نانا جاورجيوس
السعودية دولة إسلامية وإيران دولة إسلامية. الأولى شرَعت الدين كسياسة لمملكتها، فنتج عنه سياسة الإرهاب المقدس لتقود التطرف والمتطرفين إقليمياً و عالمياً، والثانية دولة دينية متشددة ولكنها إهتمت بتنمية قدراتها العلمية فحافظت على تقدمها التكنولوجي، شتان بين دولتين وأيضاً بين
سياستين. إيران إستطاعت أن تنتزع حقها في أن تكون بمصاف الدول الإستراتيجية العظمى والوقوف بين الكبار، و أن تبني لها صرحاً تكنولوجياً وإستراتيجياً قوياً إحترمته الدول الكبرى مما أجبرتهم أن يضعوا يديهم في يديها لأسباب كثيرة.
فبينما المجتمع الإيراني إستوعب كل مكوناته بإختلافاتها الثقافية والعرقية والدينية و سخّر كل إمكانياته والعقول العلمية والتكنولوجية ليبني بهم صروحاً معرفية وتكنولوجيا نووية أجبرت دول الغرب أن تخضع لشروطها وفك حصارها الإقتصادي. فهي بلاد فارس التي حضنت المعرفة الفلسفية والعلوم الطبيعية والإنسانية منذ عصر ملوك الفرس، فأضافوا أحفادهم لتاريخهم الثقافي والمعرفي ولم يتبرأوا أو يبتروا حقبتهم التاريخية والحضارية القديمة كما فعلت الحقب الإسلامية المتعاقبة على مصر والدول العربية و كما يفعل الآن كل من ينتمي لتيارات دينية تنكر مفهوم الأوطان، فالوطن عندهم هو الدين وعليه أن يقيم الخلافة ولو على أشلاء الشعوب.
أما مملكة «طويل العمر» مازالت تجري أبحاثها عن فوائد أبوال البعير و محاسنها الصحية و فتاوي التحريم والتحليل اليومية من بداية دخول الحمام بالرجل اليمين مروراً بحد اللحية والشارب لنتف حواجب المرأة النامصة والمتنمصة و إجبارها لإرتداء اللجام المقدس مابين حجاب خليجي و نقاب سعودي، وصولاً للتفنن بتشريعات الحدود و قطع الأيدي والأرجل و جزّ الرقاب منتهكين كل حقوق الإنسانية حد العبودية وكل القوانين الدولية التي تحرم التنكيل بآدميتنا.
ناهيك عن مناهج الجهاد والتكفير ضد العالم والتفنن لإثارة غرائز التوحش الكامنة داخل النفس الإنسانية حتى صارت الكراهية المقدسة والكيل بمكيالين هما الدين. نجحت ثقافة الالربع الخالي في إستقطاب العقلية العربية و تحويل أغلبها لآلة مدمرة منزوعة الفكر بموجب وصاية دينية ممولة بالبترودولار ليتم تمريرها لعقول الشباب على مدار عقود. صدَّر التوحش ليحموا عرشهم و نفوذهم بالمنطقة. فأدى هذا الشحن المقدس في النفوس، ليس فقط لرفض الأخر و رفض التعددية الثقافية والعرقية و التسامح الديني بل رفض للتعايش السلمي في جميع صوره وأحواله و لكل من هم مختلفين معهم ليس فقط دينياً بل عرقيا وحضاريا وثقافياً وهي المرحلة الأكثر خطورة التي تسبق عادة حروب الإنقسامات. لتصب كل هذه التشنجات التعصبية لصراع تكفيري تتسع رقعته ليس فقط بين العرب والغرب بل بين العرب و بعضهم. مما جعلوا تناقض وإزدواجية المعايير سمة لشعوبهم، حد إصابتهم بأمراض الشيزوفرينيا المجتمعية.
