تواصل مصر تقديم الدروس للمنطقة والعالم، وهى دروس بدأت منذ زمن بعيد، دروس فى مختلف المجالات، فى العلوم، الفنون، الوطنية والعسكرية أيضا، قديما قدمت مصر دروسها فى الحضارة والثقافة والفنون والعلوم، بل فى علوم ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا، عرفوا الإله الواحد قبل نزول الديانات السماوية وتجلى الوحى الإلهى، آمن أخناتون ومعه الشعب المصرى بالإله الواحد، وقدم المصريون تصوراتهم عن الحياة الأخرى وعن الحساب، عن الثواب والعقاب الذى يتجلى فى كتاب «الخروج إلى النهار» المعروف شعبيا بكتاب الموتى، وجرت صياغة عنوان عريض من دارسى الحضارات لإسهام المصريين فى رؤية العالم الآخر هو من مصر بزغ «فجر الضمير» الإنسانى.
حديثا نهضت مصر وناطحت قوى أوروبا الكبرى فى أواخر عهد محمد على، وصلت قواتها إلى القارة الأوروبية، أدبت الوهابية السعودية، ودقت أبواب الأستانة، عاصمة دولة الخلافة العثمانية، دخلت فى معارك بحرية مع أساطيل دول أوروبية كبرى تآمرت على الأسطول المصرى، وعندما نهضت مصر مرة ثانية بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ جاءت المؤامرة هذه المرة من قوى عربية تلاقت مصالحها مع الولايات المتحدة وإسرائيل فكان عدوان يونيو ١٩٦٧ ومن بعده تم ترويض مصر التى تحولت إلى دولة تابعة للولايات المتحدة، ففقدت كل مميزاتها التى كانت تجعل منها قوة إقليمية رئيسية. جرى التلاعب بمصر إلى الدرجة التى فقدت فيها البلاد كل عناصر القوة والقدرة وباتت تابعا لواشنطن مقابل تمرير مشروع التوريث. وعندها هندست الولايات المتحدة ما يسمى بالربيع العربى، كانت مصر هى الجائزة الكبرى لتيار الإسلام السياسى وتحديدا جماعة الإخوان، فمن واشنطن جرى تدبير المخطط الهادف إلى تمكين الإخوان من مقاليد السلطة فى الدول العربية الرئيسية تمهيدا لإنشاء دولة «خلافة» على أساس دينى، فتكون ملاذا لكل المتشددين من كافة أنحاء العالم، ويجرى من خلال ذلك حل مشكلة إسرائيل بإعلانها دولة يهودية، ويتم استيعاب الشعب الفلسطينى على جزء من أرض سيناء.
جرى ترتيب «الربيع العربى» واستغلال تطلعات شباب مصرى للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لإضفاء وجه مدنى علمانى على عملية هدم النظم السياسية، سار المخطط فى طريقه وجرى نقل سفيرة واشنطن، آن باترسون، من باكستان إلى مصر حتى تشرف على تكرار تجربة «الخلطة الباكستانية» فى مصر. وتوالى سقوط العواصم العربية من بغداد إلى طرابلس (ليبيا) إلى صنعاء، إضافة إلى تدمير سوريا.
ما هو إلا عام تحت حكم المرشد والجماعة فى مصر، حتى خرج قرابة ٣٠ مليون مصرى فى الثلاثين من يونيو للدفاع عن هوية بلدهم، خرجوا يطالبون الجيش بحمايتهم وإنقاذ البلاد من المخطط الشيطانى، فكان أكبر خروج لشعب يدافع عن هويته وعن وطنه.
وضعت قوى الشر مخططا جربته فى العراق، سوريا وليبيا وهو تجهيز عدد كبير من الإرهابيين وتدريبهم وتسليحهم بأحدث الأسلحة فيها المدافع ومضادات الطيران، والتنسيق لشن هجمات متزامنة على مواقع تواجد القوات ومراكز تجمعها ومن ثم السيطرة على تلك المنطقة وإعلانها منطقة خاضعة لسيطرة التنظيم، وجعلها بؤرة للانتشار ومزيد من السيطرة على المناطق المجاورة.
وضعوا المخطط للسيطرة على مدينة الشيخ زويد، ثم رفح والعريش ومن ثم إعلان قيام «ولاية سيناء»، وضعوا المخطط وفق النموذج الذى طبقوه فى العراق، سوريا وليبيا، وبدأ التنفيذ ودارت عجلة قناة الجزيرة التى تحدثت عن مئات القتلى فى صفوف القوات المصرية، وسيطرة تنظيم «أنصار بيت المقدس» على المدن الثلاث. ما هى إلا ساعات حتى قضت القوات المصرية محدودة العدد فى شمال سيناء على الإرهابيين وقتلت أكثر من مئة وسبعين مسلحا وطاردت فلولهم فى الدروب والمغارات، وبدأت قناة الجزيرة تتحدث عن استعمال القوات المصرية للقوة «المفرطة» فى مواجهة المسلحين، وهو تعبير فى غير محله، لأنه تعبير يستخدم فى وصف تعامل قوات الأمن مع تجمعات مدنية أو فى تعامل قوات احتلال مع مقاومين، ولا مجال إطلاقا لاستخدامه فى وصف تعامل قوات مسلحة وطنية فى مواجهة جماعات إرهابية أو تصدى قوات وطنية لهجمات إرهابية..
فشل المخطط وخاب المسعى لسبب جوهرى هو طبيعة القوات المسلحة المصرية، فجيش مصر هو جيش وطنى، جيش الشعب، لا هو جيش طائفى، أو عرقى أو جغرافى، فلا هو الجيش العراقى ولا هو الجيش السورى ولا الليبى، فهو جيش مكون من كافة الشعب المصرى، له عقيدة راسخة من آلاف السنين.
تحية من القلب لرجال مصر الشرفاء أبطال قواتنا المسلحة الذين أعطوا للعالم درسا جديدا فى الوطنية وصلابة الرجال وحب الوطن، تبقى بعد ذلك تحرك القيادة السياسية لتنفيذ خطة إخلاء مدن رفح والشيخ زويد من سكانها، اتخاذ قرار بإقامة منطقة آمنة ممتدة، نقل السكان وتعويضهم، وتوفير مساكن بديلة لهم إلى الجنوب من المدينتين، وعدم التوقف أمام أى اعتراضات فى هذا المجال، فالقضية قضية أمن قومى مصرى له الأولوية على ماعداه من اعتبارات، وفى الوقت نفسه فتح قنوات حوار مع إسرائيل لتعديل بعض بنود الملحق الأمنى فى معاهدة السلام، حتى يسمح بنشر العدد الكافى من القوات وتجهيزها بالأسلحة التى تمكنها من تأمين وحماية منطقة شاسعة هى المنطقة «ج»، لاسيما أن هناك نصا فى المعاهدة يقول بإمكانية تعديل أى بند عبر الحوار والاتفاق، وهو ما يجب أن نتحرك بشأنه فورا ولدينا خبرات كافية فى التفاوض مع الإسرائيليين، ومن ثم وجب التحرك العاجل حتى تبدأ مرحلة ضبط الوضع الأمنى فى شمال سيناء وتنفيذ خطط تنموية طموحة فى تلك البقعة الغالية من أرض الوطن.
نقلا عن المصري اليوم