"هنادي" طه حسين، تجدد موتها مرة أخرى
بقلم: د. أحمد الخميسي
بعد نحو خمسة وسبعين عامًا كاملة، تُجدد "هنادي" التي ابتدعها "طه حسين" في "دعاء الكروان" موتها مرة أخرى، شابة صغيرة، وعاشقة، وقتيلة.
في رواية "طه حسين" الصادرة عام 1934، تقع "هنادي" الصغيرة، في غرام المهندس الوسيم الأعزب المقيم بحكم عمله في الصعيد، فتتكاتف عليها أمها، وخالها، ويجهز عليها بطعنة في الخلاء تفزع منها السماء.
في مطلع أغسطس الحالي، تسقط قتيلة صبية في الرابعة عشرة من عمرها، طالبة في الإعدادية في "سوهاج" بيدي أمها وخالها، خنقتها أمها بيديها حين اكتشفت أنها عاشقة، يخفق قلبها لشاب من سنها. ثم استدعت شقيقها- وهو مدرِّس متعلم- ووضعت معه البنت داخل جوال، وألقيا ببدن البنت الغض، وعينيها المغمضتين على أحلامها، في ترعة مركز "مراغة"، وظلت الجثة طافية على سطح المياه حتى اكتشفها عابر سبيل، وانتشلتها الشرطة.
هكذا بعد خمسة وسبعين عامًا، مازالت "هنادي" تموت، صغيرة، عاشقة، لا لذنب سوى أن خيالات الحب والفرح شاغلت روحها.
بعد نحو ربع القرن من صدور رواية "طه حسين"، صدرت رواية "الحرام" عام 1959، وفيها بدّل "يوسف إدريس" اتجاه السؤال، فلم يعد العقاب الذي يحل بالمرأة ناجمًا عن أشواق القلب المُحرَّمة، ولكن من وطأة الواقع الإجتماعي الذي دفع "عزيزة" للتفريط في نفسها فقط من أجل الحصول على جذر بطاطا اشتهاه زوجها عامل التراحيل المريض العاجز.
الحرام عند "إدريس" هو الفقر والعوز، لكن حرام "طه حسين" هو الحب والشوق. أي السؤالين أشد قسوة؟! أم أنه سؤال واحد؟
مازالت البنات "ألطف الكائنات" تُقتلن في الأدب وفي الحياة، في الروايات وفي الواقع، في الخيال وفي الحقيقة. والقسوة والقتل هكذا، بلا مبالاة وبدم بارد، تكاد أن تصبح سمة عامة لكثير من الجرائم.
وتكمن وراء تلك القسوة وذلك القتل عوامل عديدة، منها الفقر، والجهل، والتقاليد، وتحقير البنات، ووطأة الواقع الإقتصادي، وذبول دور العلم والثقافة. لكن ثمة شيئًا آخر- ربما يكون أهم- هو ذلك الشعور العام بأنه ما من قيمة لشيء، أي شيء، وما من معيار لشيء، أي شيء، وأن كل القيم الأخلاقية، والسياسية، والإجتماعية، تساوت مع بعضها البعض؛ فالشرف كالخيانة، والعمل الشاق كالراحة والدعة، والإخلاص كالغدر، وكتابة الأدب السخيف ككتابة أعظم الروايات، والضحك كالبكاء، والقتل كالإحياء، والوطن كأنه الغربة.
فما الذي قد يرسخ في وعي- أو لا وعي- مواطن بسيط، حين يسمع أن لوحة لـ"فان جوخ" قد سُرقت من متحف مصري؟ أو أننا قد نشتري الغاز الذي نبيعه لـ"إسرائيل"؟ أو أن نواب البرلمان يستولون على موتوسيكلات المُعاقين ليبيعونها لحسابهم في السوق السوداء؟ أو يسمع أن هناك مسئولين كبار تلقوا رشاوى ضخمة في صفقة مرسيدس؟!
ما الذي قد يرسب في وعي المواطن حين يقرأ عن تعذيب شاب حتى الموت بدون أن يُعاقب الفاعل الحقيقي على جريمته؟ ما الذي قد يشعر به كاتب شاب موهوب حين يعلم أن ضابطًا في هيئة كاتب، يمنع عنه نشر رواية؟
ما الذي يفكر فيه شاعر موهوب- بلا معارف- حين تُغلق أمامه كل السبل لمجرد أنه لا يحني رأسه لأحد؟ هكذا عادت "هنادي" بعد نحو خمسة وسبعين عامًا، تطفو على سطح المياه، لتقول لنا: إن الحب مازال ممنوعًا، لكن الأبواب كلها مفتوحة للنميمة والكراهية المُغلَّفة بأفضل العبارات، تطفو "هنادي"، وستظل طافية، لتقول لنا: إن المجتمع الذي يقتل الموهبة والثقافة والضمير، تمتد يده إلي قلوب الصبايا الصغيرات؛ لتدفن فيها خيالات الحب البريء، ولمعة العيون التي تخيلت للحظة أن السعادة ممكنة..هكذا بسهولة، مثل جرعة الماء العذب، هكذا بسهولة، كما يتلقى المرء ضوء القمر على كفيه، أو هكذا بسهولة، كما يرفع المرء رأسه للمطر.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :