مجتمع منفتح تقوم العلاقات فيه على أسس مدنية، فلا ينظر المرء إلى عقيدة غيره. وكان اليهود جزءاً من نسيجه. لم يبق من هذا المجتمع بتسامحه إلا القليل، بعد ستة عقود ونيف على الفترة التى يقدم مسلسل «حارة اليهود» رؤية فنية لها.
ولكن الفن الدرامى يختلف عن التوثيق التاريخى. فالدراما تقدم رؤية فنية، ولا تُوَّثق وقائع تاريخية. ورغم ذلك تعرض «حارة اليهود» لانتقادات لا محل لها عند تقييم عمل درامى لا يعيد كتابة التاريخ، وإنما يستلهم المعانى من الأحداث التاريخية ويصوغها من خلال أدوات الفنان فى المقام الأول، ثم أدوات المؤرخ بعد ذلك.
فالعمل الدرامى التاريخى يخلق عالماً لا يُشترط أن يكون مطابقاً للتاريخ. فالمهم فيه هو أن يكون جميلاً. ولكنه ينبغى أن يكون حريصاً فى الوقت نفسه على عدم المساس بجوهر هذا التاريخ.
فمن طبيعة الفن أنه يعتمد على الخيال أو المجاز أو الرمز فى معالجة أى موضوع. وإذا كانت الدراما تاريخية فيتوقف مستواها ارتفاعاً أو انخفاضاً على براعة المزج بين الخيال والمجاز، والتاريخ والواقع، فى بناء فنى جميل.
ويقدم صانع الدراما التاريخية على هذا النحو رؤية فنية تتأثر غالباً بميوله السياسية وانتماءاته الفكرية. ولذلك فمن الطبيعى أن تنطوى هذه الرؤية على انحياز إلى تفسيرات معينة لأحداث ووقائع تاريخية ما دامت هناك قراءات مختلفة لها.
ولكن المهم هو أن تتضمن رؤيته ما يُغنى العمل الدرامى ويُكسبه قيمته الفنية التى تُعد هى المعيار الأول عند تقييمه.
وهذا هو ما غاب فى معظم الانتقادات التى تعرض لها مسلسل «حارة اليهود»، لأنها تعاملت معه كما لو أنه فيلم توثيقى وليس عملاً درامياً. فراح الناقدون يحاسبون صانعى المسلسل على واقعة تاريخية أو أخرى، وعلى جملة وردت فيه هنا أو هناك، كما لو أنهم يقرأون كتاباً فى التاريخ ولا يشاهدون عملاً فى الدراما.
غير أن المطلوب من صانع الدراما التاريخية أمران. أولهما عدم تجاوز الخط الفاصل بين ما تنطوى عليه رؤيته الفنية من اتجاه سياسى أو فكرى بشأن أحداث مختلف على تفسيرها أصلاً، وما يدخل فى إطار التزييف التاريخى عبر تغيير فى وقائع ثابتة لا خلاف عليها بين المؤرخين، أو اختلاق ما لم يحدث فى التاريخ. ولم يقع مسلسل «حارة اليهود» فى هذا المحظور.
أما الأمر الثانى فهو تحرى الدقة الكاملة فى المشاهد، بحيث تكون مطابقة لنمط الحياة فى الفترة التى يتناولها العمل الدرامى، من حيث ملابس الممثلين والأدوات التى يستخدمونها، والأماكن التى يتم التصوير فيها، وما إلى ذلك.
وقد أجاد صانعو مسلسل «حارة اليهود» فى ذلك باستثناءات بسيطة منها مثلاً بعض العمارات التى بدا شكلها أحدث مما كان فى هذه الحارة، وبعض السلع التى طلبها زبائن متجر «شيكوريل» حيث كانت بطلة المسلسل تعمل مثل عطر «باكوربان» الذى لم يُنتج إلا فى أواخر الستينيات (تم تأسيس شركة باكوربان أصلاً عام 1966).
أما بشأن مضمون المسلسل فهو يتعلق برؤية صانعيه التى يجوز أن يختلف معهم آخرون عليها وخاصة حين تكون لها خلفية سياسية. ولكن هذا اختلاف طبيعى يتعلق بمساحة رمادية ليس فيها صواب وخطأ. ومن الطبيعى أن يظهر هذا الاختلاف أكثر فى مسلسل يتناول فترة هى بطابعها مثيرة للجدل والخلاف فى كثير من قضاياها، وأحداثها المختلف على تأويلها، بل على مدى حدوث بعضها أصلاً.
ومن أهم القضايا والأحداث المختلف على تفسيرها العلاقة بين الحركة الصهيونية وقطاع من الحركة الشيوعية المصرية بسبب وجود عدد من اليهود فيها، وعلى رأس بعض أحزابها. ورغم أن الاتجاه السائد فى الحركة الشيوعية كان مناهضاً للصهيونية، فقد أثارت مواقف جزء منها تجاه قرار تقسيم فلسطين التباساً وفتحت معركة انتشرت خلالها روايات لا يوجد ما يثبتها عن دعم بعض الشيوعيين لهجرة يهود مصريين إلى إسرائيل.
ومن هذه القضايا أيضاً أعمال العنف التى نفذها التنظيم الخاص لجماعة «الإخوان» ضد مصالح يهودية فى «حارة اليهود» ومناطق أخرى. والاختلاف هنا ليس على وقوع هذه الأعمال الثابتة، ولكن على تفسيرها؛ حيث يوجد الآن اتجاه واسع يراها نتيجة تطرف وعنف ملازمين لهذه الجماعة منذ نشأتها، بينما ينحصر الاتجاه الذى كان يعتبرها رد فعل على تنامى الخطر الصهيونى فى فلسطين، وما اقترن به من ممارسات إرهابية ومذابح فى دير ياسين واللد وصالحة وغيرها.
أما أهم القضايا المختلف على وجود أساس حقيقى لها فهى قضية «الأسلحة الفاسدة» التى أثارها الراحل إحسان عبدالقدوس، وبدا عقب ثورة 1952 كما لو أن هناك يقيناً بشأن فساد من اشتروا تلك الأسلحة وهم يعلمون خطرها، قبل أن يُعاد فتح ملفها ويُثار جدل حول ما إذا كانوا فاسدين أم ضحايا قلة خبرتهم وكفاءتهم.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع