الأقباط متحدون - «حليم» كما عرفته..
أخر تحديث ٠٤:٠٨ | السبت ١٣ يونيو ٢٠١٥ | ٦بؤونه ١٧٣١ ش | العدد ٣٥٩٠ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

«حليم» كما عرفته..

مفيد فوزي
مفيد فوزي

 تستهويتى لحظة الميلاد والإطلالة على الدنيا، قبل الرحيل إلى الأبد، أحب شروق شمس النهار أكثر من غروبها، أحب الأمل ورحلة الكفاح أفضل من رحلة الوداع المبللة بالدموع، أحب القادم إلى الدنيا المحمل بالأهازيج أكثر من الذاهب الرائح في موكب الأفول، أعشق نهار الأيام لأنها تحملنى على جناح مفاجآت وأسكت عندما تنزل عباءة الليل حين تسدل الستار على النهار الذي لن يعود!

 
أنتظر الجنين في الأرحام كما الدمعة في الأحداق.. شغف المجىء والوصول وسقوط المطر وانفراجة الضباب، أحب النظرة الأولى وأخبئها في جفونى وأجترها وأستدعيها وأكره النظرة الأخيرة حين ينتابنى النحيب لأنه راح، راح، راح!
 
هكذا أحببت بدايات عبدالحليم حافظ وهو قادم من قرية في قلب الدلتا، يدق بإصرار على أبواب المجهول، لا كارت توصية ولا قريب لهم، شاب نحيل زائغ العينين لديه فقط شىء مخبوء في حنجرته، وإذا فتح فمه، مالت الرؤوس معه وأسكرها صوته، كل من سمعه، صمت احتراماً لموهبة منحها الله لولد يتيم رباه خاله في الحلوات شرقية التي اصطحبنى ذات نهار لا أنساه حين ركبنا «تاكسى بالنفر» وألقيت نظرة على بيته المتواضع تواضع العشب في الأرض، ثم ذهبنا إلى «مكوجى رجل» في الزقازيق هو صاحب الأذن الوحيدة التي كان حليم يصدح فيها، وكان حليم يطلب من صديقه المكوجى أن يحافظ على سن البنطلون وربما الوحيد الذي يمتلكه وقميص أبيض وحمَّالة نايلون تخلص منها فيما بعد حين لفت المصور وحيد فريد نظره لها!! ونزل عبدالحليم إلى العتبة واشترى «حزاماً» رخيصاً يباع على الأرصفة، ويشاء الخالق أن يكون بيت الأزياء الباريسى «سمالتو» هو المعنى بأناقة عبدالحليم أيام الشهرة الطاغية، كان يحافظ على صدره من دخان المدخنين ولم يدخن في حياته باستثناء مشاهد سينمائية!
 
كان «حليم» إذا غنى يبهر سامعيه، وكانت أغانى «عبدالوهاب» تروق له، حتى عندما سمعه الأستاذ في مكتبه «9 شارع عرابى»، ظل يسمعه وهو يتفحصه من وراء نظارته الطبية، وقبل هذا اللقاء التاريخى الذي قلب حياته، كان الكاتب الراحل المحترم أول قطوف بنى سويف في الصحافة «فوميل لبيب» قد همس في أذن إحسان عبدالقدوس أن يسمعه فقط!.. وفى دار روزاليوسف القديمة بشارع محمد سعيد جاء حليم وانتظر إحسان حتى يفرغ من كتابة فصل في روايته «لا تطفئ الشمس».
 
■ ■ ■
 
في تلك الليلة رأيت عبدالحليم على إسماعيل شبانة لأول مرة، كان اللقاءً عفوياً، هو قادم ليسمع صوته الأستاذ إحسان عبدالقدوس، وأنا قادم للتدريب في روزا، حيث كان الإعداد لمجلة صباح الخير، وفى ذلك المساء المنقوش على ذاكرتنا، اصطحبنا الأستاذ في سيارته إلى الهيلتون، وقد طلبت فنجان شاى وطلب حليم أومليت بيض عيون وخبز بلدى! ولم يكف حليم عن الغناء في سيارة إحسان عبدالقدوس أو في الهيلتون، وكتب إحسان في «خواطره الفنية» أشهر باب نقدى في الفن، كتب مشيداً بصوت الفتى القادم من الشرقية، ووصف صوته بالأرغول من فرط ما كان صوته سكوناً بالشجن، ومن الأمانة القول إن إحسان هو أول من أشار إلى موهبة عبدالحليم الفذة قبل أن يتعرف على مصطفى وعلى أمين، وقبل أن يتعرف على كامل الشناوى الذي قال عنه «لا تصدقوا عبدالحليم إلا عندما يغنى»، في ذلك الزمان المبكر كان أشهر نجوم الغناء هم عبدالعزيز محمود وكارم محمود وعبدالغنى السيد ومحمد عبدالمطلب.
 
وكان حليم يستعد لمرحلة مهمة وهى لقاء الأستاذ الشجاعى ولم تنقطع صلته بالأستاذ إحسان الذي كان يناديه بـ«سان» كما كان يناديه أقرب الأصدقاء، أما عن طريقى فبعد محاولات متناثرة في مجلة الإذاعة ومجلة الكواكب ومجلة المجتمع العربى، رسا قاربى في مجلة صباح الخير بعد مقابلتى لحسن فؤاد الذي قدمنى لأحمد بهاء الدين الذي وصفنى بأن لى أهم صفة في من يكتب لصباح الخير، وهى «العفرتة»، وقد سألت الأستاذ بهاء يوماً عن معنى «العفرتة» فقال: اليقظة والصحيان والفطنة تسبقها موهبة في الشخصية والقلم.
 
المهم أنى كنت أرى حليم في فترات متباعدة لكنى لم ألاحظ عليه أي تغيير وكان يسكن هو وشقيقه محمد شبانة «والد محمد شبانة الصغير الذي كبر الآن وصار يحمل مسؤولية صوت الفن»، كانا يسكنان في شقة بالمنيل وفى الشقة المواجهة يسكن شفيق جلال، الذي يملك ثلاجة ليست عند عبدالحليم وشقيقه!!
 
إن رحلة صعود عبدالحليم، قصة تروى للأجيال ورغم التعاريج والنتوءات وبعض الكبوات فأنا لا أغفل مطلقاً تلك الموهبة القذيفة في صوته المغموس في الحزن وسحنته المصرية مثل ملايين المصريين، كان ذكياً وشقياً وعندليباً بصوت الكروان.
 
■ ■ ■
 
يختلف الكبار والشباب على الرموز المصرية إلا عبدالحليم حافظ، الذي جاء من حلوات شرقية في حنجرته «صوت» وفى أمعائه «بلهارسيا» وفيما بعد صار حليم، الذي عرفته «أيقونة» للغناء في عصره واتفق عليه الكل وصاروا حزبه الغفير وظهيره القوى، ورحل العندليب، لكنه دخل حياتنا ولم يخرج! ارتبط بكل قصة حب عاشها اثنان، وفى كل لحظة فراق مرة، كان صوته مواسياً حنوناً، عاش أفراحنا وأحزاننا وترجمها غناءً، وفى كل ثورة انتفضت من ثنايا الشعب المصرى استدعينا صوته «أحلف بسماها» وهتفنا معه «صورة.. صورة»، كنت دائماً أتساءل، لماذا عاش ابن الحلوات الذي انتصر على يتمه وحزنه وظروفه ليصبح وشماً فوق القلوب، لم نكن قد أدركنا البعد السياسى لصوته الذي كان يوماً «واجهة نظام» وإن كان من المهم أن أرسخ مفهوماً مهماً أن عبدالحليم كان تعبيراً عن مرحلة مهمة في حياة مصر، ونقل الأغنية إلى المقهى والشارع والناس، يوماً ما، كان صوته صديقاً لكل سقالة حين كنا «هنبنى السد»، ومازال صوته صديقاً لكل موقف سياسى أو انتفاضة شعبية أو احتشاد مصرى لمناسبة عزيزة.
 
حليم- كما عرفته- كان مجداً فيه «الصبر والإيمان» في الإبحار نحو شاطئ النجاح. حليم- كما عرفته- كان باراً بأسرته وكان محافظاً، حليم- كما عرفته- كان عاشقاً مهزوماً، هزمته الغيرة الملتهبة في حرارة خط الاستواء، حليم- كما عرفته- كان وفياً لأصدقائه، يكفى أنه قال لصلاح نصر بعبع المخابرات في زمن عبدالناصر «لو كان مفيد فوزى متآمراً على الثورة، فمن بيتى»!! كان عبدالحليم حافظ هو طائر الغناء العربى الصداح في فضائنا، لم يكن مجرد «هضبة» بل كان قمة جبل الطرب، لم يكن «كينج» بالإعلان والإلحاح بل كان الكينج الحقيقى وله رعاياه، السميعة والذويقة، وله «مقلدوه» الكثر.
 
في رعشة الحب، نتذكره..
 
في دمعة الفراق، نتذكره..
 
في حماس الحناجر، نتذكره..
 
في نبض الوطن، نتذكره..
 
■ ■ ■
 
عبدالحليم حافظ، صديقى الموعود بالعذاب، والنجاح، عصىَّ على النسيان، هو حاضر، رغم الغياب، وغيابه يكثف حضوره.
نقلا عن المصرى اليوم

More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع