بقلم - محمود الزهيري
هكذا هم من يدعوا التميز ويؤمنوا بأنهم من أفضل الشعوب وأرقي الأمم وأن حضارتهم سادت الدنيا يوم أن تمسكوا بدينهم , وضاعت منهم وقت أن تخلوا عنه , وكأن العرب والمسلمين الأن غير ملتزمين بهويتهم الدينية بالرغم من أنها هوية مجانية , شأنهم في المجانية شأن من يتماس معهم في الهدف والإتجاه , وتلك المجانية, سواء المتعلقة بالدين أو باللغة , فالإنسان ليس لديه إختيار أو فضل في إختيار الدين أو اللغة الأولي التي ورثها كالدين في حين بإمكانه أن يغير دينه ولا يستطيع أن يطمس أبجديات لغته , بجانب مقدرته علي إكتساب أبجديات أخري غير اللغة التي ورثها كالدين سواء بسواء .
فما زالت أزمات العرب والمسلمين تتزايد بأسباب مرجعها يعود إلي العرب أنفسهم , وإلي المسلمين ذاتهم , من غير أن تعلن عن أسباب خارجية أخري يعتصم بها كمبرر لتلك الأزمات والكوارث التي يصنعها العرب والمسلمين لأنفسهم , بل وتتعداهم إلي الشعوب والأمم الأخري من غير العرب وغير المسلمين , لينداحوا تحت نظريات المؤامرة والإستكبار العالمي الذي لايريد للعروبة والإسلام ثمة سيادة أو ريادة حضارية , وهذا حسب زعمهم المتوارث .. وهذا حسب ماتوارثه العرب أو المسلمين طوال فترات تاريخية متتالية .
وواقع الأزمة لايخرج عن نطاق التمسك بمفاهيم القومانية العربية أو الأممية الإسلامية , فالعروبة صارت إرثاً تاريخياً مثقلاً بخيبات وانتكاسات وهزائم العرب أنفسهم , وإنعدام قبولهم بالأخر اللغوي , والإستمرار في تعظيم شأن العروبة كلغة علي الإنسان ذاته الذي هو في حقيقة الأمر ليس له دور في إختيار تلك اللغة , ومن ثم تتصارع اللغات لتكون وتنتج آخر لغوي علي الدوام في المنطقة العربية , ليذداد الأمر سوءاً حينما تجد أن الدول العربية في مجملها تضم تحت لواءها تعددية لغوية في مواجهة اللغة العربية , ومثالها العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا وسوريا .
ونجد النموذج العراقي بتشكيلاته العرقية واللغوية والدينية يتضمن تشكيلات رائعة ثرية في الأعراق واللغات واللهجات والأديان حيث: تعتبر اللغة العربية واللغة الكردية لغتين رسميتين بحسب الدستور العراقي الجديد ويتحدث العربية كلغة أم حوالي 85% من العراقيين ويتحدث اللغة الكردية كلغة ام حوالي 8% وتعدالإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأكثر انتشارا.
وتعد اللغة التركمانية هي اللغة الثالثة من ناحية استخدامها كلغة أم في العراق،‘ كما أن الآرامية الشرقية مستخدمة أيضا من قبل بعض السكان المسيحيين أتباع كنيسة المشرق الآشورية وكنيسة المشرق القديمة والكلدانية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكنيسة السريانية الكاثوليكية إضافة إلى اللغة الأرمنية المستخدمة لدى الأقلية الأرمنية.
اللغات واللهجات :
تنوعت اللغات في العراق نتيجة اختلاف القوميات وتنوع الأديان والمذاهب فنجد بالإضافة للغة العربية اللغة الكردية والتركمانية والسريانية والأرمنية والمندائية بالإضافة إلى اليهودية العراقية سابقا. كذلك تعدد اللهجات العربية باختلاف المحافظات العراقية ووباختلاف موقعها الجغرافي واشهر هذه اللهجات اللهجة البصرية والأنبارية والبغدادية والموصلية. وتعد اللغة الإنكليزية أوسع اللغات الأجنبية انتشاراً.
الدين :
العراق ذي غالبية مسلمة حوالي 95% من السكان (شيعة 60% - 65%، سنة 32% - 37%) , ويشكل المسيحيون والصابئة واليزيديين حوالي 5%, يذكر أن اليهود في العراق كانوا يشكلون ما يزيد على 4% من السكان بعد الحرب العالمية الثانية لكن أحداث الفرهود والهجرة القسرية التي تعرضوا لها من قبل النظام الملكي قلصت أعدادهم إلى ما يقارب ال 10000 نسمة. (1)
ونجد أن الدستور العراقي قد اجتهد في تمثيل كافة اللغات والقوميات والديانات في تمثيلها في المجالس النيابية , ففي دراسة منشورة في 4 أبريل 2006 ذهب وليم أشعيا , إلي أن : حقوق الاقليات في الدستور العراقي الجديد:
بالرغم من عدم وضوح ما ينص صراحة على تمثيل الأقليات الدينية والقومية في مجلس النواب في الدستور العراقي الجديد إلا أن المادة (48 / أولا ً) تشير الى أن تكوين مجلس النواب يجب ان ((يراعي تمثيل سائر مكونات الشعب فيه)) ، وهذه أشارة الى ضرورة وجود تمثيل لجميع المكونات العراقية (الكورد والاشوريين والتوركمان))، والأقليات الدينية (المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين) ، ومن جانب آخر كان قد تم احتساب أصوات الأقليات الدينية على اساس الدائرة الانتخابية الواحدة ، اي على مستوى العراق لضمان تجميع أصوات الناخبين المنتمين للأقليات ، ويضمن الدستورالعراقي الجديد في المادة (40) لأتباع الديانات والمذاهب حرية:
1- ممارسة الشعائر الدينية.
2- إدارة الأوقاف وشؤونها وسياستها الدينية.
3- تكفل الدولة حرية العبادة وحماية اماكنها.
وتنص المادة (39) على ((أن العراقيين أحرار في الألتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم
أو مذاهبهم أو اديانهم أو معتقداتهم أو أختياراتهم)).
ويقر الدستور العراقي استخدام اللغات التي تتحدث بها الأقليات القومية والدينية في المؤسسات الرسمية والخاصة. أذ تنص المادة (4 / أولا ً) على ((حق العراقيين بتعليم أبنائهم باللغة الأم كالتركمانية والسريانية والأرمنية، في المؤسسات التعليمية الحكومية، وفقا ً للضوابط التربوية، أو بأي لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة)). وتضمن المادة (4 / رابعا ً) على أن ((اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان في الوحدات الأدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية)). وتنص المادة (4 /خامسا) على انه ((لكل أقليم أو محافظة أتخاذ اي لغة محلية أخرى، لغة رسمية أضافية، أذا أقرت غالبية سكانها ذلك بأستفتاء عام)). من جانب آخر يشمل الأقليات مضمون المادة (14) التي تساوي بين جميع العراقيين بلا أستثناء، حيث تنص على أن ((العراقيين متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الأقتصادي أو الأجتماعي)) . (2)
وحسب هذا النموذج العراقي المتفرد بتعدديته اللغوية والقومانية والدينية , والذي يسمح دستورته بالحق في إمتلاك اللغة وممارسة شعائر الأديان , أياً كانت الأديان إلا أن هناك بعض الدول العربية تسير في خط معاكس لهذا التوجه الإنساني الذي تخالفه دولة عربية هي المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية والإسلامية التي تتباين دساتيرها تجاه اللغة والقومية والأديان من جانب ممارسة الشعائر الدينية فنجد:" إن مواد الدستور في الدول الاسلامية تتباين نظرتها وتشريعاتها حول الأقليات القومية والدينية فمثلاً من غير المسموح في المملكة العربية السعودية ممارسة الشعائر علنياً من قبل أتباع الديانات غير الإسلامية ، وتمنع أنشاء كنائس او معابد ، أما في دولة الكويت فتوجد فيها أقلية مسيحية صغيرة ومعترف بها من الحكومة الكويتية ، وفي العراق سوريا ومصر والأردن ولبنان تتمتع الأقليات الدينية بحرية العبادة وجميع حقوق المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية العامة بنسب متفاوتة ، وكذلك الامر في بلدان شمال افريقيا ، والدول الإسلامية في آسيا كأندونيسيا وماليزيا وباكستان ، وفي إيران تعيش أقليات قومية ودينية وطنية متعددة ، أي انها إيرانية الأصل وليست طارئة كالمجوس والزرادشت إضافة الى اقليات قومية غير فارسية كالآشوريين والأرمن واليهود ويعترف دستور جمهورية إيران الإسلامية رسمياً بالأقليات الدينية الثلاث (الزرادشت واليهود والمسيحيون) والتي تتمتع بالحرية في ممارسة شعائرها الدينية ، والعمل على ممارسة حقوقها وفق اديانها في مجال الأحوال الشخصية والتعاليم الدينية (المادة 13) .
ومن الجدير بالذكر أن أساس الانتماء في الجمهورية الإسلامية هو المواطنة أي أن كل من يحمل الجنسية الإيرانية يتمتع بجميع الحقوق والحريات المدنية والسياسية ، ولايعتبر الأنتماء الديني أو المذهبي أساسا ً في بناء الدولة ، هذا المبدأ يتجسد بقوة في منح الأقليات القومية والدينية حق التمثيل في البرلمان الإيراني ، إذ تنص المادة(64) على أن ((ينتخب الزرادشت واليهود كل على حدة نائباً واحداً ، وينتخب الآشوريين والكلدانيين معاً نائباً واحداً ، وينتخب المسيحيين والأرمن في الجنوب والشمال كل على حدة نائباً واحداً )) في مجلس الشورى الإيراني ، أي أن هناك مقاعد في البرلمان الإيراني مخصصة لتمثيل الأقليات الدينية لا ينافسهم عليها المسلمون الذين يشكلون الاكثرية ، وهذا بحد ذاته ضمان كبير وحق دستوري للأقليات الدينية. المصدر : د. صلاح عبد الرزاق / مجلة الاسلام والديمقراطية.(3)
ونجد أن الثقافة العراقية ثقافة قبلت بالجميع برغم إحتلاف اللغات واللهجات والقوميات والديانات فهي:" تعد أرض خصبة للتنوع، وهي وريثة التنازع القديم بين المذاهب والجماعات، بدءا من الأثنيات ( أنباط، عرب ، سريان ، فرس ) قبل دخول الإسلام للعراق إلى الخوارج في خروجهم على إجماع أهل العراق، ثم فرق الإسلاميين من معتزلة وجبرية التي كان أول شروع لها من العراق، ونجد هذا التنوع في العلوم اللغوية أيضا، وما يتبعها من مدارس مثل المدرسة الكوفية والمدرسة البصرية، وقد أسهم هذا التنوع- الذي قد يصل حد التضاد- في صياغة خطاب يخفف من حدة التوتر أمام هذا التنوع الذي يبدو ضديا، فيما بين الفرق والجماعات المختلفة، فظهرت تيارات الوسطية، والمدرسة البغدادية في النحو التي نضعها بين المدرستين الكوفية والبصرية، هذا بين المتعاطين للثقافة، أما عموم الناس؛ فكان بين التجار والصناعيين السوق والتبادل، فضلا عن التنظيمات الحرفية والأصناف، أما من هم دون هؤلاء فكانت الحياة اليومية في الزواج أو الجوار هي الوشيجة، فكانت اللحمة تترابط في هذا النسيج. (4)
ومما سبق نجد مدي التنافر الحاد بين دولتين إسلاميتين يقودان تياران دينيان لهم الصدي الواسع في كافة الصراعات الدموية التي تحدث في عالم العرب والمسلمين , بل وتتعداهما إلي جغرافيات أخري وديانات أخري ليصيبها حظ من النصيب الدموي والإرث الديني المثقل بأدبيات فقه الدم , ومفاهيم الحرب والقتال والجهاد حسب كل طائفة أو فرقة أو مذهب ديني .
فهذه السعودية , وتلك إيران يبدو الفارق واسع بينهما في مجال التعدد الديني وممارسة الشعائر الدينية لديها علي خلاف إيران التي تسمح بذلك .
تيار التعريب
وبجانب تلك الأزمات تتوالد أزمة مستمرة بالتوازي مع تيار الأسلمة , تتسمي بالتعريب , والتعريب والأسلمة بمثابة كيانان يؤديان إلي هدم الكيانات الأخري وتهميشها علي كافة المستويات بداية من سيطرة وهيمنة اللسان العربي والدين الإسلامي علي باقي الألسن والديانات , وتبدا باقي الألسن والديانات في إثبات هويتها ولغتها والبحث والتنقيب في التراث للحفاظ علي اللسان والدين , وابتعاث الماضي ليكون حاضراً بقوة ليتم استخدامه من ضمن أدوات الصراع بين اللغات والأديان , وإذا كان من حق العرب والمسلمين أن ينهضوا بلغتهم ودينهم , فكذلك هذا الحق يتوجب أن يكون مكفول لباقي الألسن والديانات سواء السماوية منها أو الديانات الأرضية / الوثنية , إلا أن عقدة العرب , وعقدة المسلمين تكمنان في إدعاء الحفاظ علي اللغة والحفاظ علي الدين الذي وصفوه بالبيضة , وكأن الدين يحتاج إلي من يدافع عنه وكذلك اللغة واللسان العربي بإعتبار أن اللسان العربي هو لسان الخطاب القرآني , ولذلك تري الإرتباط الوشيج بين اللسان العربي واللغة العربية والخطاب القرآني , ولا يمكن علي المطلق قطع هذه الوشيجة أو ذاك الإرتباط ..
وبالرغم من أن العرب يذهبوا إلي حمل لواء التعريب لكافة العلوم والمعارف والثقافات , وبالرغم ومنها علي سبيل المثال علوم الطب والصيدلة والهندسة والفضاء والفلك وعلوم البحار وغيرها من العلوم , وهذا بمثابة خطيئة يرتكبها أصحاب تيار التعريب لأن لغة العلم لم تعد هي اللغة العربية كما كانت في سابق التاريخ حينما كان للمسلمين العلماء باع وزراع في العلوم ومنها الطب , وكانت الأمم الأخري تسعي إلي تعلم العربية وإدراك فلسفة اللسان العربي , كانت الترجمة عامل هام وحيوي وبمثابة مصير لتلك الأمم الغير عربية , لأن القوة العلمية كانت كامنة لدي المسلمين , وليس لدي العرب تحديداً , فالعلماء المسلمين في غالبيتهم لم ينتسبوا إلي العرب أو إلي شبه جزيرة العرب مهبط القرآن / الوحي السماوي , وإنما كانوا يستوطنوا في أماكن خارج إطار جزيرة العرب في تلك الآونة التي كان للمسلمين مجد في العلوم والمعارف والثقافات ..
ولأن هناك فارق بين الترجمة والتعريب , وهذا الفارق يكمن في الإحتفاظ باللغة الأصلية للعلم المراد ترجمته أو للثقافة المراد ترجمتها , أما التعريب فكأنه بمثابة إنتزاع العلوم والمعارف والثقافات وإلباسها الثياب العربية , في حين أنه ليس بعربي , ومن ثم تنشأ أزمة في التعليم ونظريات التعلم , حال كون هناك علي سبيل المثال اللغة اللاتينية التي تعتبر بمثابة لغة موحدة لكافة الشعوب والأمم الناهضة بأمور التعليم وقضايا التعلم والنهضة , وفي خلال مسيرة التعريب ستسقط حتماً تلك المفردات اللغوية العالمية , ولن تجد لها بديل في اللغة العربية مما تحدث معه نتائج سلبية تؤدي إلي الإنتكاس والتخلف عن الركب الإنساني العلمي والحضاري .
وإذا كان التعريب بهذه المثابة التي تفرض ذاتها علي المتعلمين , وطلاب العلم والمعرفة من العرب مُلاك اللسان العربي فماذا سيكون غير العرب حينما يتعاملوا مع هذه العلوم والمعارف والثقافات المُعربة , والتي لاتنتمي إلي الألسنيات الغير عربية ؟!
وهذا السؤال يحمل في طياته الأزمات والتي يتوالد عنها صراعات لغوية وألسنية بجانب الصراعات الدينية , والأفضل تجنب مثل هذه الصراعات بتوحيد اللغة العلمية حسب منابعها الأصلية , والإبتعاد عن طريق التعريب , مع إستقلال أصحاب الألسن كل حسب لسانه ولغته التي هي بمثابة وعاء للفكر والثقافة والإبداع بما تحمله من مخيال تاريخي / ديني / ثقافي / معرفي , وما تحمله من عادات وأعراف وتقاليد وقوانين إجتماعية ودينية شتي تختص بها كل لغة / لسان .
وحسبما رؤية البعض ممن يرون الخلاص في التعريب فإنه :" يطالب بإنشاء مؤسسة قومية للترجمة تتبع أعلي سلطة في الدولة كجزء من المشروع القومي للتعليم وإنشاء مركز للمصطلحات العلمية في كل جامعة علي أن يقوم مجمع اللغة العربية بتوحيد المصطلحات العلمية بتعاون هذه المراكز كلما أمكن. يطالب بإنشاء مؤسسة قومية للترجمة تتبع أعلي سلطة في الدولة كجزء من المشروع القومي للتعليم وإنشاء مركز للمصطلحات العلمية في كل جامعة علي أن يقوم مجمع اللغة العربية بتوحيد المصطلحات العلمية بتعاون هذه المراكز كلما أمكن. (5)
وبالرغم من أن أصحاب طرح التعريب يبحثوا في أهمية وضرورة إنشاء مركزللمصطلحات العلمية في كل جامعة , وترجمة المصطلح العلمي الذي صار بمثابة لغة كونية حسب شروط العولمة والحداثة وما بعد الحداثة , نري من يطالب بهذه المطالب من باب الحرص علي اللغة العربية , وليس من بوابة الحرص علي التقدم والنهضة العلمية في كافة المناحي الحياتية , بأسباب راجعها للعرب أنفسهم , وليس بترجمة المصطلحات التي صارت مصطلحات كونية يمتلكها سكان المعمورة , وليس العرب أنفسهم أو حتي من أنتج هذه العلوم والمعارف وأنتج هذه المصطلحات لم تصير حكراً عليه وحده , سواء كان فرد أو موسسة أو حتي في مضمار الدول , إلا أن العرب مازالوا يصروا علي السير بإتجاه طريق العزلة والتقوقع بدوافع مهترأة مؤداه الحفاظ علي اللغة العربية لأنها لغة الدين والقرآن , ولا أدري ماذا يفيد اللغة والدين حينما يكون مُلاك اللسان العربي , ومعتقدي الدين الإسلامي ضعفاء هزلاء لايمتلكون أبسط مقومات حياتهم !؟
وبدلاً من أن ينعي أحد أعضاء مجمع اللغة العربية مدي التدهور العلمي والأخلاقي والسياسي الرازح علي كيان العرب والمسلمين إلا أنه يلقي باللوم علي الغرب والتغريب وأصحاب نظريات التغريب , ففي الوقت الذي يسعي فيه إلي التعريب نراه يلعن التغريب , ويقرر : أن الفرق بين التعريب والتغريب نقطة ولكنها نقطة سوداء بحجم الكرة الارضية تغشي عيوننا, فلا نري ما حولنا, وعندما حدثونا عن تنوير مصطنع , بدلوا هذه النقطة بقرص الشمس عند الظهيرة , فبدلا من أن ينير لنا الطريق , غشيت الأبصار فضللنا الطريق.(6)
