امتدت الأمواج على شاطئ بحر الإسكندرية وقت الغروب تلامس تلك الأقدام الصغيرة لفتاة لم تتعد الثانية عشر من عمرها اختارت أن ترمي ماضيها خلفها بكل ما يحمله من ذكريات قليلة بعدد سنوات حياتها، وقفت وحدها تحفر بأصابعها رسومات بلا معنى على رمل البحر الناعم بنعومة أيديها التي لم تذق الشقاء بعد. كانت المياة باردة ببرودة أيام يحملها لها القدر، أو الاختيار، وأليس القدر اختيار في الأساس.
كانت قد وصلت لتوها إلى المدينة الساحلية هاربة من أهلها، هؤلاء الذين احتفوا يوم مولدها عام 421 ميلاديًا، في العصر البيزنطي، بقدومها وتوسموا فيها خيرًا حتى أنهم أطلقوا عليها اسم مريم، تيمنًا باسم السيدة مريم العذراء، لكنها خذلتهم كما يبدو، كانت رغباتها أقوى من أن يحتويها بيت العائلة، وربما حملت نفس اسم أعظم عذراء في التاريخ إلا أنها لم تكن تنوي أن تظل عذراء بدروها، بل كانت شغوفة بتجربة الجنس رغم سنها الصغير، كما تكشف موسوعة Encyclopedia of Prostitution and Sex Work Volume 1، للباحثة ميليسا هوب ديتمور.
أشرقت شمس عروس المتوسط على صاحبة الـ12 عامًا التي فتحت أعينها على ظهر شاب عاري يشاركها الفراش، كانت هي الآخرى تلتف فقط بملاءة بيضاء تقي جسدها العاري لسعات البرد. بقت مستلقية تبحلق في سقف تلك الحجرة تتذكر كيف مرت الأيام وانتهت بها إلى فراش هذا الشاب، تعرفت عليه مصادفة ولم تناقشه في شيء قبل أن يعودا معًا إلى منزله، كانت تبحث عن متعتها وها هي قد حصلت عليها، فقدت عذريتها كما أرادت، كانت سعيدة بالشعور الذي انتابها حينها، لقد أصبحت امرأة ناضجة الآن.
لم تدرك مريم الصغيرة حينها أنها كانت تخطو خطوة أولى لحياة ستستمر معها لـ17 عامًا، ستصفها هي لاحقًا بكلماتها التي نقلتها الكنيسة الأرثوذكسية بالولايات المتحدة على موقعها الإلكتروني، قائلة: «في الإسكندرية فقدت عفتي وسلمت نفسي للنهم والشهوة الجامحة، عشت هكذا لـ17 عامًا وفعلت كل شيء مجانًا، لا تعتقد أنني رفضت المال لأنني كنت غنية، على العكس عشت في فقر وعملت في غزل الكتان، لكن الحياة عندي كانت قائمة على إشباع شهوة جسدي».
سبعة عشر عامًا كاملة تنقلت مريم من أحضان هذا إلى أحضان ذاك، من فراش هذا الشاب إلى غرفة ذاك، لا تفرق ولا تهتم سوى بإشباع رغبتها، حتى أتى ذلك اليوم من صيف عام 450 ميلاديًا، حين رأت مريم حشود من المصريين والليبيين تتجه إلى البحر، كان موعد عيد تمجيد الصليب المقدس، وكانت الحشود في طريقها إلى القدس. هي التي كانت مفلسة بلا أموال أو طعام أرادت أن تبحر معهم، وما الذي تملكه لتبحر سوى أن تقدم جسدها ثمنًا لتلك الرحلة التي كانت لتتذكرها لاحقًا قائلة: «إني متفاجأة أن البحر تسامح مع عهري وزنتي، أن الأرض لم تفتح فمها وتأخذني إلى الجحيم بالأسفل لأنني تلاعبت بأرواح كثيرة، أعتقد أن الرب كان ينتظر توبتي، لم يرغب في موت عاصية بل انتظر تحولي».
وصلت مريم إلى القدس واستمرت في أسلوب معيشتها التي اعتادته في الإسكندرية وربما أسوأ، كما روت هي لاحقًا، حتى أتى يوم العيد، «ذهبت كالعادة أبحث عن شاب، وفي الفجر كان الجميع يتوجه إلى الكنيسة، لذا ذهبت معهم. ومع اقتراب ساعة الصعود المقدس كنت أحاول أن أدخل إلى الكنيسة مع كل الناس، وبجهد كبير اقتربت بشدة من الباب وحاولت أن أعتصر نفسي إلى الداخل، ورغم أنني وطأت عتبتها إلا أنه كما لو أن هناك قوة تدفعني إلى الخلف، تمنعني من الدخول، دفعتني الحشود إلى الجانب ووجدت نفسي واقفة وحيدة».
