بقلم : صموئيل عازر دانيال
لو صدر القانون الجديد للأحوال الشخصية

- 1 -
خلق الله الإنسان كصورته وكشبهه. وصورة الله وشبهه معناها أن يكون حُرَّ الإرادة، وقد وضع الله فيه شعاعاً من اللوجوس أي الكلمة والعقل. الله لم يخلق أية خليقة أخرى – ولا حتى الملائكة – على صورة الله وكشبهه. ولماذا خلقه الله هكذا؟ ذلك لكي يحبه الله، ولكي يرد الإنسان على هذه المحبة بمحبته لله. الحيوانات والنباتات والجمادات لا تحب الله ولا تحس بمحبة الله.

على أن الله وهو يعطي الإنسان موهبة حرية الإرادة والاختيار، كان يتوقع طبعاً أن يسيء الإنسان الاختيار. فهذا من ضمن موهبة حرية الإرادة أن يكون حرّاً في اختياره الخير أو الشر. ولذلك وضع له الوصية أن لا يأكل من الشجرة. وأساء آدم الاختيار وخالف وصية الله. وبحسب تعليم آباء الكنيسة وصلوات القداس الإلهي، فإن الإنسان بقطفه من الشجرة اقتطف معها حُكم الموت، كنتيجة طبيعية لانفصاله إرادياً عن الله.

لم يقل الكتاب المقدس ولا تقليد الكنيسة الليتورجي أن ذلك كان إنتقاماً إلهياً من الإنسان، بل كان نتيجة لانفصاله بإرادته عن الله مصدر حياته أي يخضع للموت – كما تقول صلوات القداس الإلهي: "أنا اختطفتُ لي قضية الموت" (ليس الله الذي انتقم من الإنسان فأماته). بل إن الله في نفس لحظة السقوط دبر له الخلاص والغلبة على إبليس: "هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ" (سفر التكوين 3: 15).

أما رد فعل الله فكما تقول صلوات القداس مُخاطبة الله هكذا: "أنت حوَّلتَ لي العقوبة (بمعنى النتيجة الطبيعية لمخالفة الوصية: موتاً تموت) حوَّلت لي العقوبة خلاصاً". وكلمة "العقوبة" لا علاقة لها بانتقام إلهي فهي تعني لغوياً: العقوبة من كلمة عَقَبَ أي: شيء يأتي بعد شيء، وليس بمعنى الإنتقام بل بمعنى النتيجة الطبيعية لأي تصرف يأتيه الإنسان حسناً كان أم شراً. ثم تستطرد الصلوات: كراعٍ صالح سعيتَ في طلب الضال. كأب حقيقي تعبتَ معي أنا الذي سقط. ربطتَني بكل الأدوية المؤدية إلى الحياة. أنت الذي أرسلت لي الأنبياء أنا المريض. أعطيتني الناموس عوناً. أنت الذي خدمتَ لي الخلاص لما خالفتُ ناموسك" (لاحظ تصرف الله بعد المخالفة: خدمة الخلاص كراعي، كأب، كطبيب، كمُعين، كخادم خلاص الإنسان، وليس كمُعاقب بالموت بمعنى الانتقام وتعذيب الناس لأنهم خالفوا أول وصية وشريعة أخذها الإنسان).

طبعاً هذا الكلام قد يبدو غريباً على أذهان الجيل الحاضر لأنهم ما عادوا يسمعون تعاليم الأرثوذكسية التي لم تأخذ مجالها وقوتها في الكنيسة فى الوقت الراهن، كما كان في الأجيال الماضية، بل صار التعليم للأطفال منذ الصغر يدور حول الخطيئة والعقاب، والانتقام الإلهي لجرح كرامة الله، إلى آخر هذه المقولات، وحتى إن لم يكن البعض قد سمعها هكذا، لكن السلوك السائد في أوساط المعلمين والآباء صار ينضح بهذه الفكرة: الخطيئة والعقاب الأبدي، أو مخالفة تعاليم الكنيسة ومعاقبتها بشدة وأحياناً أبدياً، الكرامة الإلهية التي جُرحت وأُهينت، أو كرامة الكهنوت التي أُهينت ويستحق فاعلها العقاب وربما المميت والأبدي، مخالفة الوصية والعقوبة الأبدية، أو مخالفة أوامر الرؤساء والعقوبة عليها وأحياناً إلى الأبد.
ولكن إبن الله الذي هو كلمة الله أتى لابساً الطبيعة البشرية، ليخلق الإنسان جديداً – لأنه هو الذي به خلق الله الآبُ الإنسانَ الأولَ –
 