وعلي هذا المنوال والنمط نري أن هناك من يذهب إلي أن مهندسو العولمة لهم أساليب ناجحة في الهيمنة والسيطرة عبر وسائل العلوم الحديثة والتقنيات الحديثة ووسائل الإتصالات , بدمج اللغات الأجنبية مع تلك الوسائل , وحسب هذا الزعم أري أن هذا من حق مهندسو العولمة وروادها , أما رواد اللغة العربية والتعريب فإن الفشل يسكن في طريقهم , ولم يستطيعوا حتي الأن في إنتاج مهندسين يتشابهوا مع مهندسو العولمة , ولذلك يري هؤلاء أن الحل التشريعي هو الحل بمعني أنه لابد من وجود حزمة من القوانين والتشريعات القانونية لحماية اللغة العربية وحماية الثقافة العربية من أجل الحفاظ علي الهوية والقومية والأمة العربية , وهذا كما أهتمت بعض الدساتير والقوانين العربية للحفاظ علي الدين والنص علي ذلك في مواد الدساتير والقوانين والتشريعات , وكأن هؤلاء هم من يدافعوا عن الله بالدساتير وجملة القوانين التي لم تثبت لها ثمة آثار علي أرض الواقع , سوي تطبيقاتها في بعض أوقات الكوارث والأزمات الطائفية بين أبناء الوطن الواحد , ولذلك يذهب البعض إلي أن : المشكلة إذن اجتماعية تحتاج إلى تشريع؛ فنسيان الذات خطر كبير يحدق بنا، وتعميق الانتماء والولاء الوطني واجب قومي. إن الوعي بالهوية القومية والعربية هو طوق النجاة الذي يعصمنا من الانجراف في مهاوي التبعية، ويحمينا من الانقياد الذليل وراء العولمة؛ فالعولمة واقع حي، وتأثيرها على النشاط الانساني والبشري بعيد المدى، ومن هنا يجب ألا ندخر جهدا في التخلص من سلبيات العولمة التي تؤثر في الوطنية والهوية الذاتية، وأن نعمل على إذكاء الشعور الوطني، وأن نحافظ على لغتنا بكل الوسائل والسبل ؛ حتى نحتفظ بكياننا أمام هذا التيار، ونحافظ على ثقافاتنا المحلية إزاءه ؛ لكي لا نذوب فيه، وتضيع مقومات شخصيتنا ، ونصبح صورا باهتة ممسوخة لا حياة فيها.(7)
وعلي هذا المنوال يري البعض أن :" شبابنا يجب أن تتاح لهم السبل للتعامل مع الثقافة العالمية بمنهجية واعية نقدية، تستطيع الانتقاء والاختيار. ولن يتأتى هذا إلا بتعزيز الهوية الوطنية والذاتية الثقافية عن طريق تعزيز اللغة القومية والعقيدة الدينية والثقافة التاريخية الوطنية. (8)
ولأن رهاب العولمة وتداعياتها الجارفة لكل القيم والمواريث الدينية والإجتماعية , ونطاقها الواسع في تحريك الشعوب والأمم بإتجاه طرائق للخروج علي أنماط الحياة التقليدية بكافة مواريثها وعاداتها وأعرافها وتقاليدها سواء بأبعادها الدينية أو اللغوية , نري الكثير من الباحثين يوجه سهام نقده للعولمة , من غير أن يتعرضوا للكيفية الناجعة للخروج من الأزمات والمصائب التي أحاطت بالعرب والمسلمين , لدرجة أن صاروا مثار للسخرية أحياناً , واحياناً كثيراً بمثابة رُهاب ديني يرعب غير المسلمين في بعض الأماكن أو الدول التي يتواجدوا بها , وصارت اللغة العربية حينما يتنامي إلي سمع غير العرب مفرداتها المنطوقة يحاولوا الإبتعاد أو الهروب عن مصدر اللغة المنطوقة , في ظاهرة سيئة أو بالغة السوء فيما تم التعارف عليه تحت مسمي الإسلاموفوبيا , ولذلك فإن الأزمة لاتكمن لدي غير العرب أو غير المسلمين تحت أي مسمي من المسميات , ولكنها تقبع في دار العرب وديار المسلمين , ومازال هناك من الباحثين من يري أن :" العولمة ليست موجهة نحو المال والاستهلاك فحسب ؛ إذ هي غزو ثقافي متكامل، لأنها موجهة إلى فكر الإنسان ولغته وثقافته، بفضل حيازتها معرفة منظمة ، ووسائل فاعلة لنشر هذه المعرفة. ومهندسو العولمة يستخدمون اللغة بوصفها وسيلة للإختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية، ثم خلخلتها من الداخل للقضاء على الموروث الحضاري الذي هو أهم مقومات الدول. ومن هنا يجب التأكيد على ضرورة الارتقاء باللغة والتمسك بالتعريب للحفاظ على ثقافاتنا وقيمنا الإيجابية المكتسبة على مر العصور. ولا بد أن يكون هناك إدراك واع لطبيعة الدور الخطير الذي يلعبه كل من التعريب والتغريب ، وطرق التوفيق بينهما واضعين نصب أعيننا نمو أمتنا العربية ومستقبلها وهويتها، والتواؤم مع التطورات التقنية بالغة التأثير والسرعة ، وسيادة تقنيات الاتصالات والحاسبات الإلكترونية والمعلومات والمصطلحات العلمية ، والتأكيد على اندماج اللغة والعلم والتقنية مع جميع المنظومات المجتمعية ؛ حتى يمكن التفاعل والتعامل الإيجابي مع متطلبات عصر المعرفة والتقنية والعولمة. (9)
وليس هناك وجه للغرابة حينما يقرر :" الدكتور نادر نور الدين الأستاذ بكلية الزراعة وأحد ممن أثروا المكتبة العلمية بكتب وترجمات عن الزراعة الحديثة كان له رأي مخالف تماما ويقول: التعريب موضوع فاشل تماما, وكل الدول التي عاشت هذه التجربة عزلت نفسها عن العالم وأصبحوا شديدي المحلية في علومهم وتقدمهم فلو تكلمنا عن مجال الزراعة مثلا نحن أصبحنا في ذيل الدول المهتمة بالزراعة والتقنيات الحديثة فيها وما يرتبط بها من علوم فنحن نأخذ كل تقنيات العلم الحديث من الغرب, وكل الدراسات والنشرات التي تصدر من مراكز البحوث العالمية تأتي باللغة الانجليزية سواء منظمة الصحة العالمية او الأغذية والزراعة وغيرها وما سيحدث في حالة التعريب أننا سنعزل أنفسنا عن العالم فهناك فرق كبير بين المترجم والمتخصص والأوقع إننا نحتاج لمزيد من الدراسات باللغات الأجنبية واستحداث شعب للدراسة بها, ففي بعض الكليات كان امرأ ملحا لان خريجي تلك الكليات كالحقوق أو الهندسة مثلا كانت تواجههم أزمات في الاطلاع علي المراجع الأجنبية أو حتي الاحتكاك الخارجي, في مجال الزراعة مصر لها دور ريادي بالنسبة للقارة الإفريقية عندما تطلب دولة افريقية خبير من مصر وهم يتحدثون الفرنسية والانجليزية ماذا أقول لهم أن مهندسينا لا يتحدثون سوي العربية!! هذا سيحد من دور مصر الإقليمي والدولي, سننغلق علي انفسنا. فيما يتعلق بالمجالات الجديدة في تقنيات الزراعة علي سبيل المثال كالبيوتكنولوجي أو علم الجينات من لديه القدرة أصلا علي ترجمة أو ملاحقة مصطلحاته وما يقال عن الاحتفاظ بالمصطلح بلغته داخل كتب بالعربية لا يصلح إلا عندما تقدم كتابا لقارئ عادي.
