د.عبدالخالق حسين
بعد أشهر من المداولات المطولة من قبل اللجنة البرلمانية للتحقيق في سقوط الموصل في يد عصابات داعش الإرهابية في العام الماضي، والمؤلفة من نحو 50 عضواً من مختلف الأطياف والكتل السياسية، أصدرت اللجنة تقريرها في 16/8/2015 حمَّلت فيه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي و 30 شخصية سياسية وعسكرية مسؤولية سقوط المدينة. كما وصوَّت مجلس النواب في اليوم التالي (17 آب 2015)، على إحالة ملف سقوط الموصل الى القضاء دون قراءته.
والملاحظ، أن النقطة الجوهرية التي كان ينتظرها أعداء العراق الجديد، من سياسيين وحكومات، وإعلام مضاد، هو وضع المالكي على "رأس المتهمين" بسقوط المدينة، وهذا ما تم لهم. وغني عن القول أن الغرض من ذكر اسم السيد نوري المالكي ضمن قائمة المتهمين، هو ليتم لهم محاكمته وإدانته إعلامياً، واغتياله سياسياً واجتماعياً، وحتى تصفيته جسدياً، بدلاً من القضاء، إذ كما قال لينين: "التهمة تفيد وإن كانت باطلة ". فهذه المحاكمة السياسية الإعلامية قد بدأت وتم التحضير لها قبل سقوط الموصل بسنوات، بل ومنذ تسلم المالكي رئاسة الوزارة عام 2006.
لماذا تم استهداف المالكي بالذات أكثر من غيره، وبهذه الشراسة، ومن قبل مختلف الجهات؟
الأسباب كثيرة، تختلف حسب أغراض الجهات التي تريد التخلص من المالكي والانتقام منه. فأعداء المالكي كثيرون وهم نفس الوجوه والجهات والحكومات التي ناصبت العراق العداء عند كل منعطف تاريخي، كما حصل في عهد ثورة 14 تموز 1958، فتآمرت عليها قوى الشر في إنقلاب 8 شباط 1963 الدموي الأسود، وأدخلوا العراق في نفق مظلم لم يخرج منه لحد الآن. ونوجز هذه الأسباب والجهات بالتالي:
1- قيام المالكي بالخطوة الشجاعة في التوقيع على تنفيذ حكم الإعدام بحق مجرم العصر صدام حسين، لذلك جلب عليه عداء ونقمة فلول البعث ومواليهم الذين حاولوا إبراز تنفيذ حكم الاعدام بأنه انتقام طائفي!
2- التزام المالكي بالدستور، وخاصة فيما يخص حرصه على توزيع الثروات النفطية على الشعب العراقي بالتساوي، الأمر الذي أثار عليه حقد رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني وأتباعه، ولإطلاق العنان لمرتزقته من حملة الأقلام المأجورة لتشويه سمعته وصورته بشتى الحملات الإعلامية المضادة والدعوة بتقديمه للقضاء بمختلف الاتهامات.
3- رفض المالكي إبقاء عدد من القواعد العسكرية الأمريكية في العراق ضمن إطار الاتفاقية الأمنية المعقودة بين العراق وأمريكا، مما أثار عليه سخط اليمين الأمريكي.
4- رفض المالكي الانضمام إلى الحملة الدولية بقيادة أمريكا لإسقاط حكومة بشار الأسد، وذلك لا حباً بالأخير، بل لنظرته البعيدة أن البديل عن بشار الأسد هو حكومة مؤلفة من جبهة النصرة والقاعدة وداعش الإرهابية، والتي تشكل خطراً على العراق والمنطقة وحتى على أمريكا والغرب وكل العالم. وهذا الموقف أثار عليه عداء وسخط إدارة أوباما والحكومات الخليجية وتركيا. وأخيراً تأكد لهؤلاء جميعاً صحة موقف المالكي، فغيروا موقفهم الآن من بشار الأسد، بعد أن انقلب عليهم السحر على الساحر.
5- رفض المالكي معاداة إيران لأسباب أمنية وجغرافية وتاريخية وسياسية وغيرها، الأمر الذي ضاعف عليه سخط أمريكا وحليفاتها في المنطقة. والمفارقة أن أمريكا نفسها توصلت مؤخراً إلى قناعة بعدم جدوى هذا العداء، فغيرت موقفها من إيران، كما تبين ذلك في الاتفاق الدولي على البرنامج النووي الإيراني، و أنه لا يمكن دحر الإرهاب بدون الدعم الإيراني.
6- لم يتوقف العداء للمالكي على الجهات الآنفة الذكر، بل وشمل كيانات سياسية حتى من داخل تحالفه (التحالف الوطني). فالتيار الصدري يعاديه لأن المالكي وقف بحزم ضد مليشياته (الجيش المهدي)، بعملية (صولة الفرسان) في البصرة ومدينة الصدر (الثورة) عام 2008، وأوقفهم عند حدهم، الأمر الذي أكسبه شعبية واسعة لتخليص الناس من شرور هذه العصابات. لذلك، انتهز رئيس اللجنة التحقيقية النائب حاكم الزاملي، (وهو بعثي سابق، ومن التيار الصدري حالياً)(1)، هذه الفرصة لزج اسم المالكي ضمن قائمة المتهمين، انتقاماً منه لتصفية حسابات سياسية. وكذلك عداء (كتلة المواطن) بزعامة السيد عمار الحكيم مخترع فذلكة (حكومة المقبولية)، فهو ضد المالكي لأنه ينافسهم في زعامة الشيعة.
ولم يشر التقرير إلى مسؤولية مسعود البارزاني الذي وجّه الأوامر للضباط الأكراد في الجيش المرابط في الموصل "بالانسحاب بذريعة أن هذه المعركة هي معركة الشيعة والسنّة وليس للأكراد دخل فيها؟؟"(1)
ما هي مصداقية شمول المالكي بمؤامرة سقوط الموصل؟
تذرعت اللجنة على سببين: الأول، أن المالكي كان رئيساً للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، لذلك فيتحمل مسؤولية كبرى في هذا الخصوص، حسب ادعائهم. وثانياً، لأنه لم يأخذ بنصيحة الدكتور سعدون الدليمي، وزير الدفاع وكالة، الذي شكك في أحد القادة العسكريين، اللواء الغرباوي. في الحقيقة هذين السببين لا يكفيان لتوجيه التهمة بالتآمر، فهناك اختلاف في المواقف والمشاعر والآراء من هذا القائد العسكري أو ذاك، ومن حق رئيس الوزراء أن يكون له موقفه ورأيه في الأشخاص، وقد يصيب أو يخيب. والتاريخ حافل بمثل هذه الأمور.
لقد بات معروفاً، لدا القاصي والداني، أن سقوط الموصل تم بتآمر شاركت فيه جهات دولية، وإقليمية، وعراقية، إضافة إلى الإدارة المحلية برئاسة المحافظ أثيل النجيفي. وسبقت السقوط، حملة مكثفة ضد وجود الجيش العراقي في المحافظة، والتشكي من سياسة "التهميش والعزل"، فحرضوا الأهالي ضد الجيش الذي أطلقوا عليه (جيش المالكي، الشيعي، الصفوي الإيراني)، وحتى كانوا يبصقون على الجنود ويرمونهم بالحجارة. إذ كانت الموصل بؤرة للإرهابيين منذ سقوط حكم البعث وإلى الآن، وقد بذل المالكي كل ما في وسعه لتلبية مطالب الإدارة المحلية وأهل الموصل، ولكن بلا جدوى، إذ كما قال الكاتب القدير فاضل بولا: "بذل المالكي جهوداً كبيرة في تهدئة الوضع هناك، وذلك من خلال اجتماعه التاريخي مع وجوه من كافة محافظة نينوى والوجهاء من مدينة الموصل، ولبى طلبهم في اعادة 300 عسكري الى الخدمة وهم من مختلف الرتب العسكرية في جيش النظام السابق."(2)
في الحقيقة، إن مؤامرة سقوط الموصل تمت لغرض واحد وهو لتغيير النظام في العراق والتخلص من المالكي بالذات، وقد جاء ذلك في العديد من المقالات والدراسات، نشير على سبيل المثال إلى واحد منها وهو مقال للباحث الأمريكي Eric Draitser، بعنوان: (داعش ذريعة لتغيير النظام في العراق)، ترجمناه ونشرناه على مواقع الانترنت قبل أشهر، نرجو فتح الرابط في الهامش(3). والسؤال هنا، كيف يشارك المالكي في مؤامرة الغرض منها الإطاحة به؟ تفيد الحكمة، (حدث العاقل بما لا يُعقل، فإن صدق فلا عقل له). فالذين يتهمون المالكي بالتآمر، يخدعون انفسهم، ويستهينون بعقول الناس. فكما علق المالكي في لقاء مع فضائية االعالم: "ان ما حصل في الموصل كان مؤامرة تم التخطيط لها في أنقرة ثم انتقلت المؤامرة إلى أربيل. ولا قيمة للنتيجة التي خرجت بها لجنة التحقيق البرلمانية حول سقوط الموصل. وان اللجنة سيطرت عليها الخلافات السياسية وخرجت عن موضوعيتها". كما و " اعتبر عضو اللجنة القانونية النيابية علي المرشدي، لجنة سقوط الموصل بأنها غير دستورية وقراراتها غير ملزمة للمحكمة الاتحادية، و من حق المتهمين الطعن بها، وتمنى ان تبتعد قرارات اللجنة عن تصفية الحسابات".
ومما يجدر ذكره، أني دُعيت من قبل فضائية الحرة للمشاركة في حوار حول الانتخابات البرلمانية الأخيرة وقبل إجرائها بأيام في العام الماضي، وكان هناك ثلاثة مشاركين آخرين، وكلهم كانوا متفقين وبثقة عالية أنه لو فاز المالكي في الانتخابات، وأصر على ولاية ثالثة لرئاسة الحكومة، فسيغرق العراق في حرب أهلية، وينقسم إلى ثلاث دول. وكنت على ثقة بفوز المالكي، واختلفت معهم في كون العراق سيواجه حرباً أهلية لاعتقادي بأن أمريكا وغيرها سيحترمون نتائج الانتخابات ورأي الشعب العراقي. وتبين فيما بعد أني كنت على خطأ، وأن هؤلاء الذين أنذروا بالحرب الأهلية كانوا على علم بالمخطط التآمري على العراق.
فكان أمام خصوم المالكي بما فيهم أمريكا ، خطتان: خطة (أ) التخلص من المالكي بالوسائل الديمقراطية، أي إفشاله في الانتخابات. ولذلك أشاعوا احتمال نشوب حرب أهلية في حالة فوز المالكي وإصراره على البقاء في رئاسة الحكومة، لتخويف الناخبين والشيعة خاصة، عسى أن يؤثروا عليهم في الانتخابات، وبالتالي يتخلصوا منه ديمقراطياً. وخطة (ب) الاستعانة بالشيطان، أي عصابات داعش الإرهابية فيما لو فشلوا في الخطة (أ)، لذلك لما فشلت الخطة (أ)، أطلقوا العنان لعصابات داعش لتحقق لهم ذلك. كما وأوعزوا لضباط الجيش بعدم تنفيذ أوامر القائد العام للقوات المسلحة، فتركوا مواقعهم وإرسلو جنودهم إلى بيوتهم، وتم تسليم الموصل إلى عصابات داعش بدون أية مقاومة. ليأتوا فيما بعد ويتهموا المالكي بالتآمر على سقوط الموصل، وأنه هو السبب في معاناة أهل الموصل على أيدي الإرهبيين!!!
وتكررت المؤامرة قبل أشهر في الرمادي، حيث أمر قادة الجيش قواتهم بالانسحاب، وتسليم مواقعهم وكافة أسلحتهم إلى عصابات داعش، وأطلقوا على هذه العملية الخيانية الكبرى بالانسحاب التكتيكي، ليأتي أشتون كارتر، وزير الدفاع الأمريكي ليقول: "أن الجيش العراقي ليست له الرغبة والإرادة للدفاع عن العراق". فهل سيتهمون العبادي بعد أيام بتهمة التآمر على سقوط محافظة الأنبار؟ الجوب: كل شيء ممكن، فتبديل المالكي بالعبادي خطة مؤقتة، إذ بدأ "الشركاء" يتحججون الآن بأن العبادي لم يلتزم بالاتفاقات المعقودة بين الكتل السياسية!!!
خلاصة القول، يتعرض العراق إلى مؤامرة قذرة من قبل جهات دولية وإقليمية، وقوى عراقية مشاركة في العملية السياسية، الغرض منها القضاء على الرموز الوطنية المخلصة مثل المالكي وغيره، تمهيداً لتفتيت الدولة العراقية إلى دويلات يسهل بلعها من قبل دول الجوار، أو جعلها موحدة شكلياً ولكنها هزيلة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، يسهل نهب ثرواتها من قبل المافيات المحلية، والشركات الدولية الكبرى. فهل ستمر هذه المؤامرة بنجاح؟ أشك في ذلك لثقتي بهذا الشعب وبمنطق التاريخ، فرغم كثرة الأعداء والعملاء من أصحاب الضمائر الميتة والأقلام المأجورة الذين تخلوا عن مبادئهم والتزاماتهم الوطنية والأخلاقية، إلا إني مازلت أؤمن بان الحق لا بد وأن ينتصر، ومصير المرتزقة في مزبلة التاريخ.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ــــــــــــــــــــــــ
1- أياد السماوي: الثأر والانتقام سمتا تقرير لجنة سقوط الحقيقة
http://www.akhbaar.org/home/2015/8/196515.html
2- فاضل بولا: مآخذ التقصير إن وجدت لا تعني التآمر
http://www.akhbaar.org/home/2015/8/196486.html
3- عبدالخالق حسين: داعش ذريعة لتغيير النظام في العراق
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=744
4- علي محمد الجيزاني: سقوط الموصل يتحملها اثيل النجيفي وشيوخ "ثوار العشائر" المرتزقة فقط
http://www.akhbaar.org/home/2015/8/196478.html