لا أدرى لماذا تأخذ أخبارا حظها من الاهتمام العام، وأخرى لا تجد إلا عدم الاكتراث؟ واحد من هذه الفئة الثانية لفت نظرى بشدة، وفحواه أن عاصفة كبرى قامت بين الشباب الذى دخل امتحانات الثانوية العامة الأزهرية، لأن النتيجة كانت أن ٢٨٪ فقط ممن جرى امتحانهم نجحوا فى الامتحان. جرت مظاهرات واعتصامات، وبكت أسرات لهذه الحالة من الفشل، مما استوجب تعليقا من السلطات المسؤولة فى الأزهر أن ضآلة عدد الناجحين تعود إلى النجاح الذى تحقق فى منع الغش داخل اللجان، ومن ثم كانت النتيجة على ما ظهرت عليه والتى تختلف جذريا عن السنوات السابقة.
كان ذلك أول اعتراف رسمى بأن الغش كان جزءا من النظام العام للثانوية الأزهرية فى السنوات السابقة، وأن هذا النظام كان أقوى بكثير من الوازع الدينى الذى يؤكد أن من «غشنا ليس منا». بالطبع فإننا لا نعرف تحديدا كيف تم منع الغش، وهل كان ذلك نتيجة نوع ما من «إعادة الهيكلة» ووضع نظام جديد فى التعليم الأزهرى والامتحانات تجعل الغش غير ممكن، أم أن ذلك حدث بسبب حالة من الشدة والحزم فى مقاومة الغش؟ المدهش فى الأمر أن الخبر لم يتم إسقاطه من قريب أو بعيد على نتيجة الثانوية العامة التى بلغت نسبة النجاح فيها ٧٩،٤٪ أو قرابة ٨٠٪ ممن جرى امتحانهم، وهل كانت هذه النتيجة بعد منع الغش أو أن أحدا لم يتصدَّ لهذه المسألة الحرجة فى هذه الأيام الصعبة؟
المسألة ببساطة هى أن الجماعة المسؤولة عن الثانوية العامة الأزهرية قررت الخروج عن الناموس العام فى مصر والقائم على الغش الذى يأخذ أشكالا منظمة فى امتحانات الثانوية العامة، وأحيانا أخرى أشكالا قانونية ومؤسسية تجعل الفشل والرسوب فى اختبار السوق مثلا أمرا غير ذى بال، وهو شائع فى كثير من المؤسسات الرسمية والقطاع العام اللذين ينظران إلى الربح والفوز فى المنافسات كنوع من التجاوز على فضيلة «الخدمة العامة»، ويضاف أحيانا كلمة «الوطنية»، والتى لا تعتد بمثل هذه الأمور التى يهتم بها القطاع الخاص أو الرأسمالية التى يضاف لها كلمة «المتوحشة». هذه أنواع فريدة من «الغش» لأنها لا تجرى بعيدا عن العيون، أو أن المجتمع يستنكرها- لا قدر الله- إنما هى نوع من التواطؤ العام على أمر فاسد لا تجرى مواجهته إلا عند لحظة الإفلاس التام، وساعتها فإن البيروقراطية لديها عدد من السيناريوهات التى تتخلص فيها من المعضلة، بل أكثر من ذلك تحصل على مزيد من الإنفاق العام على مؤسسات مفلسة، أهمها وأكثرها ذيوعا «إعادة الهيكلة».
هل استمعت مؤخرا إلى أن الدولة بطريقها إلى «إعادة هيكلة» قطاع الإعلام فى الإذاعة والتليفزيون؟ لا بد أن الأمر قد مر على مسامعك بشكل ما، وربما تساءلت عن سبب استبعاد «الصحف القومية» من المعادلة، ولكن مبنى ماسبيرو فيه ما يكفى من معضلات. معضلة منها أننا لا نعرف عدد العاملين فيه على وجه التحديد، وسوف تتراوح الأرقام ما بين ٣٥ ألفا و٤٨ ألفا لأن هناك من يعمل ولا يأتى، وهناك آخرون حاصلون على نوعيات مختلفة من الإجازات والإعارات، وجماعة ثالثة ربما تعمل خارج المبنى كلية، فلا تصدق أن مبنى ماسبيرو هو وحده الممثل لقطاع الإذاعة والتليفزيون الرسمى فى مصر.
المعضلة الأخرى أن القطاع غارق حتى الآذان فى الديون، وهذه هى الأخرى تحتاج حصرا، وهى تتراوح فى الأقوال بين ١٠ مليارات جنيه، و٢٢ مليار جنيه. ما نعلمه على درجة من اليقين أن اتحاد الإذاعة والتليفزيون مثله مثل الكثير من المؤسسات العامة، يخسر سنويا، ومع تراكم الخسارة يجرى الاقتراض، وضع هذه مع تلك تجد أمامك نزيفا ممتدا، وساعتها سوف تأتى «إعادة الهيكلة» لكى تنقذ المؤسسة، ولو لبعض حين.
