لا يمكن، منطقياً، تجديد الخطاب الدينى العام دون تجديد علوم الدين ذاتها. ولعل أهم علوم الدين «علم أصول الدين» المشهور باسم «علم الكلام» Dialectical Theology.
ومن البداية لا تنزعج عزيزى القارئ، فهذا ليس نقداً للدين الموحَى به، ولا نقداً لأصوله المحكمة الثابتة فى القرآن والسنة الصحيحة، وإنما تحليل ونقد للعلم البشرى الذى أنشأه علماء حول العقائد الدينية.
وما يعنينا هنا هو علم الكلام (علم أصول الدين)، وهو ليس الدين ذاته، وإنما هو علم نشأ فى الزمان نتيجة ظروف سياسية واجتماعية ودينية وثقافية، بجهود علماء لهم تكوين علمى مرتبط بالتراكم المعرفى والاجتماعى فى عصورهم.
وهو علم له «موضوع» و«منهج»، مثله فى ذلك مثل أى علم: العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم التفسير والعلوم الأخرى. وينظر القدماء إلى علم أصول الدين بوصفه «الفقه الأكبر» فى مقابل «الفقه الأصغر» أى علم الفقه العملى الذى يدور موضوعه حول الفروع (أحكام العبادات والمعاملات). ويطلق أيضاً على «علم الكلام»: «علم التوحيد والصفات»، و«علم العقائد»؛ يقول الشهرستانى: «الأصول هى موضوع علم الكلام، والفروع هى موضوع علم الفقه» (الشهرستاتى، الملل والنحل). وفى الحقيقة علم الأصول علمان وليس علماً واحداً، هما: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه. ويقابل علم الكلام أو علم أصول الدين فى المسيحية «علم اللاهوت».
إن العقائد حية لم تمت، وقد انتصرت فى المعارك التى انهزم فيها المسلمون عسكرياً أو حضارياً، لكن علم الكلام القديم مات كـ«علم»، وإن كان لا يزال يحكم عقلنا الجمعى حتى هذه اللحظة!
كيف؟
علم الكلام علم بشرى أنشأه بشر حول العقائد الإلهية الموحى بها. ومن المعروف أن طرق التفكير والآليات الحاكمة له فى الاستدلال والحكم هى المناهج الجدلية، وليست المناهج البرهانية العلمية. ولا تزال المناهج الجدلية هى المسيطرة على تفكيرنا، ولا تزال حاكمة لكل المشاهد الدينية والسياسية والاجتماعية. ولم تنجُ منها أى ساحة من الساحات، حتى ساحات حوار المثقفين فى الصالونات وفى الإعلام وفى متون الكتب تعانى المرض المميت ذاته!
وقد ظهر علم الكلام أثناء حكم بنى أمية حول التفسيرات المختلفة للقرآن والسنة النبوية، وطرح كل التساؤلات التى أثارها الصراع السياسى على السلطة، والتى من بينها: التساؤل عن الأحق بالإمامة والسلطة، والذى أخذ أبعاداً عقائدية حيث تم طرح الموضوع ومحاولة التأسيس العقائدى له بربطه بمسائل تحكيم القرآن، وحدود الإيمان والكفر، وحرية الإرادة، والجبر، والقدر، وطبيعة الله، وحقيقة النبوة، والعدالة الإلهية، وطبيعة كلام الله... إلخ.
فعلم الكلام نشأ، فى المقام الأول، لأسباب سياسية وليست دينية؛ حيث إن الصراع السياسى على السلطة هو العامل الأكثر أهمية والأسبق زمنياً على كل العوامل الأخرى. ثم تعددت الأسباب المعاونة أو المؤازرة للسبب الرئيسى. إن موت علم الكلام كعلم -أكرر- لا يعنى موت العقائد ولا يعنى موت أصول الدين ذاتها، وإنما يعنى موت الطرق القديمة لفهم هذه العقائد التى وضعها علم الكلام القديم؛ فهى طرق تفهم العقائد بشكل مخالف لطرق الفهم التى حددها القرآن الكريم وأبانتها السنة الصحيحة، وأيضاً بشكل مخالف لطرق الفهم التى حددتها العلوم الحديثة فى قراءة النصوص وتحليل الخطاب، وحتى الآن لم يستفد المتكلمون الجدد فى العقائد من الهرمنيوطيقا Hermeneutics، أو «علم التأويل»، الذى شهد تطوراً كبيراً.
لقد مات علم الكلام لأن مناهج الاستدلال وطرق التفكير التى تحكمه قد تجاوزتها العلوم بقرون، وكل الإجابات التى قدمها كانت على عصور لم تعد موجودة، وإشكالياته لم تعد إشكاليات العصر، وهمومه لا يجب أن تكون همومنا المعاصرة.
فلم يعد يشغل العقول الحديثة -أو هكذا ينبغى أن يكون- هل كلام الله مخلوق أم قديم؟ لأن الذى يجب أن يشغلنا هو تحقيق مقاصد كلام الله فى المجتمع لتحقيق العدالة والتنمية، وحفظ النفوس، وحفظ العقل، والقضاء على الجهل والفقر، وصيانة الأعراض، وتحقيق معنى الدين وليس قشوره، وحفظ الدول الإسلامية من التفكك، وحماية الأرض العربية من التقسيم. ولا يجب أن ننشغل بجدال نظرى حول قضايا لاهوتية لا تنعكس على تطور الحياة وتقدمها والارتقاء بنوعية المواطن؛ ولا على بناء الدولة وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية على نحو يحقق الحكم الرشيد والرفاه الاجتماعى والعدالة وتكافؤ الفرص.
إن صلاحية أى علم تقاس -من بين ما تقاس به- بنتائج العلم وتحقيقه لأغراضه. وفى تصورى أن علم الكلام -بوصفه العلم الذى يقدم الأطر النظرية للعقائد- يُعد من أهم أسباب الخلافات العقائدية وتعميقها بين الفرق الإسلامية، وهو أحد أهم العوامل فى رفض التنوع. ومعه تحول التنوع النظرى إلى تنوع مهلك مميت؛ فزعم امتلاك كل فرقة دينية للحقيقة كلها، وبالتالى الحكم بأن كل الفرق الأخرى على باطل، هو جوهر التكفير، والتكفير هو مبرر حرب الفناء التى تمارسها كل فرقة ضد الأخرى، منذ عصر التدوين وإلى اللحظة الراهنة. وهى التجربة نفسها التى مرت بها أوروبا بسبب علم اللاهوت المسيحى الوسيط، مع أسباب أخرى بطبيعة الحال. لكن أوروبا تجاوزتها الآن؛ بسبب تطور العلوم، وتطور العقل العام، وتطور الوعى الجمعى.
نقلا عن الوطن