مضى وراح ذلك الوقت الذى كنا نكتب فيه تحت ضغط الوهم بأننا نشارك فى تغيير الدنيا ودفع الناس للسير فى طريق النور الصاعد إلى الشمس. راح ذلك الوهم الكبير وبقيت لنا الحقيقة واضحة على الأرض وهى التسلية. نحن نشهد فى مصر الآن أعظم حركة تسلية إعلامية فى التاريخ، كلٌّ منا يسلى نفسه بالتسلية على الآخرين. اقرأ الجرائد، شاهد البرامج، عندها ستصدق ما أقول. وبالمناسبة لست أعترض على ذلك، فالتسلية نشاط إنسانى جميل مرافق للحب والصداقات القوية.
بعيدا عن الإعلام، ادرس كل نشاط إنسانى حولك. ستكتشف أنه يستهدف تسليتك. عندك مثلا فتاة الثانوية العامة ذات الأصفار. ألم تكن مصدرا ممتازا وفر لنا قدرا كبيرا من التسلية؟ والدها أيضا اشترك فى ذلك العرض بالمحاضر التى حررها فى الشرطة، طالبا إعادة فحص أوراقها. السذج وحدهم- وأنا منهم- تصوروا أن رجال السلطة سيدركون بشاعة ما حدث وخطورته على الحكم ذاته، وأنهم سيسارعون إلى البحث عن الجانى. ولكن لم يحدث شىء فى الغالب، بعد أن اكتشفوا أن هذه الواقعة ستوفر للناس قدرا كبيرا من التسلية.
اسمحوا لى أنا أيضا بأن أشارك فى هذا العرض المسلى الكبير، فلدىَّ ما يُسَلِّيكم.
بقدر ضئيل من الخيال، نحن داخلون فى عشرات المشاريع الجديدة العملاقة. ومن الطبيعى أننا نحن المصريين مَن سيقوم بتنفيذها. بنفس طريقتنا وبنفس خصائصنا. بالتأكيد سنهتم بتنفيذ المفاعل الذرى بنفس الكيفية التى اهتممنا بها بمشكلة فتاة الثانوية العامة وبمشكلة مياه الشرب ومياه الرى التى لا تصل لمستحقيها تماما مثل الدعم. نحن نتصور أننا نستطيع أن نقدم نفس الأداء الراقى الجاد البعيد عن التسلية الذى قدمناه فى مشروع قناة السويس الجديدة. وهذا وهم.. هذا المشروع بحكم موقعه وواقعه، كان تابعا لإدارة واحدة حازمة وجادة ولا تحب التسلية استطاعت أن تبعد عنه كل ثعالب الإدارة المصرية وذئابها، ولذلك نجحت فى النجاة بالمشروع. باختصار هذا النوع من الإنجاز غير قابل للتكرار.
أنا أطالب- ولست غبيا إلى الدرجة التى أتصور فيها أن أحدا سيأخذ مطلبى على محمل الجد- بأن نؤجل كل المشاريع الجديدة العملاقة إلى أن ننتهى من حل المشاكل الموجودة الآن على الأرض. إن حل مشكلة مياه الشرب فى عشرات الأماكن فى القرى والحضر سيخلق مواطنا جديدا أكثر قدرة على الاحتفاء بالحياة وما يتبع ذلك من قدرة على الإنتاج، ثم مشكلة مياه الرى. إن حل هذه المشكلة سيزيد بشكل تلقائى مساحة الأرض المزروعة.
هل تذكر تلك الحكاية القديمة عن ذلك الشخص الذى عجز عن حمل عنزة، فقال متبجحا: أصل أنا ماليش إلا فى شيل الجمال.
لسنا مطالبين بحمل الجمال فى الوقت الذى نعجز فيه عن حمل العنزات. كما أن السياسة لا تعرف «وداونى بالتى كانت هى الداء»، بل تتحرك بشكل أكثر بساطة ومنطقية، هى تعمل وبكل قوتها على التخلص من أى داء يجعل من حياة الناس شيئا صعبا. نحن لا نعمل عند الأفكار الجيدة أو السيئة، نحن نعمل عند البشر. وأعظم مهمة فى الدنيا هى توفير حياة يومية جيدة للمواطنين. أمر صعب للغاية أن أقرأ عن آلاف الآبار التى سنحفرها من أجل زراعة مليون فدان جديدة، بينما أنا عاجز عن رى آلاف الأفدنة القديمة. أيها السادة لا داعى لتسليتنا أكثر من ذلك!
نقلا عن المصري اليوم