نسيت مملكة آل سعود وسط هذا الزخم التديني أن ما تسلكه من تطرف سيؤدي مع الزمن لإنهيار مقوماتها كدولة ليرتد عليها إرهابها الداعشي أضعاف، فالمال وحده لا يبني دولة بل الإستراتيجيات البعيدة المدى و العلوم التكنولوجية، فشلت حتى على المستوى السياسي في إستهداف و عرقلة برنامج إيران النووي. فصار الإتفاق بمثابة زلزال نووي ونكبة أسقط ورقة التوت الأخيرة لبني وهاب.فضلاً عن خذلان أمريكا لهم حين ألغت الضربة الجوية العقابية لنظام الأسد «العلوي» قبل ساعات من حدوثها، حين توسطت روسيا في سبيلها أن يسلم الأسد ترسانة الأسلحة الكيماوية. مما أدى لخيبة أملهم و توتر علاقتهم مع أمريكا، وفشلت كل مخططاتهم رغم تمويلهم للمعارضة السورية بكافة فصائلها من جيش حر لتنظيم داعش لتصعيد الحرب لأقصاها أملاً في القضاء على «الحليف العربي الوحيد لإيران» وإستبداله بنظام سُني يضمن لهم بقاء عرشهم النفطي.
لماذا الإتفاق الإيراني في هذا التوقيت؟!
جاء هذا الإتفاق بمثابة فزاعة إستخدمتها امريكا وحلفائها في تغيير إستراتيجيتها لمزيد من الهيمنة في إستنزاف النفط الخليجي وعائداته، و إخفاض غطرسة آل سعود وجيرانهم حين تنهار عائداتهم من البترودولار أمام السعر التنافسي الإيراني بالأسواق العالمية. فتعيد الكتلة الشيعية الموحَدة والممثلة في «إيران» التوازن السياسي و الإستراتيجي أمام دول الخليج التي أصبحت متهالكة الأنظمة، منقسمة على ذاتها. فالديني أضعف السياسي وشده للخلف مما أدى لظهور صراعات متناحرة على أسس دينية في الآونة الأخيرة كما يحدث بين السعودية و حوثيين اليمن والتي شعر معهم آل سعود بأن مملكتهم أصبحت محاطة بالتحالف الشيعي الموالي لإيران من جميع الإتجاهات، فشرقاً نجد شيعة الإمارات الذين هم من شيعة إيران الذين هاجروا معظمهم بعد الثورة الإيرانية ويتمركز أغلبهم بإمارة دبي ويتحكمون في البنية التحتية والعمرانية مما جعلهم قوة إقتصادية داخل الإمارات إضافة إلى شيعة البحرين الذين يشكلون أكثر من 70% من شعبها ويشكلون الأغلبية في المراكز الحساسة بالدولة، فضلاً عن شيعة الكويت سواء شيعة الحساوية والبحارنة العرب أو شيعة« العجم» المنحدرين من إيران وهم يشكلون النسبة الأكبر من شيعة الكويت، إضافة لشيعة قطر وسلطنة عمان. مما جعل السعودية ترى في إيران منافسها الأقوى في زعامة العالم الإسلامي. وهي نفس النظرة لأمريكا و حلفائها والتي رأت في إيران البديل الطبيعي للكتلة العربية المترهلة.
السبب الأهم والذي جعل أمريكا تحيد عن حلفائها السابقين هو تمويل العرب للإرهاب الداعشي الذي يعمل وفقاً لتعاليم الوهابية التي وزعها آل سعود ومشايخهم على منابر جيرانهم من الدول. ما جعل أمريكا تغسل يديها من حفظ الأمن بالمنطقة العربية و تقف موقف المتفرج من عاصفة الحزم و على مشهد تناحر العرب فيما بينهم وهو ما دفعها بخبث لتسليح الكتلة الشيعية الموحدة كقوة رادعة في مواجهة الكتلة العربية السُنية، لهذا ولأول مرة يستخدم أوباما في حديثه تعبير«العرب السُنّة» في إشارة إلى أن العرب أصبحوا طوائف مذهبية متناحرة ومنقسمين فيما بينهم. هذا المسمى سيكرس لإسقاط قوميتهم العربية وإستبدالها بهوية مذهبية وطائفية القصد منها مزيد من التفكك والتناحر والصراع المذهبي المتصاعدة وتيرته.
و رغم دعم الأجهزة الإستخباراتية الأمريكية للخلافة الداعشية في الخفاء، إلا أن أحد المسئولين الأمريكيين ظهر بشريط مصور و إعترف بأن: « دعم أمريكا اللوجستي للمعارضة السورية عبر الحدود التركية أدى لظهور الدولة الإسلامية داعش ولكن أمريكا إعتبرت أن ماحدث ليس خطأ منها بل من حلفائها العرب وتحديداً السعودية وتركيا وقطر والإمارات الذين مولوا جبهة النصرة والقاعدة وكل عناصر التيارات السنية الآتية من كل بقاع الأرض لسوريا لإسقاط النظام السوري،فما أرسلوه من شحنات الأسلحة والذخيرة لتركيا لتسليح المعارضة السورية عبر حدودها تم بعيداً عن تنسيقهم الرسمي مع أمريكا ! ». إنقلب الموقف الأمريكي على دول الخليج معتبرين «الشباب السُني يسعى لإقامة دولة الخلافة ». و رغم أن الموقف الأمريكي متناقضاً ظاهرياً لما خلف الكواليس، إلا أنهم نجحوا في تصعيد الصراع للمواجهة بين التحالف العربي السني و بين الكتلة الإيرانية الشيعية التي تدعمها روسيا والآن أمريكا، وهذا سيصب لصالح نظام الأسد في المرحلة القادمة.
هل يحق لنا أن نسأل: هل سيكون لإيران دور كبير في المرحلة المقبلة ضمن الخريطة الشرق أوسطية الجديدة؟! عن طريق إطلاق الغرب ليد إيران على جزيرة العرب وتخفيض سعر النفط الخليجي بمجرد أن تضخ إيران حصتها ستتقلص هيمنة السعودية ويدها الممدودة على باقي دول الخليج التي تحوي مكونات شعوبها تجمعات كبيرة من الشيعة العرب بما فيهم شيعة السعودية أنفسهم. ما يعني موت تدريجي بطيئ لنفوذ لآل سعود ودولتهم.وهذا أهم الأسباب الآن لذعر لآل سعود تخبط سياستها وقراراتها .
نعم سيكون لإيران دور الريادة في المرحلة المقبلة وأولها إستعادتها لإسم خليجها الإستراتيجي (الخليج الفارسي) و رجوع إسمه للواجهة ليتردد بقوة بدلاً من تسميتهم له«الخليج العربي»و الذي كان يحوي مفهوم القومية العربية كما إبتدعها عبد الناصر مجاملة لعرب الخليج في غمرة حماسه للتكتل القومي العربي في الخمسينيات،وما نتج عنها من «النعرة العروبية». وهو المسمى الوهمي كعادة العرب دائماً في قلب الحقائق. فعبر تاريخه ومازال يعرف بالخليج الفارسي وهو المسمى المحايد سياسياً حيث أن العالم كله يعرفه بهذه التسمية وهو الإسم المعتمد من الأمم المتحدة.
والسؤال أين نحن كمصريين من هذه التغيرات الخيارات المطروحة على الساحة في ظل فكر سياسي عربي ومستقبل غير واضح الرؤى والأهداف ليلتف حوله العرب؟! وهل من حقنا الآن أن نعيد ترتيب أوراقنا وإستراتيجيتنا السياسية وعلاقاتنا الدبلوماسية الخارجية مع الدول بما فيهم إيران التي ألغت تأشيرة دخول المصريين إليها، ام ستحكمنا الطائفية والمذهبية أكثر من مصالحنا السياسية ؟!
أم سنترك اللحاق بعصر تخصيب اليورانيون و نغرق لشوشتنا في مستنقع البولـ رانيوم ؟!