هناك أعمال فنية نجاحها فى مقدار صدمتها وصدامها مع السائد، وقيمتها فى مدى ما تُحدثه من عصف ذهنى ومراجعة للبديهى والمستقر فى ذهن المشاهد، وقياس هذه الأعمال بالمسطرة النقدية التقليدية وحصرها فى تفاصيل تاريخية أو أمور شكلية هو ظلم وإجحاف لها، ومسلسل حارة اليهود من هذه النوعية، ففكرته الصادمة لعقل المشاهد المصرى الذى زُرع فى ذهنه على مدى سنين طويلة أن اليهودى شخص كريه متآمر حفيد قردة وخنازير، وقد بالغت الصورة الذهنية فى تلك الصفات وتجاوزتها حتى إلى الصورة البيولوجية الجسدية، فصار اليهودى أحدب أخنف أصلع جاحظ العينين من الممكن أن تشم رائحته النفاذة من خلال الشاشة!،
الصورة المغايرة أو بالأصح المحايدة الطبيعية الإنسانية التى قدمها المسلسل هى التى نحتاجها الآن فى ظل تلك الظروف التى عصفت بالعقل المصرى وجرفت ثقافته وقدرته على التفكير المنطقى النقدى، فالتطرف والإرهاب يبدأ من فكرة الفرقة الناجية والدم الأزرق والتعالى وسيطرة فكرة النقاء، المتطرف ينفى الآخر ويروج لصورة ذهنية كريهة وستيريوتيب محفوظ واسطمبة جاهزة وكتالوج تفصيل مزمن لا يتغير، ومن هنا تخلق ثقافة القطيع، حارة اليهود هى حارة مصرية تنتمى إلى ثقافة مصر الكوزموبوليتانية المستوعبة للآخر والهاضمة للمختلف والمتفاعلة مع الغير قبل أن تصاب بالفيروس الوهابى، فيها المسلم واليهودى والمسيحى تحت سقف مصر الوطن الحاضن الدافئ،
المسلسل بالرغم من طزاجة الفكرة وبكارتها وصدامها، لم يتحول إلى خطبة وطنية عصماء أو منشور سياسى بارد، استطاع د. مدحت العدل بمهارة وبميزان الذهب أن ينسج تفاصيل الحارة ويخلق نماذج إنسانية من لحم ودم، لا أفكاراً مسبقة تتلبس بنى آدمين روبوتات!، قصة الحب بين الضابط المسلم على واليهودية ليلى هى عمود خيمة المسلسل، ولكنها لم تطغَ على الأحداث ولم تسلب الضوء من قصص إنسانية أخرى مثل قصة الفتوة أو صاحبة الملهى أو العائلة المسيحية التى يخشى عائلها الفضيحة أو حتى الطرشجى والقهوجى... إلى آخر تلك النماذج التى لم تكن كومبارسات على هامش المسلسل، بل خلايا أساسية فى بناء جسد الدراما، كل عناصر المسلسل كانت على نفس مستوى إبداع الكتابة، الصورة ورؤية المخرج محمد العدل كانت تطل من الشاشة، مؤكدة على أنه ليس مجرد منفذ أو مترجم ولكنه صاحب رأى ورؤية وبصمة ووجهة نظر،
الإضاءة لم تكن مجرد إنارة ولكنها فهم عميق لكيف تصنع بقعة الضوء إحساساً ومشاعر تُغنى عن ألف كلمة، الإنتاج فى المسلسل ليس صرافاً أو خزنة أو بنكنوت ولكن المنتج جمال العدل أشرف على العمل بعقلية المدرك لأهمية وخطورة وصعوبة شق طريق جديد فى الدراما وأيضاً فى طريقة التفكير المستقرة المجترة المستهلكة، أما التمثيل وهو كنز الدراما المصرية وبئر نفطها الذى لا ينضب ولن ينضب، فهو درة تاج هذا المسلسل اللامعة، على القمة منة شلبى ألفة بنات هذا الجيل والتى تطل الشخصية وانفعالاتها من نافذة عينيها الذكيتين بمغناطيس أداء متمكن هادئ يخلو من الحزق والصراخ المسرحى الميلودرامى الذى صار فى متحف التاريخ، أصعب شىء أن تشخص وتجسد شخصية طبيعية لا هى مدمنة أو معوقة... إلخ، فمثل هذه الشخصيات المدمنة والمعوقة لديها مفاتيح من الممكن التشبث بها وجسور من الممكن أن تعبر عليها، لكن شخصية فتاة طبيعية عادية مجرد بائعة فى محل وتعيش قصة حب، فهذه هى قمة الصعوبة، لذلك استحقت منة شلبى تلك المكانة فى هذا المسلسل، هناك أحمد كمال الذى لم يأخذ ما يستحقه بعد، غول تمثيل وسارق كاميرا بامتياز، إياد نصار ستظل تطارده شخصية حسن البنا بكل عنفوانها الدرامى وطاقتها التمثيلية ولكنه بالرغم من ذلك أدى الدور باقتدار، سيد رجب برغم حجمه الضئيل جسداً إلا أننا أحسسنا أننا أمام مارد وفتوة بحق وحقيقى، هالة صدقى أسطى تمثيل بجد، تنتقل بسلاسة ما بين الشجن والكوميديا وتترك ختمها على كل مشهد فلا تمحى من ذاكرتك للأبد، الوحيد الذى أحسست أن أداءه كان مفتعلاً هو الممثل وليد فواز فى دور النطاط.
حارة اليهود مسلسل تجاوز الرصد التاريخى المحدد الضيق الملتزم بحقبة ما إلى الرصد الإنسانى الرحب المتسع العابر للزمن.
