بقلم: د. محمد مسلم الحسيني -بروكسل
 المتابع للوضع السياسي وللحراك الدائر في تشكيل الحكومة بعد انتخابات ديمقراطيّة جرت في كل من "العراق" و"بلجيكا"، يجد تشابهـًا في مسارات هذا الحراك؛ فرغم أن "بلجيكا" هي من دول أوربا الغربية المتطورة بتقنيتها وحضارتها وعمق جذورها الديمقراطيّة، إلاّ أنها داخلة في دوامة ومأزق وخلاف بين السياسيين يجعل تشكيل حكومة بلجيكيّة أمرًا صعبـًا ومعقدًا.

 ورغم أنها عضو مؤسس في دول الاتحاد الأوربي وتقود أوربا اليوم، حيث أصبحت منذ مطلع شهر تموز -"يوليو"- الماضي رئيسًا لدول الاتحاد الأوربي ضمن القيادة الدورية لدول الاتحاد، إلاّ أنها غير قادرة على قيادة نفسها، بل تقودها حكومة مؤقتة؛ أي حكومة تصريف أعمال، وهذه مفارقة لا يغفل عنها المتابعون.

 نفس الحالة يشكو منها المجتمع العراقي اليوم، حيث تتنازع قواه السياسيّة على كراسي الحكم، مما يعطي صورة متشابهة بين البلدين تدعو إلى التأمل والبحث والتحليل في ميكانيكيّة هذا التشابه، رغم التباين الكبير في خصوصيّات هذين البلدين.

 "بلجيكا" دولة حديثة نسبيّـًا تأسست عام 1831م، وهي دولة هجينة تتآلف من ثلاث شرائح قوميّة مختلفة هي: "القوميّة الفلمنكيّة"؛ وتتكلم اللغة الفلمنكيّة المشابهة تمامـًا للغة الهولندية، وتشكل ما يقارب الـ59 في المائة من السكان، و"القومية الوالونيّة"؛ التي تتكلّم اللغة الفرنسية، وتشكل 40 في المائة من السكان، ثم "القومية الألمانية"؛ التي تتكلم اللغة الألمانية، وتشكل نسبة قليلة توازي الـ1 في المائة من نسبة السكان.

 أما في "العراق" فالصورة متشابهة من حيث التركيبة الاجتماعية، حيث يتقاسم أرض "العراق" قوميات وأديان وطوائف متباينة، أهمها "العرب الشيعة"؛ الذين يشكلون -وحسب إحصائيات قديمة.. إذ لا تتوفر إحصائيات حديثة دقيقة- ما يقرب من 54 في المائة من نسبة السكان، و"العرب السُّنة"؛ حوالي 22 في المائة، و"الأكراد والتركمان"؛ الذين يشكلون ما يقارب الـ18 في المائة، بينما تشكل الأديان والأقليات الأخرى ما يصل الى 6 في المائة من نسب السكان بشكل عام.

 الصراعات السياسيّة في ظل التأريخ الديمقراطي في "بلجيكا" يمتد عميقـًا؛ أي منذ بداية تأسيس هذه الدولة، حيث تعرضت "بلجيكا" إلى مطبات سياسيّة كثيرة أوشكت أن تؤدي إلى تقسيم هذا البلد، دعوات التقسيم هذه ما تزال قائمة حتى هذه الساعة، فهناك مَن يدعو إلى فصل البلاد إلى ثلاث مقاطعات رئيسية، وهي "المنطقة الفلمنكيّة" في الشمال، و"المنطقة الوالونيّة" في الجنوب، و"منطقة بروكسل" في الوسط.

 الدعوة لهذا التقسيم تشابه الدعوة لفيدرالية المناطق في "العراق"، والتي قد تتحول إلى نواة للتقسيم والانفصال الكامل؛ لأنها ستكون على أسس قوميّة وطائفية، وهي تعني أن يقسم "العراق" إلى ثلاث مناطق رئيسيّة أيضًا: "المنطقة الشمالية" للأكراد، و"المنطقة الوسطى" يتقاسمها العرب السّنة والشيعة، و"المنطقة الجنوبيّة" للعرب الشيعة.

