كتاب «زمن الأصولية» للفيلسوف المصرى الكبير مراد وهبة درس حارق في التفكير فيما يحدث هنا والآن، عقل الفيلسوف ومنطقه ومعارفه الواسعة مقدمة للقارئ الحائر بين التفكير والفعل، وهو غارق في الجنون الدموى الذي يحجب الحلم بفجر أيام جديدة
مراد وهبة جبران «مواليد أسيوط 1926» ظاهرة مصرية نادرة في الحرية والصلابة: في الشجاعة والمعرفة والقدرة على العمل المتواصل، آخر تلاميذ: يوسف كرم: راهب الفلسفة المصرية الذي عاش ومات في طنطا وحيداً، وكان مراد وهبة إلى جواره حتى اليوم الأخير، هو أيضاً تلميذ يوسف مراد، أستاذ علم النفس والفلسفة والاجتماع، واحد من الذين وضعوا جامعة القاهرة «فؤاد الأول سابقاً» في مصاف الجامعات المتميزة.. كان مراد وهبة إلى جواره وهو يفارقنا إلى عالم الغيب، وعقله يسأل التلميذ بحثاً عن حقيقة الحياة والموت.
مراد وهبة: عقل مصرى صلب وقف في وجوه عواصف متعددة مدافعاً عن حرية الفكر والاعتقاد، عن علمانية الدولة والتعليم والتفكير المبدع الخلاق.
زمن الأصولية: رؤية للقرن العشرين، يقع في 40 مقالة صغيرة تتوالى في شكل سؤال وجواب لكى ترسم خريطة فكرية وسياسية وفلسفية لقرن عجيب، شهد حروباً ومذابح وانكسارات وانهيارات، ويبقى العقل الإنسانى يفكر ويبدع ويبتكر، هناك تقدم في الغرب رغم الحروب والانهيارات، وتخلف هنا عندنا في الشرق، وغليان وحياة لا تنطفئ، إصرار على المقاومة والبحث عن خصوصية وجود مختلف.
يرى المفكر الفيلسوف أن الأصولية الدينية تتحكم في عقل المنطقة التي نعيش فيها، الأصولية الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأنها هي العائق الأساسى أمام التعليم الحر المبدع الذي يستطيع أن يغير شكل المجتمعات، وهى العائق الأساسى أيضاً دون الحصول على ديمقراطية حقيقية: وليس تلك الزخارف والحليات التي تدعيها بعض المجتمعات التي باطنها جهل واستبداد.
غرائب هذا القرن الذي يحلله المفكر الفيلسوف أنه شهد تحقق الثورة الصناعية، ودخل عالماً جديداً هو عالم المعرفة، وشهد في نفس الوقت أكبر مد للأصولية ونفى للعقل وحكم السمع والطاعة، وسيطرة الخرافة وعودة السحر والأساطير واستباحة الدم وتحجيب النساء، ما يقرب من 400 صفحة تغلى بالأسئلة، استمرار السؤال ومحاولة الإجابة تجعلك تنسى أن الكتاب كان باباً يومياً يكتبه المفكر الكبير لأن الأسئلة تحيط بالموضوع من كل جانب وتدفع القارئ إلى تفكير حارق محير، هل نحن أمام حضارة إنسانية واحدة؟ هل شُفى العالم من أمراض الاستعمار؟ وهل أمراضه الجديدة لا علاقة لها بالتاريخ القديم، هل الأديان السماوية الثلاثة هي فقط التي تعرف الأصولية صانعة التعصب والعنف؟
في كل صفحة سؤال أو أكثر، والكتاب كله سؤال كبير.
■ ■ ■
قرب نهاية الكتاب فصل محير بعنوان عام القرن العشرين.
ماذا يعنى عام القرن العشرين؟
إنه العام الذي من دونه ليس في إمكاننا فهم مسار القرن العشرين، إنه عام 1979.
لماذا عام 1979؟
إنه العام الذي حدثت فمه أحداث محورية هي على النحو الآتى:
■ أصدر الرئيس الأمريكى جيمى كارتر في يناير 1979 قراراً بتدعيم النشاط الأصولى الإسلامى في أفغانستان والمعادى للاتحاد السوفيتى.
