(1)
نجح كل من محمد على والاحتلال البريطانى فى تجاوز النظام الإدارى الذى عرفته مصر عبر العصور منذ الفراعنة إلى ما قبل الدولة الحديثة. والذى «تحور» مرات عدة ليستجيب لأنظمة الحكم الوافدة منذ البطالمة وإلى محمد على وأنظمتها الاقتصادية المتغيرة/المتعاقبة (مرورا بالرومان والولاة والطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين).. وعلى الرغم من الطبيعة الحداثية لهذين النظامين، واعتبارهما نقلة نوعية حاولا بهما أن يؤسسا لجهاز إدارى مصرى يتناسب والدولة الحديثة المصرية بحسب محمد على، والدولة العصرية التى تلائم الاحتلال البريطانى.. إلا أن التحديث لم يطل إلا مساحات ثلاثا... فما هى هذه المساحات الثلاث؟ وما تعنيه لنا؟
(2)
«الهيكلية التنظيمية» و«الإجرائية» و«الفورماتية»؛ ثلاثة ملامح رئيسية ميزت كلا من النظامين الإداريين لمحمد على والاحتلال البريطانى.. الهيكلية التنظيمية؛ أو بحسب ما ورد فى قانون «سياست نامة محمد على أو النظام الأساسى ـ 1837»، حيث يتم تقسيم «دولاب العمل» إلى: «دواوين»، ليكون كل ديوان منوطا به «بعض من وجوه نشاط الإدارة». ويتفرع من كل منها «مصالح» أو«مديريات» (أى إدارات)، وبكل من هذه التقسيمات «أقلام: قلم الحسابات، وقلم المستخدمين،..، إلخ).. ثم إضافة مجلس نظار/وزراء لاحقا. واستمرت الهيكلية التنظيمية للدولة فى عهد الاحتلال البريطانى على ما هى عليه ولكن مع «تحوير» مهم، أطلق عليه: «تهنيد مصر» أو مهمة «الإصلاح الإدارى للحكومة المصرية».. فاللورد كرومر قام بتشكيل إدارى إنجليزى يتابع الإدارة المصرية. أو ما يمكن أن نطلق عليه: «الإدارة المزدوجة» التى تتكون من «رؤساء إنجليز» و«أيدى مصرية». وتحت حجة أن المصريين غير أكفاء، أصبح الإنجليز غالبية فى الجهاز الإدارى، سواء من خلال الوظائف العامة الرسمية المعروفة فى الهيكلية التنظيمية، أو من خلال ما عرف بنظام: المستشارين والمفتشين. لذا أصبح من يُعين فى «الميرى» هو من المحظيين لأنه يقارب السلطة والإنجليز. ومن ثم فمن «يفوته الميرى عليه أن يتمرغ فى ترابه» بكل الطرق.. وفى الحالتين الإداريتين وقت محمد على والاحتلال البريطانى لم يكن للجهاز الإدارى فلسفة تحكمه أو تربط بين مكوناته فى إطار رؤية متكاملة شاملة تتجاوز الرؤية الضيقة لمحمد على أو مصلحة الإنجليز الاستعمارية.. فلاشك أنه وبحسب رؤوف عباس ـ 2000، وطارق البشرى ـ 2015، فإن التنظيم الإدارى الحديث «يوحى بالاطلاع على نظم الإدارة الحديثة بمعايير القرن التاسع عشر فى الدول والمجتمعات الأوروبية.. يستجيب لما أوجبته أوضاع النشاط الاجتماعى والاقتصادى الحديث من حيث تعدد الاختصاصات وتنوعها ومن حيث تنوع المهن والتخصصات الفنية...». ولكن لا توجد رؤية حاكمة للكيفية التى يمكن أن يدار بها الجهاز الإدارى تتجاوز الرغبات الشخصية للحاكم الفرد فى عصر محمد على، والمصالح الاستعمارية البريطانية وقت الاحتلال الانجليزى.. هذا عن الهيكلية التنظيمية.. فماذا عن الإجرائية؟
(3)
الإجرائية؛ وأقصد بها أمرين: أولا: الجانب المتعلق باللوائح المنظمة للعمل، وثانيا: دورة العمل. وهو جانب عملى فى المقام الأول لا يتضمن أى مضمون فلسفى أو فكرى أو منطقى. والمراجع لسياست نامة محمد على وللقانون 28 لسنة 1923 على سبيل المثال. سوف يجد أن الأول يتطرق فى العموم إلى: الهيكل الإدارى. وواجبات الموظفين وتتراوح بين النصائح العامة مثل: بذل أقصى الجهد ولكن فى ماذا ـ لاحظ عزيزى القارئ ـ «جباية مستحقات الدولة»، وبين نظم وقواعد التزام بعض المصالح مثل: إجراءات تسويق المحاصيل،...،إلخ. والجزاءات والعقوبات. أما القانون الثانى فكان تفصيليا يتعلق: بقواعد تشغيل الموظفين، وتعيين المؤقتين، وتنظيم المعاشات، وتوزيع المرتبات،.. إلخ.. والمحصلة أن الممارسة الإدارية فرضت على الموظفين أن «يربطوا الحمار مطرح ما يعوز صاحبه».. فالجهاز الإدارى ملك من يهيمن على السلطة. وعليه غلب على الموظفين العمل بلا «روح». ففى مقابل توظيف الحاكم وأسرته أولا، ثم سلطة الاحتلال للبيروقراطية، عمل الموظفون على الاستفادة من الجهاز الذى يسيرونه بطرقهم الخاصة طالما يتبعون اللوائح ويسيرون دورة العمل، بغض النظر عن الصالح العام وكفاءة الخدمات وتلبية تطلعات المواطنين ومدى تأثير كل ذلك على التنمية العامة للوطن.. لذا كانت الفورماتية.. كيف؟
(4)
الفورماتية/الاستماراتية؛ وأقصد بها الجانب الورقى للإجراءات من: استمارات، وأذون، ومذكرات، وتقارير، وخطابات، ومحاضر اجتماعات، وعقود،...، إلخ. والميزانية وتقسيمها الورقى إلى أبواب. وهو ولا شك من جانب، يعد أمرا حداثيا حيث يعكس الأخذ «بالاستماراتية» شكلا من أشكال الحداثة، حيث كل أمر من الأمور يتم توثيقه ورصده وحصره ورقيا. إلا أنه يعد من جانب آخر، استغراقا ورقيا يمكن الموظفين من إعاقة أو تسريع المصالح العامة أو الخاصة حسب الظرف.. ما دلالة كل ما سبق؟
(5)
بالرغم من الحداثة الشكلية للإدارة المصرية فى الدولة الحديثة. إلا أنها لم تعتن بما هو صالح المواطنين وخدمة واقع المجتمع المصرى، فكانت أقرب لأداة أو آلية فى يد من يديرها ومصالحهم. ولا يمنع ذلك من أن تستفيد عناصرها بصورة خاصة. وأيضا وبالرغم من الحداثة الإدارية فإن البيروقراطية ظلت تحمل آفات ما حملت عبر العصور من «مركزية»، و«تراتبية»، و«هيمنة».. والسؤال: هل بقى الحال على ما هو عليه بعد الاستقلال الوطنى؟.. نواصل...
نقلا عن المصري اليوم