وها هو يعيد خلقته ثانية. ولكن هذه المرة ليس بكلمة من فمه بل بأن يحل الكلمة بنفسه إذ يأتي هو ليعيش فينا في طبيعتنا البشرية ووسط محن وآلام حياتنا اليومية وشقاء جبلتنا البشرية، مُشاركاً ضعفنا (حتى أنه قيل عنه "أَنَّهُ... صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ" (رِسالَةُ بولُسَ الرَّسولِ الثّانيةُ إلى أهلِ كورِنثوسَ 13: 4)، وذلك لكي يحوِّل  هذا الضعف إلى قوة الله. فالمسيح شارك حياتنا وبالتالي لم يأنف من مذلة الإنسان وضعفه وخطاياه وتقلُّب أحواله وسرعة ميله للشر، وكما كُتب عن المسيح: "رَئِيسُ كَهَنَةٍ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا" (رِّسالَةُ بولس الرسول إلى العِبرانيِّينَ 4: 15). بولس الرسول كان يعبِّر عن ما استُعلن له عن حياة المسيح وتعاليمه ومنهجه في شفاء البشر من مرض الخطية، وذلك مما استقاه من الرسل ومن استعلان المسيح نفسه شخصياً له، أن المسيح: " قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا".

ما هذا المسيح؟ أين هو من مسحاء الجيل الذي نعيشه اليوم: معاقبة الخطاة، لماذا لم يُحسن هؤلاء المُطلَّقون الإختيار من الأول، والمطلَّقين والمُطلَّقات نحن لا نعترف بضعفهم البشري الذي جعل حياتهم المشتركة لا تُطاق؟ فأصحاب هذا الفكر يريدون أن يجبروهم (رغماً عن حرية إرادتهم التي أعطاها لهم المسيح، بينما المسيح لم يجبرهم) على العيشة معاً قسراً واضطراراً وغصباً عنهم، حتى ولو أدى الأمر إلى أن يقتل أحدهما الآخر، أو يسيبوا الكنيسة أو يروحوا لطايفة أخرى أو يتزوجوا مدني، أو إذا استعصى عليهم الأمر يخبطوا دماغهم في الحيطة كما شاهدنا وسمعنا في الأحاديث المعروضة على الناس مسيحيين وغير مسيحيين على شاشات التليفزيون).

هؤلاء يفعلون هذا، أما المسيح، رئيس الكهنة الأعظم والوحيد، فهو يعترف بضعف البشر ويرثي لضعفاتهم، رأس الكنيسة في السماء وعلى الأرض ’عمانوئيل الله معنا كائن معنا‘ وأسقفها الكبير، والرئيس المباشر فوق الكهنة الذين على الأرض، وفوق رئيس الكهنة الذي على الأرض الذي "هُوَ أَيْضًا مُحَاطٌ بِالضَّعْفِ" (كما وصفه القديس بولس الرسول في رسالة العِبرانيِّينَ 5: 1)، فالمسيح يقبل الناس على "ضعفهم"، ومستعد أن يغفر لهم ضعفهم كما فعل مع المرأة الزانية المحكوم عليها من المجمع غير المقدس الذي لليهود، بل ويُطلق سراحها وسراحهم ويعطيها ويعطيهم الفرصة الثانية: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنا 8: 2-11). المسيح نقض حكم المجمع غير المقدس بقوله: "وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ". ولم يرسل وراءها رسلاً يتأكدون أنها لن تخطئ ثانية، وأنها لن تتزوج ثانية لأن هذا مُحرَّم، فلم يذكر التاريخ ماذا فعلت هذه المرأة بعد ذلك. لم يجبرها المسيح – وهو لا يجبر أي إنسان - لأن هذا ضد قانون وتصميم خلقته للإنسان منذ البدء: حرية الإرادة وحرية الاختيار، حتى ولو أساء الإنسان الاختيار. المسيح يفرح دائماً حينما يتعامل مع الإنسان من خلال احترامه لحرية إرادته. يا لتواضع المسيح! ويا لمجد المسيح وعظمته وبهائه الإلهي في اتضاعه!

ولكن كيف يتصرف المسيح مع الناس الضعفاء غير القادرين على تنفيذ وصاياه؟ وصايا المسيح هي علامات الطريق إلى ملكوت الله، إنها مُثُل عليا وقواعد للسلوك تليق بأبناء وبنات العهد الجديد الطالبين والطالبات الحياة الأسمى أي حياة الروح القدس. فمثلاً يُقدِّم المسيح في عظته على الجبل هذه الوصايا: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ"، "كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ" (تصلح للحياة الزوجية الصعبة)، "كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ"، "إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ"، "إِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ"، "إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي"، "الَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ"، "لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ"، "لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا"، "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا". "وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ" (إنجيل متى 5: 22 – 41)، وغير ذلك من الوصايا والمُثُل العليا. بعض الوصايا ينفذها معظم الناس، وبعضها ينفذها القليل من الناس، وبعضها يخفق البعض في تنفيذها بعد ممارستها ويصعب عليهم تكميلها بعد ذلك. هذه حقائق واقعية لا جدال فيها.
 
فبماذا حكم المسيح  على مُنفِّذيها وغير مُنفِّذيها؟ المسيح قبل بدئه في سرد هذه الوصايا والُمثُل سبق ونطق الرد على هذا السؤال: "فَمَن نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (متى 5: 19). مَنْ نَقَضَ... يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. أي لا عقوبة، بل سمَّاه المسيح بفمه الإلهي الطاهر: "أصغر"، ولكنه مع ذلك يظل في مَلَكُوتِ السَّمَاوَات، لم يطرده المسيح من ملكوت السموات كما طرد آدم سابقاً من الفردوس. وكيف ذلك يا رب؟ أليس آدم نال عقوبة الموت وطُرد من جنة عدن لأنه لم ينفذ الوصية؟ لكن المسيح في العهد الجديد يريد أن يرقى بالبشرية التي لبسها وصار كواحد منا، وهكذا حكم في موضع آخر من الإنجيل: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ" (19: 12). "مَّنْ استطاع" هي مناسبة تماماً للإنسان حر الإرادة وفي نفس الوقت الضعيف في قدرته على فعل الوصايا، لأن آدم في الخلقة الأولى أخطأ بسبب حسد إبليس ("بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم"

- سفر الحكمة 2: 24؛ وصلاة الصلح في القداس الإلهي)، أما إنسان العهد الجديد فالمسيح غلب إبليس وجنوده "إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِي الصليب" (رسالة كولوسي 2: 15). وهكذا تحقق الوعد الذي وعده الله لآدم ما ذكرناه في أول المقال: "هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ" (سفر التكوين 3: 15). ولكن يبقى الضعف البشري بسبب الجسد البشري الذي نلبسه الذي صرخ بولس الرسول نفسه من ثقله: "مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رومية 7: 24)، لذلك يكمل المسيح هذا المبدأ "من استطاع أن يقبل" بمبدأ تكميلي في مناسبة أخرى: «عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ» (إنجيل مرقس 10: 37). وحكمة المسيح في العهد الجديد هي فتح الباب للإنسان الذي خلقه جديداً لدوام الترقي "مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ" (كورنثوس الثانية 3: 18)، ليصير الإنسان الأصغر بقوة الله أعظماً في ملكوت السموات. وهو يأتي بالفرصة الثانية للإنسان الضعيف، الذي يسمونه في قانون الأحوال الشخصية الجديد: "الطرف المُذنب" والذي يحرمونه من الزواج الثاني، يعطيه المسيح (بخلاف القانون الجديد) الفرصة الثانية لكي يبدأ حياة جديدة لعلَّه ينجح فيها في تخطِِّي ضعفه السابق والترقي من مجد إلى مجد. فمنهج المسيح منهج تربوي ديناميكي فعَّال لنمو الإنسان المسيحي في روحه ليتهيَّأ ليكون مواطناً في ملكوت السموات، وليس منهجاً ساكناً كئيباً يقوم على الخطيئة والعقاب وآخرته الموت والدفن هو وضعفه إلى الأبد. وهذا هو المصير الكئيب لأولادنا وبناتنا والذي يقوم عليه القانون الجديد للأحوال الشخصية.

والآن ماذا سيكون مصير أولادنا وبناتنا والأجيال القادمة لو صدر هذا القانون الكئيب – لا سمح الله بذلك ولا تسمح بذلك يا رب؟ بل وماذا سيكون مصير كنيستنا القبطية كنيسة الكيرياليسون، كنيسة الرحمة الإلهية الساكن فيها المسيح داخل هيكلها المقدس، بينما هذا القانون يبدد ويفرِّق أعضاء جسد المسيح بعيداً عن المسيح (لأنه لا يؤمن بالرحمة بل بالعقوبة) ويدفعهم دَفعاً إلى خارج الكنيسة: إما للأديان الأخرى، أو لحياة الشر والخطية، أو إلى الطوائف الأخرى، أو للزواج المدني الذي يعتبرونه أيضاً زنا؟ نعم لا تسمح يا رب! وخلِّص شعبك، وبارك ميراثك، واحفظهم بيمينك العالية. آمين
(يتبع)