إن الدين نفسه لا يتجمّد، لكن الذى يتجمد هو عقول فسرت النصوص القرآنية والنبوية الواضحة والمباشرة، بأيديولوجيات عقيمة تجمدت معها المنظومة العقائدية والتشريعية فى كهنوت بشرى يتخفى فى ثوب إلهى!
وهنا لا بد من تفكيك الفكر الإنسانى المتصلب والمتقنع بأقنعة دينية؛ حتى يمكن كشفه أمام نفسه وأمام العالم. وهذا التفكيك ليس للدين نفسه إنما للفكر الإنسانى الدينى الذى نشأ حول «الدين الإلهى»، وصنع أنساقاً ومذاهب متضخمة مثل قصور من الخرسانة لكنها تقف على الرمال، وتنتظر من يحرك تلك الرمال حتى ينهار ما فوقها.
وعملية الانصهار أو التفكيك التى نتحدث عنها ليست على طريقة التفكيكيين الجذريين، مثل جاك دريدا، وإنما هى عملية تفكيك من أجل إعادة البناء على أرض نظيفة. فالتفكيك المرفوض هو الذى لا يعيد البناء؛ وهو التفكيك من أجل التفكيك، ونتيجته لا محالة هى الفوضى التى يريدها أعداء الإسلام والوطن سواء من الخارج أو من الداخل.
إن رفع الأنقاض ليس غاية، ولكنه وسيلة. ومأساة التفكيكيين الغربيين، ومن تبعهم من التفكيكيين العرب، أنهم يتخذون من عملية التفكيك نفسها منهجاً وغاية! وهذا هو الفرق بين التفكيك المنهجى الذى ندعو إليه من أجل إعادة البناء وتجديد «أمر الدين» والتفكيك المذهبى المطلق الذى لا يدرك أنه يساهم فى استمرار الفوضى الذهنية التى تسيطر على الساحة الفكرية والدينية والسياسية.
وبدون التفكيك المنهجى لا يمكن الخروج من تلك الحالة من التجمد التى تسيطر على الخطاب الدينى التقليدى منذ قرون طوال، ليس فقط فوق منابر الإعلام والوعظ، وإنما أيضاً فوق منصات تدريس العلم والبحث فى العلوم الشرعية والإنسانية.
فما حدث فى تاريخنا المتأخر أن تلك العلوم تجمدت؛ حيث كان جهد المتأخرين هو الشرح والتلخيص والمتون والحواشى، أما تطوير العلوم الشرعية فقد أصبح بدعة وضلالاً، وهذا معناه التوقف عن الاكتشاف والاستنباط والاجتهاد وإعادة الاجتهاد، ومعناه النكوص عن الأوامر الإلهية، ومعناه توقف التاريخ، ومعناه وأد مقاصد الوحى!
والسؤال: هل يمكن أن تستفيد عملية التفكيك العقلى للمنظومات الفكرية المتجمدة من عمليات شبيهة فى الفيزياء؟ وهل يمكن أن يتجدد الخطاب الدينى وتتطور العلوم الشرعية وهى فى الوضع الذى هى عليه من التجمد؟
بطبيعة الحال إن معالجة التجمد فى الفكر العلمى أو الدينى لا تختلف كثيراً عن معالجة التجمد فى الطبيعة؛ فالمادة الصلبة أو المتجمدة عصية على إعادة التشكيل وغير قابلة للتطور دون تحويلها إلى مادة سائلة. والتجمد مصطلح فيزيائى يطلق على الحالة الصلبة للمادة عندما تتحول من حالة سائلة إلى حالة صلبة، وحالة مثل هذه أصابت الفكر الدينى، لا بسبب من الدين نفسه، ولكن بسبب العقول التى تجمدت عند حدود التقليد؛ فالتقليد هو درجة الحرارة المنخفضة التى يتحول معها الفكر من «حالة مرنة ديناميكية» تأخذ شكل الواقع المتجدد إلى «حالة صلبة متجمدة» تأخذ شكل الواقع القديم المنتهى وتعاند الواقع الجديد والمتجدد، مثل الماء الذى تحوله البرودة إلى ثلج متجمد يناسب الإناء الذى تجمد فيه ولا يناسب إناءً جديداً له أبعاد مختلفة. ومن الواضح أنه لا يمكن له أن يناسب هذا الإناء الجديد دون إعادة تفكيكه أو انصهاره أو تذويبه وتحويله إلى سائل مرة أخرى. فالسائل هو الذى يأخذ شكل الإناء، ولأنه سائل فإنه يتشكل بشكل جديد إذا وضع فى إناء آخر.
والدين مثل الماء، الماء سبب للحياة المادية، والدين سبب للحياة الروحية، درجة الحرارة المنخفضة تحول الماء إلى مادة صلبة، والتقليد يحول الفكر الدينى إلى قصر من الخرسانة المتجمدة لكنه يقف على أقدام فخارية، الماء لا يمكن أن يُشرب ويرتوى منه الجسد دون أن يتحول إلى سائل مرن، والدين لا يحيى روح الإنسان ويُصلح الواقع المتجدد دون يكون الفهم الإنسانى له متجدداً دوماً.
ومع أن التجمد حالة تحفظ الطعام من الفساد وتحميه من تكاثر الفطريات والبكتريا وتوقف التفاعلات الكيميائية مثل الأكسدة والتحلل والإرجاع، فإن التجمد فى الفكر الدينى أمر مختلف، فهو يؤدى إلى أكسدة الحياة وتحلل المجتمع بحكم زيادة الفطريات والبكتريا العقلية التى تضرب كل شىء! فربما يحمى التجمد الطعام أو المادة، لكنه فى الفكر ينتج آثاراً سلبية تفسد كل شىء. وفى حالة مثل هذه لا يمكن أن يتجدد الخطاب الدينى، كما لا يمكن أن تتطور علومه.
فالتجمد إذا كان مفيداً فى الطبيعة فى بعض الأحوال، فإنه ضار بالدين والفكر فى كل الأحوال. والحل هو أن نقوم بحالة تشبه ما نفعله مع «المادة الصلبة» فى الفيزياء، فنحن لا يمكن أن نحول الماء المتجمد إلى الحالة السائلة التى ينتفع بها الجسد دون أن نلجأ إلى عملية «الانصهار»، إن الفكر الدينى الذى تجمد بحاجة لعملية مثل هذه، وهو ما يطلق عليه عملية التفكيك.
نقلا عن الوطن