 ازدياد نبرة الدعوة إلى التقسيم وتعالي الأصوات للانفصال في "بلجيكا" تعتمد اعتمادًا مركزيـًا على الحالة المادية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، والتفاوت الحاصل في البنية الاقتصادية  والمادية بين الشرائح المتباينة في "بلجيكا" تعتبر نقطة الإنطلاق في السجالات السياسية والنزاعات المستمرة، الفلمنيكيون هم الشريحة الأغنى في المجتمع البلجيكي، ويعتبرون أنفسهم كبش فداء للوالونيين الذين يعتاشون ويستفيدون من الرفاه الاقتصادي والمادي الفلمنكي.

 بدأ صبر الفلمنكيون ينفذ جراء المساعدات السخيّة المستمرة إلى قرنائهم الوالونيين الذين ينغمسون بهوّة الديون والمطاليب الماديّة غير المنتهيّة، كما أن اللغة الفرنسية بدأت تطغى على اللغة الفلمنكيّة، مما يهدد التراث الفلمنكي الذي يعتزون به ويودون الحفاظ عليه.

 التشابه مع الحالة العراقية واضح في هذا المضمار، ففي "العراق" ثروات طبيعية كثيرة يتركز قسم منها في مناطق دون أخرى، ربما ستكون السبب الرئيسي في أي نزاعات سياسية تحصل أو تكون مدعاة لدفع بعض القوميات أو الطوائف إلى الانفصال والتشرذم من أجل الاستحواذ على مردودات هذه الثروات وحصرها بهم.

 وهكذا فإن أسباب النزاعات السياسية في "بلجيكا" موجودة بنفس الصورة في "العراق" أيضًا؛ فكلاهما مركب اجتماعي متباين في قومياته ولغاته وتوجهاته، وكلاهما له موارد تتباين في التوزيع والموقع والنسبة.

 هذا التباين الصريح في الحالة المادية الاقتصادية والحالة الاجتماعية في مجتمع واحد، وتحت نظام الديمقراطيّة، قد يسبب مشاكل سياسيّة معقدة قد تؤول إلى تطلّع البعض للانفصال والانسلاخ من النسيج الاجتماعي الواحد، الذي يضم هذه الشرا ئح المتباينة.

 رغم هذا التشابه في أسس التباينات السياسية بين السياسيين في هذين البلدين، إلاّ أن الوضع السياسي العراقي يتعرض إلى مخاطر إضافية وعوامل خارجيّة وداخلية تزيد من حدّة الأزمة وتفاقمها، وهذا ما يجعله مختلفـًا في بعض الأمور عن الوضع السياسي البلجيكي.

 "بلجيكا" وعاصمتها "بروكسل" تعتبر العاصمة الفعلية لأوربا، فأوربا الموحدة لن تسمح بأي خلل سياسي أو تشرذم يحصل في عاصمتها، أي أن المحيط الخارجي المتمثل بدول الجوار ودول الاتحاد الأوربي والدول الغربية الأخرى بشكل عام، لا يشجع الإرباك السياسي في هذا البلد، بل يردع أي تطورات سلبية قد تفضي إلى التشرذم والتقسيم.

 عكس الحالة العراقية تمامًا، إذ أن دول محيط "العراق" والدول الخارجية بشكل عام بين جار ومجرور في الشأن العراقي، وهذا ما يزيد حدّة الملابسات والاختلافات السياسيّة في هذا البلد.

 هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن من المفارقات التي تتميّز بها الحالة العراقية في الوقت الراهن، هو عدم نضوج مفهوم الديمقراطية في عقول ونفوس بعض السياسيين العراقيين؛ فظاهرة "شبق السلطة" وحب الأنا وعدم التسليم بالرأي الآخر، وبناء هيكل الديمقراطية على أسس دكتاتورية، أي نشوء حالة الـ"الدكتوقراطيّة"، إن صحّ التعبير، وقلة الوعي الديمقراطي بشكل خاص والوعي الاجتماعي بشكل عام، كلّ ذلك يجعل تأزم الحالة في تفاقم مستمر.

 فالذي يراقب الحالة العراقية عن كثب قد يصعب عليه أن يرى سيناريوهات مثالية تصنع من الوضع الحالي دولة مستقرة موحدة آمنة، في ظل التشرذم السياسي الداخلي وصراع الأقطاب الخارجي.

 من هنا نستطيع أن نستخلص ونستنبط ومن خلال الوضع السياسي في كل من "العراق" و"بلجيكا" الدروس والعبر التالية:

أولاً: إن تطبيق الديمقراطية في بلدان فيها تباين اجتماعي هام هي عملية حساسة وخطيرة للغاية، إذ قد يولج البلد غير المحضر لها تحضيرًا علميـًا صميميـًا وحقيقيـًا في متاهات ومصائب لا تحمد عقباها، لأن وجود تباينات عرقية أو لغوية أو دينية أو طائفية في المجتمع الواحد كفيل بدفع هذه البلدان في ظل ديمقراطية هشّة وغير منظمة إلى نزاعات سياسية محتدمة، قد تقود إلى تقسيم البلاد وتفتيتها، أو إلى الولوج في أتون حرب أهلية.

 حتى الدول المتقدمة نسبيّـًا في العالم قد فتتت الديمقراطية الأواصر الموجودة بين شعوبها وقسمتها، ففي ظل الديمقراطية غدت "تشيكوسلفاكيا" السابقة دولتين، و"يوغسلافيا" السابقة  دويلات، و"الاتحاد السوفيتي" السابق دول، كما أن "إقليم الباسك" في "أسبانيا" يسعى للاستقلال على أسس عرقية عن "أسبانيا"، و"أيرلندا الشمالية" تتوق للانفصال عن "بريطانيا" لأسباب طائفية، والتقسيم على أساس اللغة في كل من "بلجيكا" و"كندا" أضحى قاب قوسين أو أدنى ما لم تنتبه الشعوب على نفسها.

ثانيـًا: رغم أن الأسباب الظاهرية للأزمات السياسية بين السياسيين تتبرقع ببرقع العرق أو اللغة أو الطائفة أو الدين، إلاّ أن الأسباب الكامنة والحقيقية من وراء الحركات الإنفصالية هي غالبـًا ما تكون مادية إقتصادية بحته، فإن كانت على سبيل المثال كتلة من مجتمع ما تتمتع برخاء اقتصادي أكبر من الكتلة الأخرى الموجودة في نفس المجتمع، فسوف نرى طلبات الانفصال والتقسيم صادرة عادة من الفئة الغنية وليس الفقيرة.

  كما أن الفئة الفقيرة في ذلك المجتمع تكون عادة الأكثر تماسكـًا والأشد التصاقـًا بعرى التماسك والالتحام.

 فالفلمنكيون هم الأغنى اقتصاديا في المجتمع البلجيكي، والوالونيون هم الأفقر، والفلمنكيون هم من يشتكي من عبء الوالونيين المادي عليهم، إلى درجة أن بعضهم يرنو إلى التقسيم والانفصال!

ثالثـًا: من أجل إرساء أسس الديمقراطية الحقة في بلداننا التي لم تر نور الديمقراطية بعد! على رواد الديمقراطية ومناصريها أن ينتبهوا إلى ضرورة توعية شعوبهم بأسس الديمقراطية الصحيحة، وأن ينشروا مبادىء ثقافة الديمقراطية كي لا تنخدع تلك الشعوب وتقع فريسة سهلة بين براثن المتطرفين والمتشددين أو الفئويين وعشاق الذات.

 ولكي لا تصبح الدكتاتورية المرّة العنيدة أبهى وأنسب من الديمقراطية الهشة الجديدة؛ فيضيع الخيط والعصفور وتخرج الشعوب المتعبة من صحراء الدكتاتورية الجافة لتدخل في نار الديمقراطية الحارقة، ويصح عندها المثل القائل: "كالمستجير من الرمضاء بالنار"!!