بقلم: يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (545)
عناوين الأخبار تتحدث عن النهاية السعيدة لأزمة اليونان مع الاتحاد الأوروبي, وعن توقيع اتفاق تاريخي بينهما يتولي الاتحاد الأوروبي بموجبه انتشال اليونان من أزمتها الاقتصادية التي بلغت حد إعلان إفلاسها.. وبات الجميع فرحين ببقاء اليونان ضمن مجموعة اليورو وتحاشي خروجها المدوي الذي كان يمثل -لو حدث- أول سابقة لتصدع الوحدة النقدية للمجموعة الاقتصادية.
الحقيقة أنني تابعت بكثير من الاهتمام تداعيات الأزمة الاقتصادية التي عصفت باليونان وتفاقمت منذ نحو عامين وكانت وقتها المجموعة الأوروبية منشغلة بترتيب أكثر من حزمة إنقاذ لدول أخري في المجموعة بدأت بأيرلندة ثم البرتغال ثم إسبانيا, وكان من الواضح أن آلية الإنقاذ تعتمد علي ضخ السيولة المطلوبة وترتيب القروض اللازمة لكنها أبعد ما تكون عن تقديم الهبات المجانية أو الإقراض دون ضمانات وإلا كان ذلك سيعد إفسادا وليس إنقاذا.. وفي كل تلك الحالات كانت دراسات الجدوي وسياسات الإصلاح النقدي وقرارات ترشيد الإنفاق وزيادة الضرائب هي الدواء المر الذي تفرضه المجموعة الأوروبية قبل إعطاء السيولة ومنح القروض.
وعندما جاء دور اليونان لتطالب بنصيبها هي الأخري في حزمة إنقاذ اقتصادي جاءت روشتة العلاج من الاتحاد الأوروبي كما هو معهود وباتباع ذات المعايير السابق اتباعها مع الدول التي سبقتها في الاستغاثة.. لكن اليونان عاندت وقاومت ورفضت الانصياع لشروط المجموعة الأوروبية وتحول الأمر إلي صراع سياسي في البرلمان اليوناني بين الحكومة اليمينية والمعارضة اليسارية, اتهمت المعارضة فيه الحكومة بالرضوخ للمجموعة الأوروبية في فرض تدابير تقشفية وأن المواطن اليوناني هو من يدفع ثمن ذلك في التضخم والبطالة والارتباك الاقتصادي, ونجحت المعارضة من خلال صندوق الانتخاب في إقصاء اليمين الحاكم وجاءت حكومة رئيس الوزراء الحالي ألكسس تسيبراس معتمدة علي وعود لليونانيين تدغدغ مشاعرهم بعدم شد الحزام وباستعادة الاستقرار والرخاء.
لكن سرعان ما ظهر أن الأمر ليس بهذه البساطة ووجد رئيس وزراء اليونان الجديد تسيبراس نفسه في موقف لا يحسد عليه, فأمام الوضع الاقتصادي المتردي تضخمت روشتة الإنقاذ للمجموعة الأوروبية وزادت قسوة شروطها حتي بلغت حد فرض الوصاية علي اليونان لإخراجها من أزمتها أو إخراجها من مجموعة اليورو في سابقة محزنة لم تحدث من قبل.. فماذا يفعل تسيبراس؟.. إنه لا يستطيع العودة إلي شعبه ليطلب منه الرضوخ لذات الروشتة التي سبق أن حرضه علي رفضها.. فقرر اللجوء إلي مناورة هي أشبه بالمقامرة للالتفاف حول ضغوط وتهديدات المجموعة الأوروبية. ذهب يخطب في شعبه ويستنفر حسه الوطني ويؤجج غضبه وثورته ضد تسلط المجموعة الأوروبية وتحكمها في مصير اليونان وإهدارها لكرامة اليونانيين, ويقول إنه حفاظا علي سيادة وطنه وكرامة شعبه قرر الاحتكام إلي الاستفتاء الشعبي ليقول الشعب كلمته إزاء روشتة العلاج الأوروبية: بنعم أو لا.
كان تسيبراس يراهن سياسيا علي أن أوروبا لن تقوي علي انسلاخ اليونان من المجموعة الأوروبية أو مغادرتها منطقة اليورو -الوحدة النقدية- ونجح في تصدير هذا الرهان إلي شعبه, فجاءت نتيجة الاستفتاء في الخامس من هذا الشهر برفض روشتة العلاج الأوروبية بأغلبية نحو ثلثي الناخبين, وانطلقت الاحتفالات ودوت صيحات الانتصار في اليونان وظهر تسيبراس كالبطل المغوار العائد من المعركة منتصرا واعتبر أن شعبه يعطيه تفويضا برفض التسلط الأوروبي والعودة لمائدة المفاوضات لإملاء شروطه هو وصياغة روشتة علاج جديدة تحفظ الكرامة لليونان.. وإلا الخروج من المجموعة والتخلي عن اليورو.
وحبس العالم أنفاسه, فالانتصار السياسي لا خلاف عليه, لكن هل حسبها تسيبراس اقتصاديا؟.. ماذا هو فاعل إذا خذلته المجموعة الأوروبية وتمكست بشروطها؟.. هل تملك اليونان ترف الانسلاخ عن المجموعة والعودة إلي الدراخمة -العملة اليونانية قبل اليورو-؟.. إن ذلك هو الإفلاس والدمار المحتم. لكن الحقيقة الصادمة أثبتت أن المغامرات السياسية والصوت العالي لم ينجحا في إرهاب المجموعة الأوروبية, وها هي النتيجة النهائية تقول إنه بعد 14 ساعة من المفاوضات بين وزراء مالية منطقة اليورو ثم 17 ساعة تلتها من الاجتماعات بين قادة المجموعة الأوروبية, حصل رئيس الوزراء اليوناني علي اتفاق أسوأ بكثير من الاتفاق الذي أقنع الناخبين اليونانيين برفضه مؤخرا في الاستفتاء!!.. وبات عليه الآن أن يقوم بتسويقه لشعبه وتمريره لبرلمانه!!.. وما كان يصفه سابقا من أن هناك إذلالا لليونان من جانب منطقة اليورو في الحقيقة لم يتغير بل أصبح علي البرلمان اليوناني تمرير تشريعات واتخاذ تدابير وصفتها قبلا حكومة تسيبراس بالإجرامية والإرهابية.
يبقي الكثير من اليونانيين غاضبين من المجموعة الأوروبية, لكن الحقيقة أن رئيس وزرائهم تسيبراس هو من ينبغي أن يتحمل مسئولية تعليق سيادة اليونان الاقتصادية, وهي النتيجة التي أفضت إليها مغامرته السياسية.. فقد قبل صاغرا ما سبق أن رفضه ثائرا.. فكان مثل من فسر الماء بعد الجهد بالماء!!!
نقلا عن وطنى