هناك أعمال فنية نجاحها فى مقدار صدمتها وصدامها مع السائد، وقيمتها فى مدى ما تُحدثه من عصف ذهنى ومراجعة للبديهى والمستقر فى ذهن المشاهد، وقياس هذه الأعمال بالمسطرة النقدية التقليدية وحصرها فى تفاصيل تاريخية أو أمور شكلية هو ظلم وإجحاف لها، ومسلسل حارة اليهود من هذه النوعية، ففكرته الصادمة لعقل المشاهد المصرى الذى زُرع فى ذهنه على مدى سنين طويلة أن اليهودى شخص كريه متآمر حفيد قردة وخنازير، وقد بالغت الصورة الذهنية فى تلك الصفات وتجاوزتها حتى إلى الصورة البيولوجية الجسدية، فصار اليهودى أحدب أخنف أصلع جاحظ العينين من الممكن أن تشم رائحته النفاذة من خلال الشاشة!، الصورة المغايرة أو بالأصح المحايدة الطبيعية الإنسانية التى قدمها المسلسل هى التى نحتاجها الآن فى ظل تلك الظروف التى عصفت بالعقل المصرى وجرفت ثقافته وقدرته على التفكير المنطقى النقدى، فالتطرف والإرهاب يبدأ من فكرة الفرقة الناجية والدم الأزرق والتعالى وسيطرة فكرة النقاء، المتطرف ينفى الآخر ويروج لصورة ذهنية كريهة وستيريوتيب محفوظ واسطمبة جاهزة وكتالوج تفصيل مزمن لا يتغير، ومن هنا تخلق ثقافة القطيع، حارة اليهود هى حارة مصرية تنتمى إلى ثقافة مصر الكوزموبوليتانية المستوعبة للآخر والهاضمة للمختلف والمتفاعلة مع الغير قبل أن تصاب بالفيروس الوهابى، فيها المسلم واليهودى والمسيحى تحت سقف مصر الوطن الحاضن الدافئ، المسلسل بالرغم من طزاجة الفكرة وبكارتها وصدامها، لم يتحول إلى خطبة وطنية عصماء أو منشور سياسى بارد، استطاع د. مدحت العدل بمهارة وبميزان الذهب أن ينسج تفاصيل الحارة ويخلق نماذج إنسانية من لحم ودم، لا أفكاراً مسبقة تتلبس بنى آدمين روبوتات!، قصة الحب بين الضابط المسلم على واليهودية ليلى هى عمود خيمة المسلسل، ولكنها لم تطغَ على الأحداث ولم تسلب الضوء من قصص إنسانية أخرى مثل قصة الفتوة أو صاحبة الملهى أو العائلة المسيحية التى يخشى عائلها الفضيحة أو حتى الطرشجى والقهوجى... إلى آخر تلك النماذج التى لم تكن كومبارسات على هامش المسلسل،
بل خلايا أساسية فى بناء جسد الدراما، كل عناصر المسلسل كانت على نفس مستوى إبداع الكتابة، الصورة ورؤية المخرج محمد العدل كانت تطل من الشاشة، مؤكدة على أنه ليس مجرد منفذ أو مترجم ولكنه صاحب رأى ورؤية وبصمة ووجهة نظر، الإضاءة لم تكن مجرد إنارة ولكنها فهم عميق لكيف تصنع بقعة الضوء إحساساً ومشاعر تُغنى عن ألف كلمة، الإنتاج فى المسلسل ليس صرافاً أو خزنة أو بنكنوت ولكن المنتج جمال العدل أشرف على العمل بعقلية المدرك لأهمية وخطورة وصعوبة شق طريق جديد فى الدراما وأيضاً فى طريقة التفكير المستقرة المجترة المستهلكة، أما التمثيل وهو كنز الدراما المصرية وبئر نفطها الذى لا ينضب ولن ينضب، فهو درة تاج هذا المسلسل اللامعة، على القمة منة شلبى ألفة بنات هذا الجيل والتى تطل الشخصية وانفعالاتها من نافذة عينيها الذكيتين بمغناطيس أداء متمكن هادئ يخلو من الحزق والصراخ المسرحى الميلودرامى الذى صار فى متحف التاريخ، أصعب شىء أن تشخص وتجسد شخصية طبيعية لا هى مدمنة أو معوقة... إلخ، فمثل هذه الشخصيات المدمنة والمعوقة لديها مفاتيح من الممكن التشبث بها وجسور من الممكن أن تعبر عليها، لكن شخصية فتاة طبيعية عادية مجرد بائعة فى محل وتعيش قصة حب، فهذه هى قمة الصعوبة، لذلك استحقت منة شلبى تلك المكانة فى هذا المسلسل، هناك أحمد كمال الذى لم يأخذ ما يستحقه بعد، غول تمثيل وسارق كاميرا بامتياز، إياد نصار ستظل تطارده شخصية حسن البنا بكل عنفوانها الدرامى وطاقتها التمثيلية ولكنه بالرغم من ذلك أدى الدور باقتدار، سيد رجب برغم حجمه الضئيل جسداً إلا أننا أحسسنا أننا أمام مارد وفتوة بحق وحقيقى، هالة صدقى أسطى تمثيل بجد، تنتقل بسلاسة ما بين الشجن والكوميديا وتترك ختمها على كل مشهد فلا تمحى من ذاكرتك للأبد، الوحيد الذى أحسست أن أداءه كان مفتعلاً هو الممثل وليد فواز فى دور النطاط.
حارة اليهود مسلسل تجاوز الرصد التاريخى المحدد الضيق الملتزم بحقبة ما إلى الرصد الإنسانى الرحب المتسع العابر للزمن.
نقلا عن المصري اليوم