأرض فترة أقل بشهر على الأقل من القمح وسعره أعلي عالميا من أسعار القمح هذا الأمر يتكرر مع راغبي زراعة محصول الذرة الصفراء للأعلاف والتي تستوردها جميع الدول العربية ومعها حاصلات الزيوت من عباد شمس وفول صويا أو البقوليات أو السكر المستخرج من البنجر الأقل استهلاكا من القصب للمياه والذي يتحمل ضعف خصوبة التربة أو ملوحتها أو قربها من البحار وغيرها ويعطي محصولا اقتصاديا، تأتي بعد ذلك مشروعات الثروة الداجنة وتربية الأغنام في الواحات وسيوة وحلايب وشلاتين وسيناء وغيرها، كما يأتي معها مشروعات الصناعات الزراعية لتجميد وتعبئة الخضراوات الطازجة وإنتاج صلصة الطماطم والدواجن واللحوم سابقة التجهيز ونصف المطهية وجميعها تزيد من العائد الزراعي وتحسن القيمة المضافة من الزراعة، يدخل مع هذه الاستثمارات الأراضي الصحراوية الحارة في الفرافرة وتوشكي والتي يكون الاستغلال الأمثل لأراضيها وآبارها المالحة في إنتاج الوقود الحيوي من السولار والإيثانول من أشجار الجاتروفا والبونجاميا وبذور اللفت وغيرها الكثير واستخدام مخلفات محصولي البطاطس والبطاطا وجميع الحاصلات النشوية في إنتاج الإيثانول الحيوي سواء كوقود أو للاستخدامات الطبية والصناعية.
وفي النهاية نوضح أن استصلاح الأراضي يتطلب وضوح الرؤية للغرض من الإستصلاح إما للاستثمار الحكومي أو لطرحه للمستثمرين أو الشباب، ثم الغرض من الاستصلاح زيادة الأمن الغذائي أو التصديري أو التصنيعي أو إقامة مجتمعات عمرانية وإعادة توزيع السكان على مساحة أكبر من المعمور المصري وهنا تكون استثمارات حكومية فقط لا يمكن فرضها على المستثمرين أو الشباب، وألا يكون الاستصلاح بأي ثمن بحفر آبار عميقة يتجاوز عمقها الألف متر وتكون تكاليف استحراج المياه منها أعلى من عائد المتر المكعب من المياه في الزراعة، ثم في النهاية اليقين بأن المياه في مصر رأسمال ثمين ونادر وينبغي استثماره استثمارا أمثل، والحصول منه على أعلى عائد لأن نقطة المياه هي الحياة.