ملامح واهنة ومنهكة فى وجهٍ باهت برزت عظامه بشكل ملحوظ، بالكاد تستطيع أن ترى حدود الوجه لكن من الصعب تحديد معالمه على وجه الدقة، إذ يغطى وجهها طبقة سوداء متماسكة ناتجة عن قلة الاستحمام والاغتسال، نظرات تقطر بؤساً وأسى توزعهما على المارة دونما اكتراثٍ أو وعى، وبأسفل العينين الغائرتين تطل ابتسامات هزيلة ومتشنجة طوراً، وطوراً تختفى الابتسامة لتقطب وجهها وتزم شفتيها فى موقف انفعالى غير مبرر، ثم تعقب ذلك بهمهماتٍ غير مفهومة.
فى جلباب رث ومتسخ، يمكن القول بأنه ثيابها الوحيد الذى ترتديه منذ جاءت للقاهرة، تفترش الشابة المجهولة التى لم يتعرف أحد على هويتها الأرضَ بين «كشكين» يقعان على الناصية الأخرى لجامعة القاهرة من ناحية باب كلية التجارة «بقالها حوالى 5 شهور هنا ومحدش عارف اسمها هنا لحد دلوقتى مرة يقولوا جهاد ومرة يقولوا فاتن.. بس العلم عند الله وهو وحده اللى عارف»، هكذا يبدأ أحمد شاكر، أحد سكان منطقة بين السرايات، حديثه عن الفتاة المشردة، التى لا يعرف أصلها أحد، ثم يعقب: «ما أسوأ أن تعيش مجهول النسب أو مقطوعاً من شجرة ومحدش يعرف عنك حاجة، إحساس مؤلم وقاسٍ».
كل ما يتذكره أهل المنطقة، الذين تحدثت معهم «الوطن»، أنهم يعرفون معلومات ضئيلة عنها، حينما تحدثت هى بنفسها لإحدى السيدات التى اطمأنت إليها بعد فترة طويلة قبل أن «يجن جنونها»، على حد وصف أحمد فرعون، بائع الكشك المجاور لمكان إقامتها، لكن المعلومات التى أدلت بها وصفها «فرعون» بأنها لا تكفى، قائلاً: «ما اتكلمتش غير مرة واحدة بس من ساعة لما جت لإحدى السيدات هنا.. ولما حاولت تسألها عن اسمها، وهى جت منين رفضت تتكلم، لكن اكتفت بالكلام اللى عاوزه تقوله بس»، ينسل الأخ الأصغر أحمد فرعون حاملاً فى يديه طعاماً وعصائر فتقوم إليه لتأخذ بخناقه فيتركنا «فرعون» ليخلصه من بين يديها ويحاول أن يسكن من روعها: «اهدى دا أخويا وبيجيبلك المم كل يوم.. دا من العيال الكويسة متخافيش»، وسرعان ما تهدأ ثائرتها وتبدأ فى الأكل بشراهة.
يلتقط أطراف الحديث من «فرعون»، أحمد شاكر، فيقول: «فاتن التى لا يزد عمرها على 21 عاماً حكت أنها كانت شغالة مشرفة فى أحد مصانع الملابس وحصلت مشاكل بينها وبين أهلها لما تزوج أبوها من امرأة أخرى فى حياة أمها، وكان بيضيق عليهم فى المصاريف وبياخد كل مرتبها ومش بيكفيهم، ولما اعترضت على كده، أبوها ضربها وهى عارية تماماً وطردها من البيت، وكانت تتابع باستمرار أخبار أمها بين الحين والآخر، إلى أن رأت أمها ذات يوم غرقانة فى دمها فى بيتنا القديم، بعد أن أصر أبوها على أن تنتقل إليه بعد زواجه التانى»، على حسب روايتها كما يحكى شاكر.
يضيف «شاكر» بصوت مرتفع: «بعد كده هربت من البيت وكانت مفزوعة وفى حالة انهيار عصبى كامل ومالقتش غير المكان ده»، ثم يتململ فى مقعده ويتنحنح قبل أن يقول: «ماكنتش عاوز أقول إنها تعرضت للاغتصاب أكتر من مرة، خصوصاً إن المنطقة مليانة حشاشين ومتعاطى مخدرات، واحنا أنقذناها مرتين منهم»، وهنا يتدخل «فرعون» بقوله: «أعتقد ده هو اللى خلاها تصاب برعشات متكررة، كمان هى ماسلمتش من العيال الصغيرين اللى بيحدفوها بالطوب فبقت مجنونة رسمى»، يؤكد «فرعون» مجدداً أنها لما أتت إلى المنطقة لم تكن مجنونة بل كانت مصابة بانهيار عصبى فقط، لكن تعرضها لتحرشات المنحرفين والعابثين جعلها تصاب بالجنون، مشيراً إلى أن «أصدق حاجة تدلك على إنها مجنونة إنها تجردت أكثر من مرة من ملابسها بالنهار وقت مرور الطلبة والناس، وأحياناً بتنسى اللى بيساعدوها وبتمسك فى خناقهم وتحس من كلامها إنها بتشتمهم»، ويقاطعه «شاكر»: «أنا برضه أو أى حد بيديلها فلوس بترميها أو تقطعها»، وأكد «شاكر» أنه من الضرورى انتشالها من مكانها ونقلها إلى مكان آخر لائق، مشيراً بيده إلى كوم زبالة مجاور لمكان رقودها: «الناس بقت بتقرف من ريحتها اللى بتفوح كل مدة والدبان بيتجمع عليها وبيجيلها تشنجات مستمرة».