«والله لسه بدري والله يا شهر الصيام»، نغمات تنسحب على إثرها روح شهر رمضان من جنبات شارع المُعز لدين الله الفاطمي، فتترك للمذياع فرصة أخيرة لإطراب المارة والساهرين على أضواء المصابيح المتلألئة بالمقاهي وعلى أعتاب المتاجر والورش المتجاورة بمناجاة «الست» للشهر الفضيل. إلا أن بانعطافة بسيطة إلى شارع الضبابية بحي الجمالية العريق، سرعان ما تختقي الأجواء الرمضانية وتحل رائحة العيد، «مبسوسة» بالسمن والسكر، متهادية مع صاجات معدنية على رؤوس شابات فرحات في طريقهن القصير من المنازل وإلى المخبز المجاور، حيث تنضج صاجات الكعك المنقوشة على أيدي الجدات والأمهات والحفيدات على المهل، بينما تشمل الجميع سعادة موسمية وترقب مُحبب لانتهاء العمل يداخله غناء خجول «يا كحك العيد يا إحنا.. يا بسكويت يا إحنا». ففي مذاق الكعكة تُصنع البهجة وعلى أبواب المخبز يصل العيد مُبكرًا.
في طقس معتاد يُعلن طرق الأعياد للأبواب المصرية، يجتمع شتات العائلات من أخوات وبنات عمومة وأصهار في مهمة شاقة لصُنع الكعك والبسكويت، حلوى العيد بدسامتها المُميزة وقوامها الهش المُفضل، حيث يعتبر طقس عجن ونقش وتحضير الكعك أحد أهم مظاهر الاحتفال الشعبية المصرية، بما يُبطئ وتيرته من عبث طفولي ظريف يتولاه صغار الأبناء والأحفاد، وما يليه من رحلة ضرورية للمخابز الإفرنجية لتسوية العجين في أفران مُخصصة،تنتقل الأسرة إليها في موكب رسمي، تتصدره صاجات الخبز المؤجرة وتحاوطة جلبة الأطفال المُستبشرين بقدوم العيد من كل جانب، لينتهي الكعك بطل المشهد إلى أحضان اللهب ثم الهواء الطلق أمام المخبز، حيث تهدأ حراراته قبل أن تمتد إليه الأيدي وتعيد تنظيمه ما بين صناديق ورقية وأطباق بلاستكية متينة تُكلل في النهاية بمنديل أبيض يقيه شر الأتربة خلال موكب العودة الغنائي.
وبالرغم من ازدحام مخبزه بالراغبات في تسوية الكعك والحلوى قبل يومين من نهاية شهر رمضان، حيث تفترش بعضهن الأرصفة المجاورة ويحاوط البعض الآخر «الفران» في عمله، يلمس «عبد الباسط راشد» صاحب أحد المخابز بحي الجمالية، اختلاف طقوس صنع الكعك على مدار الـ15 عامًا الماضية، حيث عزفت العديد من الأسر عن عجن وخبز الحلوى يدويًا، فزالت أغلب طقوس الخبز في الأفران عن الأجواء، والتي اعتاد والده تخصيص أربعة مخازن كاملة لما تتطلبه من صاجات تستهلكها الأسر قبيل العيد.
ويُرجع «عبد الباسط» انحسار مظاهر الاحتفال الشعبي لضيق الوقت وقلة الخبرة والمهارة بين صفوف الصانعات، إلا أن دأب أبناء المناطق الشعبية كالجمالية والدرب الأحمر وبابا الشعرية على حفظ وأحياء التقاليد المتوارثة يُبقي تلك العادة حية ومصدر للفرحة والبهجة.
