بقلم: ليديا يؤانس
يُسرع الخُطي فتزداد دقات قلبه وكأنها تتسابق مع سرعة الرياح، كأنه خرج لتوه من كهف الزمن السحيق ليلحق بركب الحياة، رائحتها تُزكم أنفه، دائماً رائحة عطرها كانت مصدر جذب لإلتقاء جسديهما، إقترب أكثر من الشارع الذي يقطن به، أنه لتوه عائداً من جبهة الحرب بعد شهور قضاها وسط الرمال، والمعدات الحربية، ورائحة دم القتلي، ومنظر الجثث والأشلاء التي تُدمي القلوب وتُدمع العيون.
أخيراً وصل للشارع الذى يقطن به، خُيل إليه أن محبوبته تجري نحوه فاتحه ذراعيها لإستقباله بعد طول غياب، رائحتها تتغلغل في كل كيانه، ألهذا الحد إشتياقه لها جعله يشعر بعبق وجودها حوله، لم تسعفه خُطاه فبدأ يجري لكي يصل بسرعة إلي منزله الكائن بمدينة "ليننغراد" التي أصبحت تُعرف الآن باسم سان بطرسبرج.
أثناء الجري وقعت عينيه علي شاحنة ضخمة منظرها غريب تقف علي ناصية الشارع الذي يقطن به، إستطلع الأمر، الشاحنة ملآنة للسقف بجثث، فقط جثث وأشلاء مرصوصة بشكل عشوائي، ليس هُناك وقت لعمل مراسم جنازات، مُعظم القتلي زويهم أيضاً قُتلوا، لقد قامت قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقصف هذه المدينة كما العديد من المدن في روسيا، الخسائر فادحة، والقتلي في كل مكان، جمعوا الجُثث في الشاحنة تمهيداً لتدبير مقبرة جماعية في ضاحية المدينة لدفنهم.
نُغِز في قلبه، دَمعت عيناه، جرى علي منزله للإطمئنان علي زوجته، في لحظة وهو يحول وجهه عن الشاحنة لمح فردة حذاء في قدم إحدي الجُثث، الحذاء يشبه حذاء كان قد إشتراه لزوجته، تسمر في مكانه، قدماه لا تستطيعان حمله، ربما تكون زوجته وربما واحدة أخري، الجُثث فوق بعضها وما يراه فقط قدم إمرأة!
طلب أن يتأكد من صاحبة هذا الحذاء، للأسف كانت زوجته، قرر ألا يدعها تُدفن في مقبرة جماعية، سمحوا له بأخذ الجُثه، أثناء نقل الجُثه إكتشف، أنها تتنفس ببطء وصعوبة، أنها لم تمت ومازالت علي قيد الحياة، نقلها إلي المستشفي وإتكتب لها عمر من جديد.
في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1952، أي بعد مرور عامين علي هذا الحادث، حملت "ماريا إيفاتوفا" ووضعت طفلاً جميلاً، أعطوه اسم "فلاديمير بوتين" الذي سيذكره التاريخ بأنه كان رئيس واحدة من أعظم دول العالم وهي روسيا.
معادلة صعبة .. البعض مزودها حبتين والبعض منقصها حبتين.
البعض مُتخيل أنه أهم شي في الكون، بدونه الدنيا ستقف، والكون مُش قد مقاسه علي حسب أغنية سعاد حسني.
البعض مُتخيل أنه لا يساوي شي، وإن وجوده زي عدمه، وخصوصاً إذا كان الشخص يعاني علي إحدي المستويات الجسدية أو الإجتماعية أو النفسيهً، تجد الشخص عنده شعور بالدونية وعدم الثقة في خالقه وفي نفسه.
سواء أكنت مزودها أو منقصها، من الآخر كده بما انك شرفت الحياة، فأنت لك رسالة، إفرز حياتك ولا تدفن شيئاً لأنك تعتقد أنه ميت، أو غير مثمر في حياتك، ثق في خالقك وفي نفسك، أنت موجود في هذه الحياة لأن لك دور ودور مهم جداً قد لا تستوعبه أنت وغيرك لأن فكر الله غير أفكاركم.
آية في (تكوين 31:1) تقول "ورأى الله كل ما عمله حسن جداً..." أنا بحبها جداً وبالتأكيد بحب كل كلمة يقولها الله، أنتو عارفين بحبها ليه؟
علشان أخذها حجه وأحاجج ربنا بيها، عندما أجد بعقلي البشري المحدود أن الله خلق شيئاُ لا يروق لي، وقد يكون أيضاً مصدر سخرية وتهكم من بعض الناس، ولكن سرعان ما يُخزينا الله ويًبين لنا حكمته في أن ما عمله حسن جداً ولكن نحن لا نفهم!
في يوم شاهدت شاباً بدون أطرافه الأربع، أي الذراعين والرجلين، تأثرت جداً ووضعت نفسي في مكان هذا الشخص وأحسست بقسوة وصعوبة حياته، رفعت عيني إليه مُتسائلة، هل هذا عمل حسن جداُ؟
تعالوا نشوف ربنا عمل إيه مع نيك فيوتتش، أنه الإبن الأكبر لعائلة صربية ولد في سنة 1982 في بريزين باستراليا، ولد مُشوهاً، فاقد الذراعين والرجلين باستثناء قدم صغيرة في أسفل جزعه، بالتأكيد أبواه صُدما عند مولده ورؤيته هكذا، ربما فكرا في التخلص منه، كالكثيرين الذين يتخلصون من أطفالهم لكي يتخلصوا من مسئولية تربية أطفال معوقين، وأيضاً لكي يرحموا أطفالهم من حياة قاسية تعيسة، ولكن البعض مثل أسرة نيك يفرزون ويقررون التمسك بهذا الطفل الذي يعتبر كالميت، واثقين في أن الرب هو الذى يُكمل كل نقص وكما تقول كلمته يُخرج من الجافي حلاوة.
بالتأكيد نيك فيوتتش، الذى اسمه الحقيقي نيكولاس جيمس فيوتتش حياته كانت ومازالت صعبة قاسية، أكيد تعرض لحالات من الإحباط والإكتئاب والوحده والخوف وفكر في الإنتحار اكثر من مرة، ولكن الله سمح بنقطة تحول كبيرة في حياته بعدما تعلم الكتابه باستخدام أصابع قدمه الصغيرة وتعلم استخدام الحاسوب، ودرس بالجامعة، وتعلم مهارات مختلفة أدخلت الثقة والبهجة إلي حياته، في النهاية آمن بحتمية تعايشه مع إعاقته.
في سن 17 سنة أسس منظمة غير ربحية اسمها "الحياة بدون أطراف" ومن خلالها قدم في أماكن مختلفة من العالم وعظات لتشجيع كل من حوله سواء المعاقين أو الأصحاء.
نيك أراد أن يقول بأن الله أعطاني الأمل والحياة من جديد، لقد عرفت الآن الهدف من وجودي في هذه الحياة، كما عرفت لماذا سمح الله بالإعاقة التي أنا عليها الآن.
قد تكون أنت أيضاً تعاني من إعاقة بأي شكل من الأشكال، ولكن أسوأ ما في الأمر هي معاناتك وحصرتك علي نفسك فتصرخ في الآخرين لماذا أنا؟
قد تعاتبة أو تنسي نفسك وتصرخ في وجهه فين عدلك لماذا خلقتني كذلك؟
هل خلقتني في ساعة كنت فيها مُتعكر المزاج؟
هل خلقتني كِمالة عدد؟
أنا في نظر نفسي ونظر الناس إنسان ميت، بل الإنسان الميت أفضل حالاً مني، لأنه ذهب إلي قبره ونام في سبات عميق، لا يُزعج الآخرين لكي يقدموا له يد المساعدة لكي يحيا مثلهم، أما أنا فأصبحت سبباً لشقاء نفسي والآخرين من حولي!
هذه وجهة نظرك أنت ووجهة نظر العالم، لأنكم لا تستطيعون فرز الحي من الميت، أنتم تقيسون بمقاييس العالم أما الله فمقاييسه مختلفة عن البشر.
لما الرب طلب من صموئيل النبي أن يمسح أحد أبناء يسي البيتلحمي ليصير ملكاً علي إسرائيل، قال الرب لصموئيل لا تنظر إلي منظره وطول قامته، لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر إلي العينين وأما الرب فإنه ينظر إلي القلب.
إنت عارف ربنا إختار مين من أبناء يسي، إختار داود الأصغر والأضعف ولم يختر الطويل العريض القوي الكبير.
ربما إعاقتك هذه ستُصبح سر سعادتك وقوتك، إفرز حياتك وركز علي الجزء اللي انت مُعتبره ضعيف أو ميت وسوف تحصل علي نتائج مثيرة رائعة.
في الأيام القليلة الماضية أخذت جثة الطفل السوري إيلان كردي المُسجاة علي رمال الشاطئ بتركيا، ورفعت عيني إليه مُتسائلة، هل هذا عمل حسن جداُ؟
هل أنت خلقت هذا الطفل البرئ الجميل لكي تنتهي حياته بهذه المأساة، جاءني صدي الصوت من عمق البحر وهدير الموج، لكي تصحي الضمائر الميتة، بل عليكم أن تفرزوا أكثر وأكثر وتدققوا أكثر وأكثر، ليس كل من رفع صوته بالبكاء والنحيب والتصوير الإعلامي عنده ضمير حي، ربما مازالت الضمائر مائته وماهذا إلا شو إعلامي!
في النهاية أنت هُنا في هذه الحياة لأنهُ لك رسالة، ولك دور في الحياة، لم يخلقك الله إعتباطاً، أو كِمالة عدد، ولكن لك دور مُهم جداً في الحياة مهما إن كنت مُعاقاً أو مريضاً أو مرفوضاً من الآخرين، وأيضاً مهما إن كان عُمرك قصيراً أو طويلاً.
ليست هناك نهاية سيئة لحياة الإنسان لإن الله يحول السئ للأفضل سواء لك أو للآخرين الذين ستكون أنت سبب بركة لهم.