عشنا دهرا، نستفيء في ظل قناعات المواطنة وإخوة التراب، وفي أول عارض احتكاك بيننا، مرضت قناعتنا، هرمت وماتت.. سقطنا جميعنا في امتحان الدم.
القناعات كائنات حية أيضا.. تولد، تشيخ، تمرض، تتعافى، تموت، تعمّر، السواد الذي يجلب المجتمعات العربية، يفرض البحث عن إعادة تموضعها في أنساق السلوك العامة.
كنا نعيش ظاهرَ القناعة، لا جوهرها.. لم نختبرها، كنا مقتنعين بأن داعش وملحقاتها حركات إرهابية متطرفة.. الاختبار أثبت أن القناعة (لم يتفق عليها الجميع) محض وهم ليس إلا.. ما هو التوصيف الدقيق لما نشهده اليوم؟.. هشاشة القناعة؟.. انزياحها؟.. تلاشيها؟
لم تكن ركنًا ركينًا من نسقنا القيمي.. هي تبدلت، وهذا حقها، لكنه تبدل للخلف، هو النمو السالب.. لو كانت محركًا للسلوك، لما صفق أحد منا لداعش، وهو يطرح «ألبوماته» الجديدة عن حفلات إعدامه للأبرياء.. أين يصنعون القناعة؟.. من؟.. كيف؟
وعلى ذكر همج العصر، أقول إن كثيرين غيّروا رأيهم في مهنية «الجزيرة» ومسحتها الأخلاقية «المناصرة لحراك الشعوب العربية»، فقد «تفاجأوا» بأنها تسمي الدواعش «تنظيم الدولة الإسلامية»، في حين كل القنوات تطلق عليه اسمه «الرشيق» داعش إلا جزيرة قطر.
أنا أميل إلى الاعتقاد بأن داخل كل منا ذئبين، أحدهما خيّر فيما الآخر شرير.. الغلبة والسيطرة لمن تطعمه أكثر، أقواهما يحدد مصيرك، في مستنقع للدم، أو في معهد للتقانة.
والتغذية مشكلة المشاكل، فصاحب الذئبين، لا يستفرد بقرار إطعامهما منفردا.. ثمة مناخ عام يشارك أيضا بالمهمة: الميديا، المدرسة، النوادي الرياضية، الشارع، الجامعة.. إلخ. كلها "مربيات" يساهمن في عملية التنشئة.
ثمة خيط، قد يبدو غير مرئي، بين أن تكون القناعات كائنات حية، بملامح تحددها، وبين أن تكون هلامية، فاقدة لبُعدها الاخلاقي.. فأن تكون كائنًا حيًا، ليس بالضرورة أن تنتمي إلى فئة الوحوش الكاسرة.
القناعة وقد أفقدها الكثيرون سماتها، تحولت على يد كثيرين إلى منتديات لتحوّل النوع، من حمامة بغصن أخضر في منقارها، إلى مرحلة القوارض، وصولا إلى تقمص ميكانيزمات «التحول والنمو» عند الأفعى.
كم من فريق متجانس تحدث عن الدين، وعلى أنه لله فيما الوطن للجميع.. وحينما انفرد في الأمر والنهي، بدّل جلده، وانتقل من مربع شعاراتي، مساواتي، ديمقراطي، إلى مربع احتكاري، أحادي، إقصائي، لا يحتمل القسمة على اختلاف.. بقفزة واحدة انتقل من «المشاركة» إلى «المغالبة».
القناعات، الأفكار، الإيمان، وكل ما يقع في الجزء الأسمى، المسمى رأسا، قابل للنمو والتغيير، فأرسطو لم يجد فوارق بين الإنسان والبقرة، سوى في أن البقرة تعيش من مولدها وحتى نفوقها كبقرة!.. فيما بعضهم يبدّل قناعاته كجواربه.
تبدّل الأفعى جلدها عدة مرات في أسابيعها الأولى؛ لأنها تنمو ولا ينمو.. تتخلص منه بالخلع.. أصحاب القناعات، الفقاعات، لهم في ناموس الأفعى الغريزي هاديا ومرشدا، هي سيرورة البقاء «للأصلح» في عالم الحيوان.. ففي هذا العالم، الحية التي لا تستطيع تغيير جلدها تهلك.
نقلا عن فيتو