ليت «أسماء» تعرف أن أباها صعد /لم يمت/ هل يموت الذى كان يحيا/ كأن الحياة أبد! كتبها أمل دنقل فى رثاء الجنوبى توأم روحه وصديقه اللدود يحيى الطاهر عبدالله، كتبها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، واليوم، كنت أتمنى أن يكون بيننا أمل دنقل ليكتب على نفس النهج ونفس المعنى وبنفس البلاغة، ليت يحيى يعرف أن ابنته أسماء قد صعدت على سلم النجاح وتفوقت وحصلت على الدكتوراه، وصلتنى صورتها على «فيس بوك» وهى تناقش رسالة الدكتوراه وتحتها تعليق الشاعر زين العابدين فؤاد «مبروك»، كم فرحت بهذه الصورة المفاجأة، فقد انقطعت عنى أخبارها منذ رأيتها مع المخرجة الرائعة الصلبة العنيدة عطيات الأبنودى، التى كانت قد تولت رعايتها بعد وفاة الأب يحيى الطاهر، وقررت أن تكون أسماء ابنتها، وقررت أن تكون بنت يحيى التى ورثت عن أبيها فنه وتمرده وتفرده، النجاح هو نجاح عطيات قبل أن يكون نجاح أسماء، وأنا أشاهد صورة أسماء،
دار شريط الذكريات وتوقف عند كادر العبقرى الجنوبى، الذى مر كالشهاب فى حياتنا الثقافية وودعنا فى شرخ الشباب، تذكرت عندما قرأت خبر مصرعه فى حادث سيارة على طريق الواحات منذ ثلاثين عاماً، كان الاسم مجهولاً بالنسبة لى، وقرأته للوهلة الأولى كمجرد خبر ضمن ركام أخبار حوادث السيارات، لم أتعرف عليه- رغم معرفتى وأنا طالب فى كلية الطب برفيقى رحلته الأبنودى وأمل دنقل- فقد كان الأبنودى ملء السمع والبصر بأغانيه التى كتبها لعبدالحليم ورشدى آنذاك، وكان دنقل أيقونة تمرد بالنسبة لشباب الجامعة، وكنا نحفظ قصائده المطبوعة فى بيروت عن ظهر قلب، أما ثالث الرفاق- الذى رحل فى حادث عبثى، بينما هو يداعب ابنته أسماء التى يحملها على حجره، متمرداً على حزام السيارة كما كان يتمرد على كل الأحزمة والقيود- فكان لا يتمتع بنفس النجومية، لدرجة أن صورته الفوتوغرافية كانت عملة نادرة ومهمة مستحيلة على أى صحفى يريد إرفاقها بما يكتبه عنه.
تذكرت أن صديقاً لى قد حكى عن أنه قابل قاصاً صعيدياً من النوع البراوى حاد اللسان على أحد مقاهى وسط البلد، ووصفه بأنه إنسان غريب، ربما كان هذا الانطباع داعياً إلى عزوف بعضنا من طلبة الطب المهتمين بالثقافة عن البحث عنه والتعرف عليه، وربما يكون هذا سبباً فى أن تدوس الذاكرة على زر DELETE! لم أندم فى حياتى قط مثلما ندمت على عدوى الانطباع الأول الذى نقله لى هذا الصديق واقتناعى به، فبعدما تعرفت على عالم هذا العبقرى الجميل، عرفت أننى خسرت الكثير بأننى لم أستمع إليه وهو يحكى قصصه القصيرة التى كان يحفظها وينشدها كشاعر الربابة، فى سابقة لم تحدث من قبله ولم تتكرر من بعده، ولتقرأوا معى تلك القصة البديعة «أنا وهى وزهور العالم»، لتلمسوا السر وتستحضروا رعشة السحر القصصى عند يحيى الطاهر، وعلى كل مَن لم يكن يعرفه منكم أن يبادر بالبحث عن قصصه ليستمتع بلذة الفن الحقيقى.
«كنا بالحديقة، أنا وهى، وكنتُ طامعًا فى علاقة تربطنى بها: أى علاقة، وكان بالحديقة شجر مورق، وحشائش خضراء، وطير بأجنحة، وعين ماء، أراها مرة ياقوتة ومرة زمردة، إنه الربيع، وتلك شمسهُ اللينة تنفذُ من بين أفرع الشجر بشعاع كأنه الفضة النقية، وقد رمت فوق الحشائش: الضوء واللون والظل والشكل.
كان للشجر رائحة، وللأرض رائحة، وللحشائش رائحة، ولشعرها رائحة، ولفمى رائحة.
هو الربيع، وتلك طيور الربيع عند عين الماء تطلب الماء، وتغتسل وتنفض عن ريشها الماء، وتتمرغ بالحشائش وتنط وترف فى الجو بأجنحة وتصوصو وتحتمى بأفرع الشجر.
- أحب الموت، وكلما أجدنى على حافته أحب الحياة.
- أود لو أمتلك زهرة سوداء.
- ثمة زهور سوداء بالعالم.. ثمة زهور سوداء.
بالحديقة كنا، أنا وهى، وكنتُ طامعًا فى علاقة تربطنى بها: أى علاقة.
كان بالحديقة شجرٌ سقط ورقه وحشائش يابسة وكل الطيور، وكانت الشمسُ طالعة، وعين الماء قلّ فيها الماء وغطّاها الورق اليابس والكلس، إنه الخريف، أحب الحياة، وكلما أجدنى فيها أعرف أنها الموت..
أودّ لو أمتلك زهرةً بيضاء.. ثمة زهور بيضاء بالعالم.. ثمة زهور بيضاء».
نقلا عن المصري اليوم