أنا شخصيا أترجم الكتب الحديثة في هذا المجال ولكن عندما تتحدث عن خبير تريده أن يحتك بالعالم ويأخذ منه ويشارك أيضا في البحث والابتكار, فلابد أن تسلحه بلغة العلم وان يكون لديه أدوات التواصل مع العالم واللغة هي أهم أداة تعطي الثقة في التعامل مع الاخر. (10)
وهذا الحديث عن التغريب والتعريب ينتج عنه مآسي دموية تصل في بعض الأحيان إلي الإتهامات ومنها الإتهام بالتغريب , وكأن التغريب صار تهمة أو بمثابة جريمة في مواجهة التعريب الذي صار لدي البعض فريضة دينية واجبة العمل بها والحث علي تفعيل تطبيقاتها , فمثلاً في موريتانيا حدثت أزمة بين مؤيدي التعريب ومؤيدي التغريب فقد :" ندد حزب الاتحاد والتغيير الموريتاني "حاتم" ب"اعتذار وزير التعليم للطلاب الزنوج حول قضية التعريب"، واعتبر الاعتذار " استهتارا واضحا بمشاعر الغالبية العظمى من أبناء الشعب الموريتاني العربي الإفريقي المسلم".
وأضاف في بيان صادر عنه اليوم الثلاثاء، أن الوزير "اعلن أنه لا نية لديه ولا لدى الحكومة الموريتانية الحالية في احترام أو تطبيق إحدى مواد الدستور الموريتاني النافذ، والتي تقضي بترسيم اللغة العربية، هذه المادة وهي السادسة من الدستور النافذ تؤكد على أن اللغة الرسمية لهذا البلد هي اللغة العربية"، واصفا تصريحاته بـ"المدانة بحكم الدستور والقيم والهوية".
وأكد أن الوزير "كان يسبح ضد التيار وان تصريحه سابقة هي الأولى منذ قيام الدولة الموريتانية". وطالب بما سماه "الإقالة الفورية لهذا الوزير تجاوز بتصريحاته المشينة تلك كل الثوابت الوطنية ، وعبر عن احتقار غير مسبوق للقيم الحضارية لبلاد المنارة العربية والرباط الإسلامي، حين ساوى بين احتفالها باليوم العالمي للغة العربية وبين احتفائه هو ومن على شاكلته باليوم الفرنسي للفرانكفونية"على حد تعبير بيانه.(11)
التغريب والتعريب والصراع الدموي : موريتانيا مثالاً !
ومثال موريتانيا من السهل أن ينطبق علي العديد من الدول المتعددة الإثنيات , ولذلك فإنها كمثال يحمل الإختلاف بين نوعين يتمثلان في العرب والزنوج , ولكل منها طابع خاص في أسلوب الحياة والتعليم والثقافة بجانب المعتقد , ولذلك فقد :" ظلت قضية التعريب في موريتانيا مثار جدل سياسي وعرقي منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960. وبعد سبع سنوات من الاستقلال حاول الرئيس الأسبق المختار ولد داداه إدخال اللغة العربية كمادة تدرس في المدارس النظامية، الأمر الذي أثار حفيظة مثقفي الأقلية الزنجية الذين اعترضوا على عملية التعريب، وأدى الأمر إلى مواجهات عرقية سقط فيها قتلى وجرحى.
ومنذ ذلك التاريخ ظل التعريب مثار قلق وتشنج في العلاقة بين الأغلبية العربية والأقلية الزنجية، قبل أن يقوم النظام العسكري الذي حكم البلاد، بعد أول انقلاب تعرفه البلاد سنة 1978، بإعتماد نظام تعليمي مزدوج، تم بموجبه فتح مدارس فرنسية وأخرى عربية ، فانقسم السكان حسب الأعراق بين تلك المدارس، مما قاد بعد عقدين إلى تخرج جيلين أحدهما عربي تلقى كامل تعليمه باللغة العربية، والآخر زنجي تلقى تعليمه باللغة الفرنسية، وبين الفريقين كان الإنفصام واضحاً وكانت القطيعة كاملة.
وخلال أواخر ثمانينيات القرن الماضي بدأت الأمور تسير نحو التصعيد، وأعلن نظام الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع حينها عن إحباط محاولات إنقلابية خطط لها ضباط زنوج، وكشف النقاب عن ما أسماه "مخططاً جهنمياً" كان الزنوج يحضرون له ضد الأغلبية العربية.(12)
ولذلك فإن وصف أزمة التعريب في موريتانياعلي أنها إشكالية عرقية بثوب لغوي, فقط, يتأتي من أن :" أزمة التعريب في موريتانيا بدت ظاهرياً وكأن الأمر خلاف طلابي عارض، لكن المتتبع لتاريخ العلاقة بين القوميتين العربية والزنجية يجد أن الأمر يعكس إشكالية هوية وتعايش عمقها انفصام ثقافي ولغوي عبر تاريخ موريتانيا الحديث
.(13) ولذلك :" ظلت قضية التعريب في موريتانيا مثار جدل سياسي وعرقي منذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960. وبعد سبع سنوات من الاستقلال حاول الرئيس الأسبق المختار ولد داداه إدخال اللغة العربية كمادة تدرس في المدارس النظامية، الأمر الذي أثار حفيظة مثقفي الأقلية الزنجية الذين اعترضوا على عملية التعريب، وأدى الأمر إلى مواجهات عرقية سقط فيها قتلى وجرحى.
