لا يمكن أن نقف على مسارات المستقبل السياسى فى مصر من دون فحص خيارات وانحيازات ومواقف أربعة أطراف متشابكة عناقاً فى أمور، ومشتبكة افتراقاً فى أخرى، تتسطر فوق خريطة المشهد العام، وهى: السلطة السياسية، والقوى الثورية والحزبية المدنية، وجماعة الإخوان وأتباعها وجماعات التيار الدينى المتسلف، وموقف القاعدة الشعبية العريضة، دون أن ننسى فى الوقت نفسه موقف الأطراف الخارجية المهتمة بحال مصر ومستقبلها، دفاعاً عن مصالحها المستقرة منذ سنين طويلة.
إن السلطة فى مصر مخيَّرة الآن بين الحفاظ على النظام من خلال الجهد الأمنى الفائق تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الإرهاب» وبين الانتصار لثورة 25 يناير 2011 بترجمة شعاراتها ومبادئها فى سياسات عامة واضحة المعالم، سواء كان هذا الانتصار فورياً، أو من خلال عملية إصلاح متدرج تصحِّح تباعاً الخلل الهيكلى الذى يعانى منه النظام السياسى.
أما القوى الثورية فأمامها ثلاث طرق: الأولى، أن تستمر فى التحالف مع السلطة الراهنة، أو تصمت على سياساتها حتى إن لم ترقْ لها خوفاً على الدولة المعرضة لخطر الإرهاب، وإدراكاً منها أن هذه السلطة المنبثقة من «ثورة» 30 يونيو 2013 فى حاجة دائمة إلى غطاء سياسى قوى. والثانية هى أن تعود القوى الثورية إلى الميادين فى مظاهرات احتجاجية جديدة قد تستغلها جماعة الإخوان المسلمين فى الضغط على أهل الحكم؛ أما الثالثة فأن تؤمن بأن الطريق الآمن لإثبات وجودها وتحقيق أهدافها هو التجهيز للمنافسة القوية فى الانتخابات البرلمانية، ثم تجهيز مرشح للرئاسة فى الاستحقاق المقبل المقرر فى عام 2018 والالتفاف حوله. ويكون عليها فى هذه الحالة أن تطرح بدائل راسخة فى المجالات كافة، وتقنع القطاع الأكبر من الرأى العام بأنها تشكل حلاً ناجزاً، أو وعداً جديداً، لجموع المصريين.
وأمام جماعة «الإخوان المسلمين»، التى أعلنت الحكومة المصرية أنها إرهابية، ثلاثة خيارات أيضاً: الأول إلى الأمام، ويعنى قيام الجماعة بمراجعة أفكارها وأدوارها وإبداء الاعتذار للمصريين عما بدر منها من فشل فى الحكم وعنف ضد المجتمع واستهداف لمؤسسات الدولة. والثانى إلى الخلف، وهو الاستمرار فى المواجهة العنيفة، المفتوحة والسافرة، ضد الدولة والمجتمع، وهو خيار انتحارى من دون شك بالنسبة للإخوان الذين لا قِبل لهم ولا طاقة بإمكانات دولة قديمة عريقة راسخة البنيان، لاسيما أن الأغلبية الكاسحة من الشعب تقف مع السلطة فى مثل هذه المواجهة. والثالث المراوحة فى المكان، وهو خيار تحايلى تقوم الجماعة بمقتضاه بتعويم جزء صغير منها فى الحياة السياسية والاجتماعية، محاولةً أن تحافظ على المشروعية والشرعية التى اكتسبتها بعد ثورة 25 يناير مع بقاء الجزء الأكبر منها غاطسا يتعاون مع الجماعات التكفيرية والتنظيمات الإرهابية، بغية إنهاك نظام الحكم الحالى.
وأخيراً تأتى القاعدة الشعبية العريضة، وهى الرقم الأهم فى المعادلة السياسية برمتها، لتتخير بين الاستقرار والرضا بما هو قائم أياً كان، أو الإصرار على استكمال الثورة التى لا تزال ناقصة حتى الآن، سواء كان هذا الاستكمال بالاحتجاج المباشر فى الشوارع، أو بالوقوف ساعات أمام طوابير الانتخابات، لاختيار وجوه أو برامج ثورية، حال تبلورها واكتمالها.
وحاصل تفاعل هذه الخيارات التى تتلاقى فى بعض النقاط وتتجافى فى بعضها الآخر هو الذى سيشكل أبعاد المستقبل القريب، وربما المتوسط، فى مصر، مع الأخذ فى الاعتبار دور القوى الإقليمية والدولية التى ثبت أنها تؤثر، إيجابياً وسلبياً، فى الوضع الداخلى المصرى، لاسيما فى الأزمات العاصفة التى تواجه الدولة، وتخلق ذرائع أمام التدخل الدولى، أو تدفع بعض الأطراف للاستعانة بطرف خارجى مثلما تفعل جماعة الإخوان،، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التى قامت ببناء نمط سياسات مع مصر، توظف كافة العناصر لخدمته.
وهنا نكون أمام مسارين أساسيين على النحو التالى:
1 ـ مدى وقوف القاعدة الشعبية إلى جانب السلطة الراهنة، سواء كان وقوفا اضطراريا خوفا على الدولة أو لغياب البديل أو نكاية فى جماعة الإخوان، أو تخليها تدريجيا عن السلطة إما بفعل اللامبالاة أو حال ظهور بوادر بديل سياسى محدد الملامح ومعين القوام وراسخ الأقدام، أو رغبة فى خلق هذا البديل بأى طريقة وأى ثمن، أو نكاية فى النظام الحاكم.
2 ـ مدى قدرة الأطراف المتنافسة على جذب هذه القاعدة الشعبية إلى جانبها، وإقناعها بالتعاطف معها أولا، ثم الانضمام إليها ثانيا. وهذه القدرة محددة بأمرين، الأول هو المدة التى يستغرقها هذا الإقناع، ثم العمق الاجتماعى الذى يصل إليه.
وهذان المساران يتوقف تفعيلهما على عدة أمور متغيرة، هى:
أ ـ الإمكانيات المتاحة فى تعبئة الجماهير، ومدى القدرة على أن تظل هذه التعبئة فترة طويلة، وتحقق الاندفاع نحو الأهداف التى حددها المعبئون.
ب ـ الظروف القائمة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا والتى من الممكن أن تحدث تغييرا متفاوتا فى التناطح أو الصراع بين الأطراف الأساسية الفاعلة فى المشهد السياسى.
ج ـ مستوى واتجاه التفاعلات بين هذه الأطراف، وتنقلها بين التوافق والتصادم أو التهدئة أو التواطؤ المتبادل.
د ـ حدوث أزمات طارئة حادة تحدث تغييرا جوهريا فى الوضع السياسى القائم، وتقود إلى خلق عامل حاسم يؤدى إلى تعديل فى الأوزان النسبية للأطراف الفاعلة فى الساحة الوطنية.
نقلا عن المصري اليوم