من حيث المبدأ، لا يوجد لدىَّ اعتراض علمى أو سياسى على «إعادة هيكلة» مؤسسات عامة متعثرة. ويوم يكتب تاريخ مصر فى عصور هادئة فإنه سوف يشهد على أن مصر جرى إنقاذها من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية (٢٠٠٨- ٢٠١٢)، ومن نتائج الثورات المتتابعة (٢٠١١- ٢٠١٤) لأسباب كثيرة سوف يوجد من بينها إعادة الهيكلة التى جرت لقطاعين مهمين: قطاع البنوك، وقطاع التأمين. لم تقتصر إعادة الهيكلة على هذين القطاعين وحدهما، وإنما شمل الأمر قطاعات أخرى مثل الطيران، والضرائب. فى هذه الحالات جميعها كانت هناك أمور واضحة مثل ما هو الهدف من إعادة الهيكلة، وما هو التشخيص الدقيق لحالة الموضوع أو المؤسسة، وما هو دور الدولة فيه، وهل هى مالكة أم منظمة، وهل هناك استعداد للاستفادة من تجارب الدول الأخرى؟ المهم فى الأمر أن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تأتى من جانب المؤسسة الفاشلة ذاتها، أو من ناصحيها ومستشاريها الذين أداروا عملية الفشل، أو من الحكومة المستفيدة من الخدمة، وإنما من خلال مؤسسات دولية متخصصة فى هذا الشأن أو بتكوين «كونسورتيوم» دولى من أصحاب الخبرات فى حل معضلات كبرى مماثلة لكى يرسم خطة، ويتابع تنفيذ عملية إعادة الهيكلة.
هل سيحدث ذلك فى إعادة هيكلة اتحاد الإذاعة والتليفزيون؟ والأهم هل سيكون لدينا الاستعداد للإجابة عن أكثر الأسئلة صعوبة، وهو هل تحتاج مصر إلى هذا المبنى العظيم والكبير والضخم فى ماسبيرو؟ الحكمة الذائعة هى نعم، وأن الدولة لا بد أن يكون لديها أدواتها الإعلامية التى تدافع بها عن نفسها، فالإعلام مثله مثل الدبلوماسية والسلاح، أداة من أدوات الدفاع عن الوطن. السؤال الذى يلى هو هل يستطيع الإعلام المصرى القومى القيام بهذه المهمة؟ الحقيقة هى أنه لا يستطيع، لأن المسألة ليست ادعاء وإنما بنسبة المشاهدة والاستماع والنصيب من السوق الإعلامية بوجه عام.
ببساطة: هل يستطيع الإعلام «القومى» أن يكون مدافعا ضد الإعلام المعادى، ومنافسا لكل الإعلام المعادى والصديق؟ والإجابة هى لا، لسببين: الأول أنه مهما كانت الدولة على استعداد لمزيد من الإنفاق فإن نصيب الإنتاج الإعلامى منه سوف يكون ضئيلا، والأغلب سوف يذهب أجورا وحوافز و«إثابة». والثانى أن هناك أزمة كبرى تشمل النموذج الإعلامى المصرى سواء كان عاما أو خاصا نتيجة التقدم التكنولوجى الجارى، والذى لا يبدو أن الإعلاميين المصريين، الذين يمارسون والذين يديرون، على استعداد للقبول بحدوثه. وخلال شهر رمضان المعظم المنصرم جرى إنتاج مسلسلات بتكلفة تجاوزت المليار ونصف المليار، ولكن عائد الإعلانات كان أقل من المليار، وأقل أكثر عند التحصيل الفعلى، والأهم أنه جعل كتلة غير قليلة من المشاهدين تذهب إلى «اليوتيوب» لمشاهدة ما تشاء دون مقاطعات إعلامية ومجانا.
إعادة الهيكلة سوف تجعل الإعلام المصرى ربما أكثر رشدا إذا ما جرى بالطريقة السليمة التى مارسناها من قبل، أما طريقة فوسفات أبوطرطور التى تكررت عمليات إعادة الهيكلة الحكومية له، فالنتيجة سوف تكون فشلا ذريعا، ونزيفا ماليا مستمرا. فإذا كنا بسبيلنا إلى إصلاح جاد، فربما نحتاج إلى إعادة هيكلة يستبعد فيها الغش، والادعاء، وتأجيل المشكلات إلى أزمان قادمة. والأهم يكون لدينا الشجاعة للإجابة عن أسئلة صعبة، واتباع أفكار خلاقة ومبدعة، وبالفعل خارج الصندوق. وإذا كان ممكنا حفر قناة سويس جديدة، والقضاء على الغش فى الثانوية العامة الأزهرية، فلماذا لا نفعلها بنفس الإقدام فيما يخص الإذاعة والتليفزيون؟