ولخدمة عشرات الزبائن يبدأ مخبز «عبد الباسط» في عجن وتحضير الكعك الجاهز من منتصف شهر رمضان في حين تشتعل حركة البيع في أواخر أيامه، في توازي مع ظهور عمليات التسوية السريعة التي تُكلف عن الصاج الواحد ما لا يزيد عن 3 جنهيات. وعلى الرغم مما اعترى مخبزه من مظاهر حداثة، يفتخر الرجل الخمسيني باحتفاظه «بفرن الطاقة» الحجري الكلاسيكي والذي يصفه بالندرة ويفضله عن الفرن الدوار الميكانيكي، لما له من تأثير على جودة منتجات زبائنه المنزلية، فتُحسنها وتُعدل ما يعتريها من عيوب أولية.
أمام «فرن الطاقة» بحرارته التي تتخطى 450 درجة وسعته التي تصل لعشرات الصاجات، يقف رجل خمسيني في مواجهة الصهد المُرهق، مستندًا على عصا خشبية تُعينه على إدخال وإخراج الصاجات إلى الفرن، قابضًا على منشفة تقي يده حرارة الصاجات المُلتهبة، تقاطع عمله السيدات بين الحين والآخر في توصية على صاجاتهن أو استعجال، بينما يُحافظ «رجب» على تركيزه كاملاً في مطالعة الكعك داخل الفُرن واختبار نضجه وتبديل مواقع الصاجات كُلما لزم الأمر.
اكسبته خبرته أمام اللهب طوال 15 عامًا القدرة على معرفة متطلبات كل قطعة عجين، ما بين كعكة تفتقد السمن فتخرج «معضمة» حد وصفه، وكعكة مُشبعة بالسكر ومعرضة «للسع»، فيتحايل «رجب» على ظروف كل صاج مُنفردًا بمُميزات «الفرن الطاقة» التي يُعدد فيما بينها القدرة على مُتابعة حالة كل صاج على حدة، فيخرج لصاحبته مصبوغ بلون طبيعي على عكس الفرن الميكانيكي الذي يترك لمحة من الإصفرار على الكعك، فضلًا عن حفاظ الفرن على قوام متماسك للكعكة.
وبلكنته الريفية الجلية المُميزة وأثناء إخراجه بعض الصاجات من الفرن بما نُقش عليها من أسماء أصحابها من الزبائن بطابشير أبيض يميز بعضها البعض، يصف «رجب» سبب إصرار الأمهات على مزاولة عادة صُنع كعك العيد «2 كيلو دقيق أحسن لها من الجاهز، لأنها بتبقى فرحة في البيت متعودين عليها كل سنة، والعيال بييجوا معاها هنا 5 أو 6 فرحانين.. اللي يشبل واللي بيساعد».
وعلى الرصيف المُقابل تتابع «أم محمد» حركة أبنائها في نقل قطع البسكويت الهشة السكرية من الصاجات وإلى العُلب الكرتونية المُخصصة بعد خبزها، فتتدخل بين الحين والآخر لقلب حماسهم وسعادتهم لتمهل يقي قطع الحلوى شر التكسير، بينما تُحدد مكايلها الخاصة لصُنع الكعكة المثالية: «كل كيلو دقيق عليه نص كيلو سمن ومعلقة ريحة الكحك ومعلقة سكر ورشة ملح ومعلقة كبيرة خميرة».
ورثت الأم الأربعينية وصفتها من جدود الجدود، فلم تقطع عادة عجن كعك العيد سوى لسنوات قليلة تذمر خلالها الأبناء. لتعود هذا العام لأدراجها أمام «الفرن» مُستعينة بجهود صغيرها الذي لم يبلغ الـ15 من العمر بعد في نقل الصاجات إلى المخبز على دراجته البخارية فلا تخفت بهجته على مشقة دوره، متفقًا بذلك مع رسالة والدته التي تقول قبل أن يتحرك موكبها من أمام المخبز في رحلة العودة: «أحلى حاجة فرحة أبني وفرحة عيالي، أنا بعمل علشانهم.. كل حاجة متعبة، لكن علشان فرحة عيالي مايهمنيش».