المتأمل للحادثة المأساوية التى شهدها نيل مصر، ومات فيها العشرات نتيجة التصادم الذى وقع بين «صندل» وقارب يُقل أكثر من أربعين فرداً، يمكن أن يخرج بحقيقة أساسية، ملخصها أن حياتنا مليئة بأشكال وألوان من الموت العبثى. فلو راجعت أبرز تفاصيل هذه الحادثة ستجد أن «الصندل» الذى صدم القارب غير مرخص له بالسير الليلى، أما القارب فقد اعتلى صهوته أكثر من 40 شخصاً، رغم أن عدد ركابه محدد ببضعة وعشرين راكباً، الأمر الذى يعنى أنه حمل ما يزيد على ضعف «حمولته». قائد القارب طفل غضب أشد الغضب عندما صدم الصندل أحد جوانبه، فأراد أن «يعلّم» عليه فسار بأقصى سرعة ووضع نفسه أمام الصندل، فركبه الأخير، وأصبح الركاب المساكين رهن الغرق.
المشهد واضح: عبث أفضى إلى الموت، والعبث مرض ابتلى به بعض المصريين، منطلقين فى ذلك من مناخ عام يشجع على الإهمال ولا يرى فيه غضاضة، حتى ولو كانت نتيجته إزهاق الأرواح. إنه بالفعل مرض يرتبط بثقافة يمكن وصفها بـ«ثقافة الجهل»، أو «صناعة العبط». الجاهل بطبيعته أقل شعوراً بالخطر من الإنسان العاقل، وتبلد إحساسه بالخطر قد يسوقه فى الكثير من الأحيان إلى طريق لا يعلم أن فيه حتفه، ولذلك تجده ينطلق إليه بأقصى سرعة، وبلا هوادة!. ذلك ديدن الجاهل، والقاعدة تقول إن الجهل إقدام واقتحام، والمعرفة مَجبنة، ومدعاة إلى التردد. والآفة الحقيقية التى يجب التخلص منها حتى يتعافى المجتمع من أشكال الموت العبثى التى توجع قلوب المصريين من حين إلى آخر هو تلك الصناعة التى راجت وازدهرت بيننا، «صناعة العبط».
المسألة يا سادة لا ترتبط بإقالة مسئول من أجل إطفاء غضب الناس، التخلص من هذه الحالة يقتضى إطفاء حالة الجهل التى تسيطر على البعض وتدفعهم إلى الموت العبثى. وهو دور يجب أن تنهض به مؤسستان أكثر من غيرهما. المؤسسة الأولى هى وزارة الثقافة التى يجب أن يكون لها دور وجهد فى مواجهة ذلك الجهل الإنسانى الذى يدفع الفرد فى لحظات إلى العبث بحياته. نحن بحاجة إلى ثقافة جماهيرية حقيقية. ولست أقصد بذلك مدلول المصطلح الذى شاع فى حياتنا فى الستينات والذى كان يجعل الثقافة الجماهيرية أداة للتعليب أو للتنميط والرطرطة بالشعارات الطنانة الرنانة التى تُغيّب العقل، بل أقصد به الثقافة التى تُعلى من قيمة التفكير العقلى، وتدفع الإنسان إلى التحسب لخطواته قبل الإقدام عليها، والتركيز فى حركته، والوعى بالمخاطر المرتبطة بكل خطوة يخطوها.
الأزهر هو المؤسسة الثانية التى يجب أن تقاوم ثقافة الجهل، فبدلاً من الاستغراق فى الأداء الدعوى الذى يؤدى فى أحيان إلى زيادة الجاهل جهلاً، مطلوب من الأزهر أن يركز أكثر فى التوعية الدينية الحقيقية التى تثرى العقل، وتعلمه كيف يتعامل مع الحياة بمنطق إيمانى يرتكز على حمايتها، وعدم الترحيب بأى شكل من أشكال الإهمال والتراخى الذى يؤدى إلى إزهاق الأرواح. ذلك ما يجب أن نلتفت إليه حتى نتخلص من حالات «الموت العبثى». نحن بحاجة إلى ثقافة تعيد للعقل مكانته واعتباره، بعيداً عن الجهالات والترهات، و«صناعة العبط».
نقلا عن الوطن