■ بداية غزو السوفييت لأفغانستان.
■ احتلال الحرم الشريف في مكة بدعوى أن النظام السعودى ليس مؤهلاً لحماية البيت الحرام، زعيم الاحتلال وهابى المعتقد ويستند إلى فتاوى ابن تيمية.
■ استولت الأصولية الإسلامية على الحكم في إيران بزعامة آية الله خومينى، وفكرتها المحورية أن الأمر الإلهى له سلطان مطلق على جميع الأفراد وعلى الحكومة الإسلامية، وأن الفقهاء هم الحكام الحقيقيون ويستندون في حكمهم إلى الشريعة الإسلامية وليس إلى الإرادة الإنسانية.
■ تم انتخاب الشاذلى بن جديد رئيساً للجزائر لتدعيم الأصولية الإسلامية فاستدعى من مصر الشيخ محمد الغزالى وعينه أستاذاً بجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية وأمر بأن يفسح له التليفزيون والإذاعة وقتاً لحديث دينى.
■ تأسس في أمريكا حزب الغالبية الأخلاقية المعبر عن الأصولية المسيحية بقيادة القس «جيرى فولول» لتدعيم الدعاية ضد الشيوعية وإطلاق الرصاص اللاهوتى على العلمانية.
■ تم عقد معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل على الرغم من معارضة الأصوليين الإسلاميين، وقد أفضت هذه المعارضة إلى قتل السادات في 6/10/1981.
في عام 2013 أصدر مفكر أمريكى كبير اسمه كرستيان كارل كتاباً عنوانه: متمردون غرباء: وعنوانه الفرعى 1979 مولد القرن الحادى والعشرين.
المتمردون الأربعة هم؟: مارجريت تاتشر «1925-2013»، إعادة اقتصاد السوق بكل قوة محاطاً بمعتقداتها الدينية المتأصلة.
■ دينج شياو بينج «1904-1997» قاد جمهورية الصين نحو اقتصاد السوق، وفكك المزارع الجماعية.
■ الخمينى في إيران: أفكار المودودى وسيد قطب، لا علمانية ولا ملكية، العودة إلى الأصول لازمة والعنف وسيلتها.
■ البابا يوحنا بولس الثانى «1920-2005» في هذا العام قام بزيارتين الأولى إلى أمريكا، وقرر بعدها كارتر دعم القوى الإسلامية ضد السوفييت في أفغانستان، والثانية إلى بولندا حيث وجه ضربة قاضية للنظام الشيوعى، حيث قال للشعب «لا تخافوا.. الله مصدر الخير» وتأسست حركة التضامن التي بدأت بعدها انهيارات الكتلة الشرقية.
السؤال حتى الآن وقد قارب العقد الثانى من القرن العشرين على النهاية: لمن الغلبة للعلمانية.. أم للأصولية؟.
■ ■ ■
مراد وهبة لا يتردد في اتهام النخب المثقفة المصرية بالتقصير، وبما هو أكثر من التقصير، إنهم هم أكبر مسؤول عن تردد الثورة في تثبيت أقدامها في أرض الوطن، في كل المؤتمرات الفلسفية الخاصة بآسيا وأفريقيا، وبمحاولات بعث العقل الإسلامى المتمثل في فلسفة ابن رشد وغيره، تجد مراد وهبة في مقدمة الصفوف: مصرى كبير مثير للفخر والاعتزاز.
المعجم الفلسفى، جرثومة التخلف، رباعية الديمقراطية.
الإبداع في تغيير مناهج التعليم، إعادة تدريس الفلسفة في المدارس الرسمية، كتب وأفكار مراد وهبة المليئة بأسئلة مضيئة: وإجابات تضع أقدامنا على طريق الفجر الجديد.
زمن الأصولية، مراد وهبة، المكتبة السياسيةــ الهيئة العامة للكتاب
نقلا عن المصرى اليوم