لم تستسلم صاحبة الـ29 عامًا وعاودت الكره، تعافر وتقاوم وتستخدم كوعها لدفع الحشود للدخول إلى الكنيسة، لقد أصبح الأمر تحديًا خاصًا لها، تصورت أن ضعفها الأنثوي أبعدها في المرة الأولى لكنها لن تسمح له بإبعادها في المرة الثانية، كانت تدفع الناس بقوة إلا أن دخولها إلى الكنيسة بقى أمرًا مستعصيًا عليها، مهما حاولت بقوة، كلما لمست عتبة الكنيسة كانت قوة ما تدفعها إلى الخارج بينما يدخل آخرين، كانت هي الوحيدة التي غير مسموح لها بالدخول، كما تروي، حاولت مرتان وثلاثة وأربعة ولا أمل، انهكت قواها ووقفت تتطلع إلى الآخرين من إحدى الزوايا.
كان الحزن يتملك قلبها ولا تجد تفسيرًا لما حدث، «لما أنا دون عن الكل، لست أضعف جسدًا من تلك الطفلة أو هذا الكهل، لما استعصى على أمرًا بدا بسهولة مرور الماء بين أصابع اليد»، حينها تذكرت، لم يكن الأمر أبدًا له علاقة بقوتها الجسدية أو بل كان شيئًا آخر يمنعها من الدخول، شيئًا ثقيل لم تشعر بعبئه حتى اللحظة، لقد كانت خطاياها.
«أدركت أن خطايايا منعتني.. ثم لمست نعمة الرب في قلبي، بكيت واستغفرت وبدأت أضرب على صدري، حتى رأيت فوقي أيقونة العذراء مريم، فشهقت من أعماق قلبي والتفت إليها وصليت»، تروي مريم.
لحظات من الندم انتابت المرأة العشرينية وهي تصلي بينما تمر أمام أعينها سنوات المعصية: «أيتها العذراء مريم.. إني مثيرة للكراهية والاشمئزاز أمام نقائك، لكني أعلم أيضًا أن الرب يدعو الخطاة إلى التوبة. ساعديني أيتها النقية. اجعليني أدخل الكنيسة، اسمحي لي أن أنظر إلى الخشب الذي صلب عليه الرب بجسده وسال دمه عليه من أجل أن يتوب الخطاة ومن أجلي أنا أيضًا، كوني شاهدتي أمام ابنك أنني لن أدنس جسدي مجددًا بنجاسة الزنا. في اللحظة التي سأرى فيها صليب ابنك، سأتخلى عن العالم وأذهب إلى حيث تقوديني».
انتهت مريم من صلاتها ودموعها تتساقط وتبل قدميها، إلا أن «شعور بالثقة في رحمة العذراء مريم» انتابها، حسب روايتها، لتترك موقعها في ذاك الركن لتقم بمحاولة جديدة لدخول الكنيسة، لم يدفعها أحد هذه المرة ولم يمنعها أحد، وطأت قدماها الكنيسة أخيرًا، بينما دقات قلبها تتسارع في خوف وترتجف أطرافها كما لو أن الحرارة قد وصلت لعشرات الدرجات تحت الصفر.
كانت سعادتها بالدخول خرافية، وسجدت مريم لتقبل أرض الكنيسة، قبل أن تصلي للعذراء مجددًا: «أيتها السيدة، لم ترفضي صلاتي، المجد للرب، الذي يقبل توبة الخطاة، حان الوقت لتنفيذ عهدي الذي شهدتي عليه، لذا ارشديني لطريق التوبة».
«إذا عبرتي إلى الأردن ستجدين راحة عظيمة»، صوت سمعته ربما آتى من الأعلى، حسب بعض الروايات، وربما من الداخل، حسب روايات آخرى، إلا أنها تبعته، كانت أخر كلامتها قبل الرحيل «أيتها السيدة لا تتركيني».
كانت الساعة التاسعة صباحًا حين رحلت مريم عن القدس ومع غروب الشمس كانت قد عبرت إلى كنيسة سانت جورج على ضفاف الأردن. ليلة واحدة قضتها في الكنيسة مستلقية على أرضها متخذة من الأرض سرير عابر، ليس كأي سرير قضت فيه ليلة من قبل، فهذه المرة لم تكن رحلة شهوة بل رحلة توبة.
في الصباح التالي، وجدت مريم مركب صغيرة عبرت بها النهر إلى الضفة الأخرى، وصلت مجددًا لترشدها السيدة العذراء إلى المكان الذي تريدها أن تذهب إليه، لتجد نفسها في الصحراء.
كانت الرياح تحمل ذرات الرمال من أرض صحراء الأردن لترتطم بوجه الراهب زوسيموس الذي خطت قدماه ترسم طريقًا على الرمل لم يعلم أنه سيقوده إلى قصة لن ينساها طوال حياته، ففي قلب الصحراء، عام 521، وجد سيدة عجوز عارية ووحيدة. أي مصادفة تلك وما حكايتها هذه المرأة، كان شغوفًا بأن يعرف ما الذي أتى بعجوز في هذا العمر إلى قلب الصحراء. كانت العجوز عنيدة، فرفضت في البداية محاولاته بأن يغطي جسدها العاري بعبائته، إلا أنه أصر حتى رضخت له في الأخير، كما ذكرت «ديتمور» في كتابها، ومع إصراره بشكل أكبر على أن يعرف حكايتها، روت له العجوز التي لم تكن سوى مريم نفسها قصتها مع الخطيئة والتوبة، لكي يتعلم الآخرون من قصتها.
