لم تكن تحليلات المراقبين طوال العامين الماضيين بعيدة عن أرض الواقع، بشأن تصرفات الغرب لصنع توازنات بين الأزمتين السورية والأوكرانية. فقد بادرت فرنسا صراحة بطرح معادلة، حاولت الدول الغربية إنكارها منذ اندلاع الأزمة الداخلية الأوكرانية، بتخيير روسيا بين سوريا وأوكرانيا. واتضحت أبعاد "اللعبة الجيوسياسية" الأمريكية – الأطلسية حول روسيا والإمعان في حصارها بالعقوبات تارة، وبتجييش الدول المحيطة بها تارة أخرى، وبالحملات الإعلامية "الصبيانية" تارة ثالثة، لتغطية أخطاء أوروبا وأمريكا بحق سكان المنطقة، ومن أجل تشكيك الدول العرية في نوايا روسيا.
وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس توجه إلى روسيا بتصريح حول أن الخلافات بين باريس وموسكو بشأن الأزمة الأوكرانية يجب ألا تعيق تعاون الجانبين في تسوية القضايا الأخرى، بما في ذلك الأزمة السورية. ما اعتبره مراقبون مساومة باللغة الدبلوماسية – السياسية.
فابيوس قال، في مقابلة مع إذاعة "RTL" الثلاثاء 8 سبتمبر/ أيلول الحالي، إنه يجب عدم الخلط بين المشاكل الموجودة وإلا فإن حلها سيكون مستحيلا. وفي الوقت نفسه، أكد أنه يمكن إيجاد حل يشمل ممثلي المعارضة وعناصر من النظام الحالي وليس الرئيس السوري بشار الأسد نفسه، مشيرا إلى أن ذلك هو ما يبحثه الجانب الفرنسي مع أطراف المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا وإيران.
لا أحد يدري بالضبط عن ماذا تتحدث باريس مع كل من موسكو وطهران، وهل تفهم باريس ما تتحدث عنه موسكو وطهران، أم يدور حوار "طرشان" تصر فيه باريس على تصوراتها المتعلقة بطموحات غير محدودة، سواء في سوريا والعراق، أو في ليبيا التي تمثل لفرنسا "الدجاجة التي ستبيض ذهبا". ومن أجل ذلك تحديدا تتماهى باريس مع واشنطن في سيناريوهاتها القائمة في سوريا تحديدا.
أما الخطوة "الماكرة" الأخرى، فقد اتخذها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، في 7 سبتمبر/أيلول الحالي أيضا، حين أعلن أن باريس ستدعو إلى رفع العقوبات المفروضة على روسيا في حال استمرار التقدم في تسوية الأزمة الأوكرانية. وقال هولاند يجب تنفيذ اتفاقات مينسك قبل نهاية العام الحالي، مؤكدا ضرورة تنفيذها بالكامل، بما في ذلك إجراء انتخابات محلية ووضع قوانين تتعلق بالحكم الذاتي وإقامة نظام لامركزي في شرق أوكرانيا. كما أكد أنه سيتخذ إجراءات لرفع العقوبات في حال انتهاء هذه العملية.
وعلى الرغم من أن هولاند يعرف جيدا أن حلفاءه، وحلفاء حلفائه، في كييف لا ينفذون قرارات مينسك كما تم الاتفاق عليها بين قادة "مجموعة نورماندي" الأربعة، إلا أنه يواصل خداع الرأي العام، سواء في بلاده، أو في أوروبا بالكامل. فكييف لا تتحدث إطلاقا عن منح منطقة دونباس بشرق البلاد وضعا خاصا كما جاء في اتفاقيات مينسك. بل أعلن الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو أنه لن يمنح جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وضعا خاصا، وطرح قانونا حول "لا مركزية أوكرانيا" أمام البرلمان الذي وافق عليه في القراءة الأولي، ما أثار بدوره موجة احتجاجات واشتباكات وتفجيرات قامت بها المعارضة المتطرفة وحلفاء الأمس الذين أشعلوا الميدان في كييف.
من جهة أخرى قال هولاند إن باريس تدعو لعقد اجتماع لزعماء مجموعة "رباعية نورماندي" (روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا) في باريس قبل انطلاق دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مشيرا إلى أن وزراء خارجية الرباعية سيجرون مشاورات بهذا الشأن في الأيام القريبة المقبلة. وهو أيضا ما أعلنه، بالتبعية، وزير الخارجية الأوكراني بافل كليمكين بأن وزراء خارجية "رباعية نورماندي" قد يعقدون اجتماعا الأسبوع الحالي. والمدهش أن تصريح كليمكن هذا جاء عقب مباحثاته مع الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في بروكسل. وفي نهاية المطاف تم الاتفاق على لقاء قمة بين قادة نورماندي في 2 أكتوبر المقبل.
على الصعيد الروسي، تصر موسكو على تنفيذ اتفاقيات مينسك كما جاءت، وليس كما يفسرها الأمريكيون والأوروبيون ويضغطون على كييف لتنفيذ تصوراتهم هم، وليس ما جاء في الوثائق الرسمية. وأكد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الاستقرار قد تحقق في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا إلى حد ما بعد وقف القصف هناك منذ الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن غيرها من بنود اتفاقات مينسك لا تنفذ. وأوضح أنه ما زالت هناك مماطلات في النقاط الجوهرية للاتفاقات، خاصة الجوانب الاقتصادية والقانونية مثل الانتخابات المحلية والعفو العام. وهناك لا يمكن أن نتجاهل ضرورة العودة لوضع أوكرانيا السابق الذي يلزم كييف والعواصم الغربية بـ "حيادية أوكرانيا" وعدم انضمامها لأي أحلاف عسكرية وفقا للمعاهدات الدولية التي وقعتها روسيا مع الدول الغربية.
إن باريس تنتهز الأوضاع المتفاقمة، وتصاعد أزمة اللاجئين السوريين، لتعلن البدء في قصف سوريا وتقديم الدعم للتنظيمات الإرهابية وما يسمى بالمعارضة المعتدلة المسلحة من جهة، ومساومة روسيا من جهة أخرى، حتى بعد أن أعلنت موسكو أمام الرأي العام العالمي أنها ملتزمة باتفاقيات مع سوريا في مجالات عدة، من بينها العسكري – التقني، وأنها لن تتراجع عن موقفها بشأن ضرورة مكافحة الإرهاب الدولي مع استبعاد المعايير المزدوجة. ومع ذلك تصر فرنسا على طرح تصورات لا ترتقي حتى إلى مستوى الفرقعات الإعلامية والحملات السياسية فارغة المضمون.