ومنذ ذلك التاريخ ظل التعريب مثار قلقل وتشنج في العلاقة بين الأغلبية العربية والأقلية الزنجية، قبل أن يقوم النظام العسكري الذي حكم البلاد، بعد أول انقلاب تعرفه البلاد سنة 1978، بإعتماد نظام تعليمي مزدوج، تم بموجبه فتح مدارس فرنسية وأخرى عربية، فانقسم السكان حسب الأعراق بين تلك المدارس، مما قاد بعد عقدين إلى تخرج جيلين أحدهما عربي تلقى كامل تعليمه باللغة العربية، والآخر زنجي تلقى تعليمه باللغة الفرنسية، وبين الفريقين كان الانفصام واضحا وكانت القطيعة كاملة.
وخلال أواخر ثمانينيات القرن الماضي بدأت الأمور تسير نحو التصعيد، وأعلنت نظام الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع حينها عن إحباط محاولات انقلابية خطط لها ضباط زنوج، وكشف النقاب عن ما أسماه "مخططا جهنميا" كان الزنوج يحضرون له ضد الأغلبية العربية. (14)
ولأسباب راجعها التغريب والتعريب تم إعدام مايزيد علي 500 عسكري موريتاني من الزنوج من جانب سلطة الحكم الموريتانية بمزاعم التدبير لإنقلاب عسكري ضد من في السلطة من أصحاب نظرية التعريب في العام 1989 ولذلك فقد :"بلغ التوتر ذروته وانفجر الوضع عام 1989، وقد تجلى ذلك بداية في خلاف بين موريتانيا وجارتها السنغال، تحول إلى استهداف مواطني كل من البلدين في البلد الآخر، وتطور ذلك بسرعة إلى استهداف متبادل بين العرب والزنوج، قتل فيه عشرات الزنوج الموريتانيين، وأبعد الآلاف إلى السنغال وفر آخرون إلى مالي، وخلال سنتي 1990 و1991 اعتقلت السلطات المئات من العسكريين الزنوج بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، وأعدمت منهم ما يربوا على 500 عسكري ـ حسب إحصائيات بعض المنظمات الحقوقية ـ دون محاكمة، وسرح المئات من وظائفهم.
وبعد انتخابات 2007 أعلن الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، أن الدولة تتحمل كامل المسؤولية عن تلك المظالم، ووعد بإنصاف الضحايا وإعادة حقوقهم إليهم، وبعد الإطاحة به في انقلاب عسكري قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز (الرئيس الحالي) أعلن هذا الأخيرة مواصلة عملية إعادة حقوق الزنوج، فتواصلت عمليات إعادة المهجرين منهم قسرا إلى مواطنهم الأصلية، وقام عبد العزيز بتوقيع اتفاقية مع بعض المنظمات التي تمثل ذوي الضحايا، تقضي بالتعويض لهم وإعادة الموظفين المسرحين إلى وظائفهم.(15)
وليس بغائب عن الحاضر المعاش في المغرب كذلك حيث تواجد العرب والبربر والزنوج , بجانب العراق وسوريا ولبنان , واليمن ودول الخليج , التي تتنامي فيها العديد من اللهجات التي تكاد تكون متخاصمة مع اللغة العربية .
وإذا كانت اللغة حسب تعريف البعض بأنها من :" أبرز مقومات الشخصية؛ فهي الإطار الذي يحفظ كيان أصحابها ويحدد هويتهم، وهي العمود الفقري للقومية، فضلا عن أنها مرآة العقل ووعاء الأفكار والمشاعر، وأداة التفكير وتحديد المقاصد ، وأساس ولادة الحاسة العلمية والفنية وتكوين التصورات الذهنية . وهي ميراث اجتماعي متطاول، وخط اتصال للتجارب العامة والخاصة، كما أنها وسيلة النمو العاطفي والنضج الذهني، وأهم مظهر يتجلى فيه إبداع أبناء الأمة. فضلا عن أنها من أهم الوشائج الاجتماعية بين أبناء الأمة؛ إذ هي وسيلة تخاطبهم التي تقوم بها الصلات والروابط. (16) إلا أن المصيبة الأكبر تكمن في أن هناك من يعتبر أو علي وجه الصحة يعتقد أن اللغة لها حرمة , وتقع تحت باب الحرام والحلال , وكأنها ينطبق عليها قواعد وأحكام دينية , وتسري تلك الأحكام والقواعد علي من يخالفها , ولذلك ونتاج للأزمة الموريتانية يري :"أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة في جميع المراحل الدراسية، أو على الأقل، إلى حد مرحلة الشهادة الثانوية، وأن لا نشاهد العربية في منافسة ومساواة مع اللغات الأخرى بدرجة تسلبها قيمتها ومكانتها وحرمتها كلغة رسمية لدولة ذات سيادة .(17)
ويلخص أزمة التعريب والتغريب الأستاذ / سليمان إبراهيم العسكري في دراسة له منشورة علي الشبكة العنكبونية تحت عنوان : عن أي تعريب نريد !؟ , فيطرح كلمة تحوز قدر من الغرابة والإبهام في عالم الطب , وذلك في حال تعريبها وهي كلمة "( المعثكلة) , حيث :" سيتصوّر كثيرون أن ثمة خطأ في كتابة الكلمة السابقة, وكثيرون لن يذهب بهم التصوّر في هذا الاتجاه, لكنهم سيعتبرون الكلمة لغزًا أو معضلة لغوية.
أما القليلون, والقليلون للغاية, فهم الذين سيعرفون أن (المعثكلة) هي كلمة عربية تعني (البنكرياس)!, وبينما يستطيع تلميذ في العاشرة من عمره أن يعرف كلمة (بنكرياس), فإن كثيرين من أساتذة الطب سيندهشون عندما يكتشفون ما تعنيه كلمة (معثكلة), وربما يحتجّون أو يسخرون عندما يكتشفون أن الكلمة تستخدم في التدريس لطلبة بعض كليات الطب التي عرّبت التعليم الطبي.