كانت مريم قد تزودت ببعض الخبز قبل رحيلها من القدس، ومع وصولها إلى الصحراء راحت تأكله قطع صغيرة حتى ظل معها لسنوات، كما تروي، ومع انتهاءه راحت تأكل من الأعشاب، أما ثيابها فقد تمزقت وسقطت قطعة وراء الأخرى، «عندما بدأت في أكل الخبز فكرت في اللحوم والأسماك التي تركتها في مصر، «كذلك اشتقت للنبيذ الذي كنت أحبه عندما كنت أعيش في العالم، أما هنا فلم يكن لدي حتى الماء، عانيت من الجوء والعطش، كنت أبكي وأضرب نفسي على صدري وأتذكر العهد الذي قطعته على نفسي»، حكت مريم للراهب.
وجلس هو ينظر في عيناها فيما تابعت: «كيف يمكن أن أقول لك عن الأفكار التي راودتني عن الزنا؟ بدت كنار تشتعل بداخلي، توقظ بداخلي الرغبة في الاحتواء، فكنت ألقي بنفسي على الأرض وأرويها بدموعي، كان يبدو لي أنني أرى السيدة العذراء أمامي تحذرني من عدم الوفاء بعهدي، أنام ووجهي للأسفل نهارًا وليلًا مقابل للأرض، ولا أقوم إلا عندما يحيط بي هذا الضوء المبروك مزيلًا كل تلك الأفكار الشريرة التي أرقتني».
اجتذبت القصة الراهب بشدة، لم يقاطعها وتركها تكمل حديثها: «عشت في هذه الظروف في أول سبعة عشر عامًا، ظلام يتبعه ظلام، مآساة خلف مآساة تتابعت على، عاصية، لكن منذ ذلك الوقت وحتى الآن وقفت السيدة العذراء معي في كل شيء».
استمر الحديث لمدة طويلة، وحان موعد رحيل الراهب، كان عليه أن يتركها وحدها في صحراء أصبحت بيتها ومستقرها الأخير، إلا أنه وعدها بلقاء آخر في العام القادم.
امتدت مياة النهر تلامس رمال الصحراء وتلك القدم الصغيرة التي استلقت عليه في سكينة لا تنتاب جسد شخص حي، كان العام قد مر، وعاد الأب زوسيموس لرؤية مريم، ليجد جسدها مستلقي على رمل الصحراء بجانب ضفة النهر وقد رحلت الروح عنه.. والمعاناة. رحلت بعدما أصبحت أيقونة للتائبين ونور مرشد لهم في عصرها، لم يدر إذا كان عليه أن يدفنها في الصحراء، ليجد علامة على الرمال تأمره بدفنها في مكانها، كما روى ونقل عنه القديس سافرونياس الذي كان أول من دون قصة مريم كتابة.
نظر الأب زوسيموس حوله وتسائل في نفسه: «كيف لي أن أحفر قبرًا بيدي فقط»، قبل أن يجد خشبة كان قد تركها أحد المسافرين خلفه في الصحراء، إلا أن الأرض كانت قوية وجافة فلم تفلح محاولاته في الحفر، ومع كبر سنه، جلس ليرتاح بعدما أرهق من المحاولة، ليرفع عينه ويجد أسد يلعق قدمي مريم، لتنتابه رعشة خوف، خاصة حين تذكر أن مريم قد قالت له إنها طوال فترة حياتها في الصحراء لم تقابل حيوانات مفترسة أو وحوش.
تقدم الأسد تجاه الراهب في هدوء فيما لم يبد أي علامات للعداوة، ليوجه له الراهب سؤالًا: «الرب أمر أن يدفن جسدها ولكني عجوز وليس لدي القوة لحفر القبر، فهل يمكنك أن تقوم بهذا العمل بمخالبك؟ حينها يمكننا أن نعيد للأرض الجسد البشري للقديسة»، وبينما تحدث الراهب بتلك الكلمات بدأ الأسد الحفر بمخالبه بالفعل بعمق يسمح بدفن الجثة.
دفن الراهب جثة مريم وغسل قدماها بدموعه طالبًا منها أن تدعو للجميع، قبل أن يغطي جسدها بالرمال كما عاشت، عارية لا ترتدي سوى عبائته التي كان قد أعطاها إياها في الزيارة السابقة، ورحل هو والأسد الذي انطلق في الصحراء.
لم يدون الراهبون القصة ولم يكتبوها، لكنهم تناقلوها فيما بينهم كلمة بكلمة، قبل أن يكتبها لاحقًا القديس سافرونياس بمجرد سماعها، لتصبح قصة القديسة مريم، إحدى القديسات القلائل الذين لم يكونوا عذارى كما تقول «ديتمور» في كتابها، من أشهر قصص العصر البيزنطي من تاريخ مصر.