أنت فى صومك حر.. القيمة الكبرى فى شعيرة الصيام ترتبط بتحرير الفرد من عدد من الأمور التى تستعبده على مدار العام. ففى اللحظة التى تنتوى فيها الصيام تكون قد اتخذت قراراً بـ«التحرر» من أشياء تشكل مصدر استعباد للذات الإنسانية، من بينها كل شهوات البدن فى الطعام والشراب وخلافه، ولجم اللسان عن الانطلاق فى ممارسة عاداته اليومية فى توجيه سهام السحق للآخرين، والسقوط فى زلقات ومقصودات تؤدى إلى توتر العلاقة ما بين البشر، والمثل المصرى يقول «السم فى اللسان»، بالإضافة إلى أطر النفس أطراً على فعل ما يرضى الله، وهى التى مكثت أحد عشر شهراً خاضعة لسلطان الوسواس الخناس، وتركته يفعل بها الأفاعيل، ويذهب بها كل مذهب فى دنيا المعصية، ولعلك تعلم الحديث النبوى الذى يقول: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين»، لكن لبعض المصريين رأى آخر فى الجملة الأخيرة.
و«صفدت الشياطين».. يقول بعضهم إن شياطين الجن هى التى توضع فى الأغلال فى رمضان، أما شياطين الإنس فتنطلق فى كل الاتجاهات، فى محاولة دؤوبة لإغراء الإنسان بالخروج من دائرة التحرر المرتبط بالصيام، ليدخل من جديد إلى عالم العبودية. هذه التخريجة تساق على سبيل النكتة بالطبع، لكنها تحمل دلالات من نوع ما عندما يخرج الصائم من دائرة «الحرية النهارية» إلى دائرة «العبودية المسائية» بعد أذان المغرب. ليس مطلوباً منك سوى أن تضع نفسك أمام التليفزيون وتمسك بسلاح العبودية «الريموت» الذى يربطك بـ«الشاشة» لتتقلب عليها ذات اليمين وذات الشمال فتأخذك من هنا، حيث الحرية الصائمة، إلى هناك حيث العبودية المفطرة.
لعلك سمعت بذلك الفيلم الأمريكى الشهير المعنون بـ«أن تكون هناك» الذى يروى حكاية مواطن بسيط عاش حياته كبستانى أجير فى أحد المنازل، لم يكن له فى الحياة من مأرب سوى تنسيق الزهور وتهذيب الأشجار طيلة النهار، ثم الركون إلى التليفزيون عندما يأوى إلى حجرته، ويمسك بسلاحه الأبدى: «الريموت»، ينتقل من هذه القناة إلى تلك يتوقف قليلاً أمام مشهد من فيلم تتعارك فيه مجموعة من البشر عراكاً دموياً، فينقبض وينزعج، فيمسك الريموت بيده، وينتقل إلى قناة أخرى تقدم مادة أخرى ناعمة تتفق ومزاجه النفسى الهادئ. وحدث أن ترك الرجل العمل فى هذا المنزل، فارتدى ملابسه، وكان «الريموت» الشىء الوحيد الذى حرص على اصطحابه معه وهو راحل. خرج من هدوء البستان إلى صخب الطواحين البشرية فى الشارع، أحس بقلق يعتريه، وبحياة جديدة تستقبله، وجد شخصين يتعاركان، انزعج وخاف ووجل، وما كان منه إلا أن أخرج «الريموت» من جيبه وسلطه على المتعاركين، وأخذ يضغط على «زر» تغيير القناة، لكن المشهد ظل قائماً وشاخصاً أمام عينيه، هنالك علم أنه انتقل من «هناك» إلى هنا. صدمه الواقع الجديد، وطيلة الفيلم ظل يتعلم درساً واحداً: أن التليفزيون هو «فابريقة» صناعة «الرغاوى»، لقد تحول هو نفسه إلى فقاعة صابونية بفضل التليفزيون. ذلك حال المواطن المصرى فى رمضان، حين تتسلمه دراما «الرغاوى» التى تتسكع على القنوات الفضائية طيلة الشهر الفضيل، فتأخذه من حالة «الصفاء النهارى» إلى ليل «الصابون»، ليتحول، بعد الإفطار، إلى فقاعة تنفثئ عند أقرب إعلان.. وكله عند المصريين «صابون»!
نقلا عن الوطن