هذا المثال الموجز, واضح الدلالة, وقد يلخص المفارقة بين منطقية المطلب وغرابة تحقيقه, في قضية شائكة مثل قضية التعريب, التي لا يماري أحد في أنها تشكّل أزمة من أوضح الأزمات العربية في المجال المعرفي, بل في مجالات الحياة المعيشية اليومية التي تتداخل في نسيجها أجهزة ومواد وبرامج ومفاهيم تطلبت التعريب أو تتطلبه. أ.هـ
وهذا مثال لما يطمح إليه حاملي لواء التعريب في مواجهة هجمات التغريب حسب تصورهم الذهني الملتبس والمملوء بالرعب من كل ما هو غير عربي أو غير إسلامي . والمحاولات المتكررة والفاشلة عبر الإنكفاء والإنغلاق علي الذات لإعادة إنتاج الهوية والقومية علي أساسها الجغرافي / الأرضي , والأساس الديني / السماوي , عبر قنطرة اللغة , ولذلك يري البعض أن هناك العديد من الدروس المستفادة تاريخياً من تجارب التأسيس للدولة القومانية ذات الهوية الواحدية المغلقة والتي لاتقبل بغيرها من الهويات سواء علي وجه الأرض أو في السماء , ولذلك فهكذا :" تعلمنا دروس التاريخ القريب أن كل محاولات صياغة هوية مغلقة عبر صياغة الدولة /القومية او الدولة /الدينية او حتى الدولة /الطبقة، كانت تتأسس بمقتضى ايديولوجية إكراه، وانها كانت تبنى على انقاض الامة /السياسية الوعاء الوحيد للديموقراطية والتقدم في ظل العولمة والمعلوماتية ووحدة السوق ونقص سيادة الدولة، وان تلك الدول سرعان ما كانت تتحول الى اضطهاد للخصوم السياسيين والاقليات، وفي النهاية تبديد المجتمع والوطن . (18)
الجزائر كمثال !
وهناك مثال واضح صريح متمثل في الأنموذج الجزائري الباحث عن الإستقلال عبر إعادة إنتاج الهوية من جديد , بعد الحقبة الفرنسية الإستعمارية ومع ذلك فإذا :"كان معنى الاستقلال هو إقامة وطن لكل الجزائريين ومشروع للحرية والتقدم عبر الممارسة السياسية الكاملة للمجتمع ، ولكن الدكتاتورية العسكرية والعقل الديني لجمعية كبار العلماء وخريجي الزوايا والزيتونة والازهر، وجماعة الاخوان المسلمين، أي عقل ما قبل الفلسفة وما قبل العلم بالتالي، أي ما قبل حقوق المواطن الفرد ، وما قبل المجتمع المدني ، وما قبل الديموقراطية ، سعيا معاً لتحويل المجتمع إلى جماعة للطاعة الايمانية وجماعة للطاعة السياسية تأسيسا على ذهنية معسكرات التجمع وتحت مبررات واهية من نوعية ‘ان الاسلام عرَب الجزائر ‘، وهل الاسلام يعرب ؟ ولماذا لم يعرب إيران وتركيا وإندونيسيا؟ أو حتى االأكراد والبشتون ؟ .. (19)
ولذلك كان المنتج الحقيقي علي أرض الواقع بمصاحبة تيار التعريب وإعادة إنتاج الهوية المنغلقة علي الذات والرافضة للحداثة والتجديد والغير مرتبطة بأبجديات العصر الحديث في كافة مناحيه العلمية والتكنولوجيا , وكذلك نظرياته الإجتماعية والفلسفية الحديثة التي تؤسس لعالم مابعد الحداثة أو كذلك مابعد العولمة التي ربطت الكرة الأرضية بسياج من المعرفة والإتصال لدرجة يستشعر معها الإنسان أنه يعيش في إطار حجرة واحدة وليس في إطار الكرة الأرضية بقاراتها المتوحدة عبر قناطر الإتصالات الحديثة والثورة المعلوماتية الجبارة .
هذه الهوية القومية تؤسس في حد ذاتها لإرتكاب العديد من الجرائم لأنها تخلق لها آخر مضاد في اللغة والدين بداءةً , وفي النوع واللون والجنس والجهات الجغرافيا , بما يحمله كل آخر من معايير ثقافية ومعرفية مبنية علي أسس علمية أو دينية وأخلاقية أنتجت العديد من العادات والأعراف والتقاليد والمواريث الإجتماعية والدينية بجانب الأساطير التي لها أهمية في حياة الأخر , والتي تتصادم مع مفاهيم العروبة والإسلام مما يؤسس في النهاية إلي صراعات دموية كما تم في أماكن جغرافية عديدة في العالم العربي / الإسلامي , ومعه تخومه الإسلامية الغير ناطقة باللغة العربية .
وأشرنا في البداية إلي النموذج العراقي والموريتاني , وفي تنويه بسيط إلي النموذج الجزائري ..
ولذلك فإن مشروع التعريب بمثابة صدي صوت للمنادين بالإستبداد والطغيان والتأسيس لدوائر الفساد , لأن هذا المشروع يبني علي الثقافة الواحدية والرؤية الواحدية , وبالتدقيق في المنادين به نجد أنهم من :" الطبقة الوسطى (قبل تدميرها )والقبائليون واليسار والتكنوقراط والليبراليون ورجال الاعمال، وهذا يؤكد ان التعريب كان مشروعا سياسيا وانحيازا شعبويا لتفريغ الشارع السياسي والإطاحة بالبديل المدني، وكان من الطبيعي في ظل ايديولوجية الإكراه تلك ان يولد الفراغ السياسي والإرهاب معا . (20)
وفي دراسة أنتجتها ومنشورة في العديد من المواقع الإليكترونية مؤداها أن الإرهاب هو الوجه الآخر للإستبداد , وما العروبة والأسلمة حسب رؤية البعض إلادليل عجز وقصور في التعامل مع الآخر اللساني أو الآخر السماوي , أو أي آخر تنتجه القومية العربية والأممية الإسلامية علي حد سواء !
ولذلك فهناك آخرون يرون :" أن تكون عربيا يعني أن تكون طائفيا، يطارك الخوف من الاندماج في كل ما هو جديد أو بعيد عن مسقط رأسك. لا تركز على الشخص الذي يقف أمامك بقدر ما تسائل فيه طبيعة انتمائه إلى شجرة عائلته، ففي هذه يذوب من يكون فيمن كان قبله. التركيز المفرط على الأنساب يقود العربي إلى تمجيد الماضي حد التقديس، وتخوين الحاضر حد التدنيس. أن تكون عربيا يعني أن تحتفل بالموت وتستهين بالحياة. فالموت تاج على رأس العربي، لذلك تسرع المؤسسات العربية إلى تكريم وإذاعة صيت من يموت حتى وإن كان نكرة في حياته. والعكس صحيح؛ يتم نبذ الحي حتى وإن كان من أندر العباقرة، مع تحفظنا في وجود العبقرية طبعا في هذا العالم الناطق بالعربية. أن تكون عربيا يعني أن تحارب الإنسانية من أجل العروبة. أن تقتنع بأن العروبة أعم من الإنسانية، وأن العالمين أجمعين أخصّ من عالم العرب. أن تكون عربيا يعني أن تعيش تناقضا هائلا؛ فأنت تمارس الكهنوتية الدينية، لكنك لا تعترف بها. تعتقد بأنك خير أمة، وفي نفس الوقت تعيب على الاخرين أن يعتقدوا بأنهم شعب الله المختار أو غير ذلك. تدعي نشر الاسلام، لكنك تنشر العروبة أولا وأخيرا، ثم تكون أنت أول الخارجين عن الإسلام، ولكن كلما حاول غيرك أن يلحق بك اتهمته بالإلحاد، لكنك لا تعلن بأن إلحاد العروبة هو الوحيذ الذي يهمك، بل يخيل إليك بأن إلحاد الإسلام هو الأهم. يناقشك الناس حول أفعالك وأنت ترد عليهم حول أوهامك. فأنت دائما على حق في أوهامك، ولن يتسنى لك أن تدرك الفرق بين أوهامك وأفعالك ... (21)
ولأن العروبة بمثابة دين لدي البعض وصارت وعاءاً قومياً يضم كافة الناطقين بلغة الضاد , فهذا أحد التقدميين يري ويقرر أنه هو الوصي علي الأمة العربية حسب وصفه الذي يقرر بأن :" القومي التقدمي لا يخاف الا الله وحده .
القومي التقدمي ؛ في غياب التنظيم القومي يعتبر نفسه وصيا ًعلى الأمة العربية .
القومي التقدمي لا يرى إلا ذات الحسنيين : نصر الأمة العربية أو الشهادة في سبيلها .
القومي التقدمي أخلاقه الإسلام : لا يكذب ؛ لا ينافق ؛ لا يخادع ؛ لا يتخلف ؛ لا يتردد ؛ و لا يتوانى ....... " أ .هـ
وهذا التقدمي يخلط بزعمه هذا بين الإسلام الدين والعروبة اللغة , وكأن العروبة في حد ذاتها مختصرة علي المسلمين وفقط !!
وهذا يدلل علي أن مشروع التعريب والقومية ليست سوي مشروعاً سياسياً ينادي به الطغاة المستبدين , لإغماض عيون العرب والمسلمين العرب وغير العرب عن القضايا الحيوية التي تمس حياتهم وكيانهم الإنساني وحرياتهم وكرامتهم , لأن القومية العربية حسب المفهوم السياسي يستحيل أن تجد لها موطيء قدم علي أرض الواقع مع تعدد الأنظمة السياسية العربية من الممالك والإمارات والسلطانات والجماهيرية والجمهورية , وكل هذه الأنظمة يغيب عنها الديمقراطية وتتخاصم مع المواطنة , ولا تقبل بالمساواة في المواطنة وتكافوء الفرص , لأنها جعلت من عمادها اللغة والدين الإسلامي في مواجهة كل الرافضين للسلوك الإستبدادي الطغياني الذي تمارسه تلك الأنظمة , والسؤال الذي يلح علي البال : " هل يمكن أن تنطوي الأنظمة العربية في الحكم والسلطة تحت لواء سياسي واحد مع إختلاف تلك الأنظمة عن بعضها سياسياً بداية من المملكة والإمارة والسلطنة والجماهيرية والجمهورية , أم أن ذلك ضرب من المستيحل ؟!
بالفعل هو ضرب من المستحيل , ولكن علي غير ذات المضمار من الممكن أن تسير العروبة في إتجاه العروبة الثقافية , لا العروبة السياسية ولكن :" لو كان التعريب مشروعا ثقافيا لاستفاد من أي مشروع ثقافي آخر، سواء كان فرنكوفونياً، او أمازيغياً او بحر متوسطياً، ذلك ان التعدد الثقافي هو أحد وجوه التعدد السياسي، ولا يمكن لمنصف ان ينكر ان هناك قراءة بربرية وفرنسية وبحر متوسطية للمغرب ككل، بالإضافة إلى القراءة العربية، مع ملاحظة ان التبادل السكاني تم في الإتجاهين بين المغرب وكل دول أوروبا، وأن التداخل الثقافي محتوم كما أنه ظاهرة بشرية إيجابية وربما كان ذلك ما رصده فرحات عباس بقوله : ‘يقولون عني أنني عميل فرنسي، ولكن الحقيقة أنني أحمل ثقافة فرنسية، لقد علمتني الثقافة الفرنسية معاني راقية للحياة ، وأفهمتني قيم الديموقراطية والإنسانية الحقيقية ، ولذلك أصبحت مخلصاً لها .(22)
وعلي هذا المنوال لايمكن التنكر للغة / اللسان العربي , مع تعدد الثقافات سواء الفرانكوفونية أو غيرها من الثقافات الأخري .. وكذلك تعلم وإتقان لغات أخري غير اللغة العربية وصولاً لثقافة الآخر والتعرف عليه والبحث في أسباب نهضته العلمية والتكنولوجية , وكافة الأبعاد والمسارات الثقافية الأخري .
وهذا لا يتأسس إلا في ظل مناخ يسمح للتعددية السياسية التي هي في ذات الوقت وجه آخر للتعددية الثقافية بكافة مشاربها وألوانها اللانهائية , وكذلك مناخ الحريات الفردية والإجتماعية لكسر ربقة الإستبداد والطغيان ودوائر الفساد وصولاً للديمقراطية وتداول الحكم والسلطة والتأصيل للعمل والإنتاج والأدوات التي تخدم علي تعاظم العملية الإنتاجية , والإيمان بحرية السوق مع العدالة الإجتماعية ورعاية الطبقات المهمشة أو ذات الطبيعة الجسمانية أو العقلية والنفسية الخاصة .
وعلي هذا المنوال يذهب البعض في رؤاه المتبصرة إلي ضرورة التحول بالتعريب وبالمفهوم القوماني اللساني إلي الديمقراطية, حيث أن الإبداع في غالب الأحيان فردي , وليس جماعي , والمخترعات والإكتشافات فردية ’ وليست جماعية , ولذلك يذهب البعض إلي أنه :" إذا كان المجتمع في الأمة /السياسية ليس تكراراً لفرد واحد صالح أو مثالي، كما في الذهنية الفاشية، وأنه حاصل جمع حريات وإبداعات أفراده في الذهنية التي تبغي التأسيس للحضارة والانسانية ، فهل يمكن أن يتحول التعريب الى مشروع ديموقراطي ؟(23)
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع