بقلم : سيد القمني
لدينا في كتب الفقه الإسلامي تفاصيل طويلة تجعل من عارفها يعرف كيف كان الرجل يفضل أن يشتري جارية لو كان له مال ، علي أن يتزوج لما في الزواج من أعباء ، و يقول الفخر الرازي بشأن اقتناء الإماء " و لعمري أنهن أقل تبعة ، و أخف مؤنة من المهائر ( أى الحائر المدفوع لهن المهر ) ، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهم أم لم تعزل " .
و بهذه الكتب تفاصيل لنكاح السراري و الإماء في أبواب طوال تحدد الفارق بين نكاح الحرة و نكاح الأمة ، و مكان الحرة القانوني و مكان الأمة و تراتبهما الطبقي و ما يترتب علي ذلك في الواقع من حيث الحق و الواجب ، و أبحاث حول جواز نكاح الإبن لجارية / أَمة أبيه من عدمه ، و حد الزنى العقابي على الحرة الذي يختلف عن عقاب الأمة الزانية ، فالأمة الزانية عقابها التقريع و التخوبف و ربما الضرب و إن كررت فعلها يبيعها صاحبها في السوق و لو بخردلة . أما الحرة فعقابها القتل رجماً للثيب و الجلد للبكر . كذلك هناك بحوث حول ملابس الحرة و ملابس الأمة ، إذ لم يكن الرجل يعتبر أن الأمة ذات شرف فهي أقل من كونها شئ ، لذلك كانت الإماء تتبرجن و تتزينن ، وفي الجاهلية الثانية كانوا يتاجرون بالإماء دعارة مقابل المال في مكة حتى جاء الإسلام و أنكر هذا الفعل و حرمه و جرمه . أما الحرة فلابد لها من ملابس خاصة واضحة تميزها بشكل قاطع بعلامات تقول أنها حرة ، و أن يكون ذلك الملبس بقصد الإعلان ، لذلك كان الرجل العادي في السوق يستطيع أن يميز بين الأمة و بين الحرة ، و أنه ربما حاول التحرش بالأمة ، لكنه أبداً لا يتحرش بالحرة ، لذلك ازداد الإسلام تمييزاً لنسائه الأحرار عن نسائه الإماء بالخمار ، فأمر بقوله : " و ليضربن بخمورهن علي جيوبهن 31 / النور " . و يشرح الشيخ يوسف قرضاوي معنى الآية بقوله : " إن أوامر الإسلام كانت بمخالفة المشركين و المجوس كأوامر للنبي ، و أن القرطبي فسر فقال : إن النساء زمن النبي كن يغطين رؤوسهن بالأخمرة و يسدلنها علي الظهر فيبقى النحر مكشوفاً ، فأمر بإسدال الخمر علي الجيب أي الصدر، و كان غطاء رأس كالرجال ، كجزء من طبيعة البيئة لاتقاء الشمس الحارقة : قل يا أيها النبي لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين / 59 / الأحزاب ، و سبب نزولها أن عادة الأعراب التبرز في الصحراء و ليس داخل البيوت ، فكان بعض الفجار يتعرضن للمؤمنات مظنة أنهن جواري غير عفيفات ، فجأت الآية لتميز لباساً للحرائر المؤمنات ، و كان عمر يضرب الجارية إذا تحجبت محافظةً علي تميز الحرة بزيها ، و في زمننا لا توجد جواري ، و الكنف داخل البيوت ، و انتفي شرط إدناء الجلابيب للتميز بين الحرة و الأمة / حلقة الظاهريون الجدد / قناة الجزيرة " .
مما سبق عرضه نفهم أن ملابس نساء الجاهلية كانت شديدة البساطة ، فهي قطعة قماش تشق من وسطها بفتحة مناسبة تسمح بدخول الرأس ثم تخاط من الجانبين ، فيظل الشق مفتوحاً لعدم معرفتهم بعد بنظام السوستة ، أو الأزرار التي ما كانت تجمع شقاً بحجم الرأس فوق الثديين علي بعضه البعض ، و ما كان لديهم معرفة بشأن الحياكة الأكثر تعقيداً و تخصصاً في بلدان الحضارات و أزيائها ، لذلك يقول القرضاوي : " كانت المرأة في الجاهلية تمر بين الرجال مُسفحة بصدرها لا يواريه شئ / نفس الحلقة" . و كانت الحرة تلبس خماراً علي رأسها و هو من تخمر الرأس أي تغطيتها حماية للشعر من أتربة الصحاري و حرها ومنعاً لإصابته أيضاً بالحشرات لندرة الماء ، لذلك تسمى المشروبات الكحولية خمراً لأنها تخمر العقل أي تغطيه فلا يعود يميز ، و كان للخمار طرفان يلقيان خلف الرأس فيغطيان الفتحة الموجودة بالقفا أعلى الظهر ، فطلبت الآيات منهن جعل طرف من طرفي الخمار يغطي فوق الثديين في الجلباب المفتوح و هي المنطقة التي كان العرب يعرفونها باسم الجيب ، و يغطي الطرف الآخر القفا . و أن يصبح الخمار دالاً علي الحرة المسلمة و مميزاً لها عن الإماء حتى أن عمر بن الخطاب ضرب أمة تداري ثدييها بالخمار فأمرها بخلعه وتعرية ثدييها علي الفور .
لذلك لابد أن تتميز الحرة اليوم ( و هي المسلمة وحدها ) كما كانت تتميز زمن الدعوة ، بضرب الخمر لكنهم يأخذون الخمر كله ، ما علي الجيب و ما علي الرأس و يخترعون له اسماً جديداً هو الحجاب ، و هو شأن لم يفرضه القرآن علي نساء المسلمين و لا أشار إليه و لا شرعه و لا قننه ، و حتى لو كان فرضاً كما يقولون فهو لتغطية الجيب و لم يتحدث عن الرأس ، فالخمر كان علي الرأس كعادة بيئية صحراوية من الأصل .
و العادة قد نأخذ بها أو لا نأخذ بها ، و لا ترقى مطلقاً لدرجة الفرض . لقد اخترع الإسلاميون لمسلمات زمننا شيئاً ليس في دينهم اسمه الحجاب ، فقط من أجل إثبات وجودهم مع الإصرار على طاعة المسلمين لأوامرهم بحسبانهم ممثلي الله قي الأرض ، لتأكيد السيادة و السيطرة على المجتمع ، ومن أجل تمييز المسلمة و فرزها عن غير المسلمة حتى ( يعرفن فلا يؤذين ) . و المعني أنه يتم التسليم بأن غير المتحجبة هي العرضة للأذى دون وضع قانون يمنع عنها هذا الأذى فهي غير حرة . لذلك وحسب الخبرة المصرية اليوم فإن غير المحجبة في شوارع قاهرة القرن الحادي و العشرين هي الأكثر تعرضاً للأذى من مسلمي الوطن الملتزمين بالتدين.
و قد إخترعوا الحجاب تأسيساً على حديث النبي " خالفوهم ما استطعتم " فإذا تميزوا هم بإطلاق الشعور نخالفهم بالحجاب ، و إذا إلتزموا هم بالتقدم تميزنا نحن بالتخلف ، و إذا تميزوا هم بالعلم تميزنا نحن بالجهل ، و إذا تميزوا بالقوة تميزنا بالضعف ، وإذا تميزوا باللطف والوداعة تميزنا بالصرامة والجهامة ، و إذا تميزوا بالجمال تميزنا بالقبح ، ولله في خلقة شئون .
كان الحجاب شأناً خاصاً بنساء النبي و هو غير الخمار الذي يغطي الثديين ، و تحجيب المرأة بالمعنى و الصورة التي نراها متفشية اليوم، هو احد أساليب عزلها عن الرجال ، في مجتمع أصبح فيه مستحيلاً الفصل بين الرجال و الناس و رغم ذلك فإن بعضهم يصر على تفعيل هذا الفصل ، و يجدون من يستمع لهذا القرار المشيخي و ينفذه ، كالحال في قاعات الدراسة الجامعية و كثير من وظائف القطاعين العام و الخاص .
نستمع هنا إلي مرجعية الإخوان المسلمين و كل التيارات الإسلامية حتى الإرهابية منها ، الدكتور يوسف قرضاوي ، و ما قال بهذا الشأن .. يقول قرضاوي : " فكانت النساء يحضرن دروس العلم مع الرجال عند النبي ، و يسألن عن أمور دينهن ، مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم ، حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار ، أنهن لم يمنعهن الحياء من ان يتفقهن في الدين ، فطالما سألن عن الجنابة و الاحتلام و الاغتسال و الحيض و الاستحاضة و نحوها ، و لم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال / مكتبة وهبة / القاهرة / 2001 ص 370 " .
إن قرضاوي لا يجد باساً في الاختلاط بين الذكر و الأنثى ، لكن فقط مع الشيخ ، الذي هو وارث الفُتيا ، و الحال محل الرسول لتفقيه المسلمين في شئون دينهم ، لذلك يشجع قرضاوي المسلمات علي سؤال المشايخ دون حياء في الجنابة و الاحتلام و الاغتسال و الحيض و الاستحاضة ، لكنه يمنع الاختلاط البرئ بين أبناء الجامعة الواحدة و الصف الواحد و تحدثهم في جدول مندليف أو نسبية آينشتين وليس في الاحتلام والاستحاضة ، دون أن يعمم ذلك المنع على الاختلاط الذي كان حادثاً زمن النبي ، و الذي كان حالة عامة و ليس حالة خاصة تسأل فيها نساؤنا المشايخ عن الاستمناء و الاستحلام ، عن شئون الفرج و النكاح فقط .
لم يكن إختلاطاً فقط بل اختلاط لمتبرجات مع رجال غرباء ، كانت سبيعة بنت حارث الأسلمية زوجة لسعد بن خوله العامري ، و كان ممن شهد موقعة بدر و غفر الله له ولأصحابه من أهل بدر ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر ، و توفى عنها زوجها في حجة الوداع ، فما أن طهرت من نفاسها حتى بادرت بالتبرج و التجمل و التزين و خرجت تمشي بين الرجال طلباً للزواج ، فتقدم لها أبو السنابل بن يعك ، و كهل ، وشاب ، فاختارت الشاب / رواه البخاري و مسلم .
و كانت النساء محل تطلع من الرجال لمعرفة جمالهن وكان جمال نساء القبيلة محل تفاخر بين قبائل العرب ، " من رواية عن يحي بن عبد الله بن الحارث قال : لما دخل رسول الله ( ص ) مكة يوم الفتح ، قال سعد بن عبادة : ما رأينا من نساء قريش ما يذكر عنهن من جمال ؟! فقال النبي ( ص ) : هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة ؟ هل رأيت تربة ؟ هل رأيت هندا ؟ إنك رأيتهن و قد أُصبن بآبائهن " . أي أنك رأيتهن و هن غير متجملات و لا متبرجات حيث كن في حال حداد على آبائهن الذين قتلهم جيش النبي . لذلك لم ترهن في وضع يبرز مواطن جمال بنات قريش . مع الملاحظة أن هندا إحدى اللائي ضرب بهن النبي المثل لجمال القرشيات ، هي هند بنت أمية زوج النبي نفسه و المعروفة بأم سلمة .
كان التبرج لإظهار الجمال ليس هو المفهوم من تبرج الجاهلية الأولى المنصوح بعدم لجوء المرأة المؤمنة إليه ، كان التبرج المسموح ، كن يضعن الحمرة بسحق الأحجار الحمراء و عملها كمسحوق يشبه بودرة تجميل اليوم ، و قد جملت أم السيدة عائشة بنتها بهذه الحمرة ليلة دخل بها الرسول .
المسألة كانت تغطية الثديين ليس إلا ، لكن أن تلبس المرأة اللافت للنظر و المبرز للجمال فلم يكن شيئاً محرماً ، لأن هذه هي طبيعة المرأة التي فطرها الله عليها ، و لن تر لخلقة الله تبديلاً . كانت الأقراط الكبيرة و الطويلة المطعمة من إكسسوارات التجميل اللافتة للنظر من زينة الصحابيات ، و هو ما يأتينا ذكره في خبر أم هانئ بنت عم النبي التي تبرجت بمثل هذا القرط و قامت تسير بين الرجال مستعرضة جمالها ، فتحركت غيرة عمر فقال لها : " إن محمدا لا يغني عنك شيئا " . فغضب النبي ليس لتبرج أم هانئ مطلقاً ، و لا حتى أشار حتى إليه ، كل ما أغضبه أن يقول عمر أن شفاعة محمد لا تلحق أهل بيته . " رواه الطبراني " .
مرة أخرى نؤكد أنه لم يكن زمن النبي شيئ اسمه الحجاب كما هو مقرر اليوم ، و لم يكن هناك فصل بين الرجال و النساء ، و حديث ما اجتمع رجل و امرأة إلا و كان الشيطان ثالثهما لا يلتقي بالمرة مع واقع المجتمع في الزمن النبوي ، مما يشير إلي تهافته ، و إنه من الموضوعات بعد ذلك بزمان طويل ، أما واقع زمان الدعوة يحكيه لنا الجاحظ فيقول : " فلم يزل الرجال يتحدثون إلي النساء في الجاهلية و الإسلام ، حتى ضرب الحجاب علي نساء النبي خاصة ، ثم كانت الشرائف ( أي الشريفات بمعنى طبقي ) من النساء يقعدن للرجال للحديث ، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية و لا حراماً في الإسلام " .
و عن خوات بن جبير قال : " خرجت مع النبي في غزوة فخرجت من خبائي فإذا بنسوة حولي ، فلبست حله ثم انتهيت فجعلت أتحدث معهن ، فجاء النبي ( ص) فقال : يا جبير ما يجلسك هنا ؟ قلت : يا رسول الله بعيري قد شرد ، فكان رسول الله ( ص) يمازحه كلما التقاه : ما فعل بعيرك يا خوات ؟!" .
و مثل أم هانئ من بين الشرائف ( أي الشريفات أي من عليه المجتمع ) كانت الصحابية عائشة بنت طلحة ، التي دافعت عن حقوقها ، ورفضت أن يفرض عليها أحد أمراً لم يفرضه القرآن ، و من ذلك رفضها أي لون من الحجب و التحجب ، و كانت شئونها الجنسية تحكي وتذاع علي الملأ في نوادر و طرائف يسمر عليها المسلمون في سهرهم المتواد و المتراحم ، دون أن تشعر بنت طلحة بأي تحرج بل كانت تفخر به . فقد كان لديها يوماً صحابية تزورها ، و إذ بزوج عائشة يدخل متعجلاً فتنهض إليه عائشة و تدخل معه داخلا، وتسمع الضيفة أصوات المتعة الجنسية لعائشة بنت طلحة ، حتى خرجت إليها ترفض عرقاً ، فسألتها الضيفة مستنكرة : أو تفعل الحرة ذلك ؟ فردت عليها : " إن الخيل العتاق تشرب بالصفير " ، فشبهت نفسها بالخيول الأصيلة التى تصدر مثل هذه الأصوات صفيراً في مثل هذا الموقف ، كانت عائشة تعلن فخرها بمتعتها ، دونما أن ينزعج أحد من الصحابة . و من حكايات بنت طلحة المشهورة أنها مرة كانت تحت زوجها في السرير فنخرت نخرة تفرقت منها مائة من أبل الصدقة هلعاً و لم تجتمع منذها حتي اليوم . و عندما أراد زوجها أبو مصعب عتابها علي تبرجها الشديد قالت له : " أن الله سبحانه و تعالى وسمني بمسيم الجمال فأحببت أن يراه الناس ، فيعرفوا فضلي عليهم ، فما كنت لأستره / الأغاني ج 9 38 " .
أن زمن النبي ليس بالصورة التي يفهمها المسلمون البسطاء مأخوذة من فيلم ظهور الإسلام و فجر الإسلام و الشيماء ، و يدعمها مشايخنا في وعظهم و فتاواهم ، و هم من أشرف على وضع اللمسات النهائية لصورة المجتمع الإسلامي الأول في تلك الأفلام . لم يكن مجتمع زمن الدعوة كما يقدمونه للمسلمين جيلاً من الملائكة ، بل كان مجتمعاً طبيعياً يعيش فيه الصحابة كما يعيش البشر ، و يعرف ان للمرأة أن تتجمل فقد خلقت بذلك غريزياً ، و لم يكن امراً ممجوجاً ولا محرماً . كذلك لم يمنع او يحرم لقاء الرجال بالنساء ، بل هو لم يحرم الغزل بينهما لأنه الرسالة الأولى للتواصل الإنساني بينهما ، يروي البخاري عن عبد الله بن عباس أن أخية الفضل كان رديف رسول الله ( ص) فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها و تنظر إليه ، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر . و لنلاحظ أن هذا الغزل بين صحابي و صحابية كان في حضرة سيد الخلق الذي أينما كان حاضراً كانت السماء حاضرة ، و في أقدس الأماكن و أقدس الأزمان ، في حجة الوداع .
ولم ينزعج رسول الله ( ص) ، ولم ينهرهما ، بل كان فقط يصرف وجه ابن عمه الفضل بأنامله الشريفة ليناً و لطفاً و تقديراً منه لفطرة الله التي خلقنا عليها ، ولم يصرف وجه الخثعمية عن التملي من الفضل . وإما لم تكن هذه الخثعمية لا مخمرة ولا منقبة ولا محجبة حتى بدت مفاتنها للشاب ، أو كانت مخمرة و محجبة و مع ذلك فإن الخمار لم يستطع أن يمنع نداء الطبيعة و لم يردع الفضل عن الغزل في حضور رسول السماء و الزمن القدسي كله .
و لم يمنع الحجاب ( إن كان قد حدث و هو غير صحيح ) المرأة من التطلع و المغازلة ، فإن لها عيون ترى وآذان تسمع ، و في زمن الخليفة عمر اشتهر نصر بن الحجاج السلمي بجماله الأخاذ حتى فتن نساء المدينة ، و أصبح مثل كازانوفا تطلبه النساء و يقلن فيه الشعر الماجن ، الذي نختصره هنا في معناه لشدة مجونه ، فهذه صحابية تدعو ربها أن يصلها بنصر بن الحجاج ليطفئ نارها وشوقها ولوعتها ، و أخرى تنادي : من لي بابن الحجاج ولو ليلة واحدة ، و هو ما أضطر الخليفة عمر رأفة بالأزواج من الصحابة إلي إبعاد نصر إلي بلاد الشام .
يقولون اليوم أن اختراعهم المسمى الحجاب هو عفة وطهارة، و حتى تعرف المسلمة فلا تؤذى ، أى يحميها من التحرش أو ربما الاغتصاب ، هذا رغم أن كل الميزات التي ميزت بها حرائر الزمن النبوي أنفسهن بإدناء الجلاليب و تخمير الثدي إضافة لعادة تخمير الرأس ، فإن ذلك لم يمنع تعرضهن ليس فقط للإيذاء ، بل للاغتصاب . عن أسباط بن نصر عن سماك بن وائل عن أبيه ، زعم أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح و هي تعمد إلى المسجد ، فاستغاثت برجل مر عليها و فر صاحبها ( أي الذى وفع عليها ) فأدركوا الذي استغاثت به . و هو يقول لها : أنا الذي أغثتك ....إلخ / أورده البهيقي في السنن الصغرى . و في خلافة عمر " حدثنا الحسين بن عبد الملك بن مسيرة عن النزال بن سيده قال : بينما نحن بمنى مع عمر رضي الله عنه إذ امرأة ضخمة على حمار تبكي كاد الناس يقتلونها من الزحمة عليها و هم يقولون لها : زنيت .. زنيت ، فلما انتهوا إلي عمر قال ما شأنك ؟ فقالت كنت امرأة ثقيلة الرأس و كان الله يرزقني من صلاة الليل ، فصليت ثم نمت ، و الله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني ثم نظرت إليه معقباً ما أدري من هو من خلق الله .( كتاب الخراج أبو يوسف 165 المطبعة السلفية / مصر ) .
بل و كان في الزمن النبوي من الصحابيات من هي متزوجة لكنها عاشقة رجال " عن عكرمة عن بن عباس قال : جاء رجل إلى النبي ( ص) فقال : أن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : غربها ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ( أي أنه يحبها بشدة ) ، فقال له النبي ( ص) : فاستمتع بها " .
المشكلة في مثل هذه الشهادات التي نقدمها هنا لنعلم هل كان هناك حجاب ؟ و هل منع الحجاب نداء الطبيعة ؟ زمن وجود النبي بنفسه بين المسلمين و في حضرة أبواب السماء المفتوحة و في أقدس الأماكن ؟
المشكلة ان مسلم اليوم لا تقبل نفسه و روحه و ربما عقله بمثل هذه الشهادات لأن وعاظنا صوروا له الزمن النبوي كما لو كان زمناً ملائكياً روحياً لا مجال فيه للخطأ ، كي يلقوا فيه بكل جديدهم اليوم و يستمدوا منه ما يدعم مخترعاتهم اليوم كالحجاب ليلبس قدسية ذلك الزمان ، لأنهم لا يتلقون وحياً لكنهم يريدون لكلامهم القدسية و هم يستمدونه من زمن الدعوة ، لذلك جرى تقديس ذلك الزمن ليعطي فتاوي مشايخنا و قولهم قدسية الوحي ولا يعرجوا أبداً لمثل هذه الأحداث بل و يخفونها عن المسلمين عمداً و قصداً و رغبة منهم عن سبق إصرار و ترصد ، كي يصنعوا المسلم الذي يريدون : الممتثل المطيع الذي لا يعرف سوى قول آمين .
و ربما يأتي مسلم اليوم و هو يقرأ هذه الشهادات ليلقي بنفوره على كاتب هذه الدراسة هنا و ليس على من دون الحدث و لا على من صنع الحدث و لا على المجتمع الذي حدث فيه الحدث ، لأن مشايخنا يصوغون له إسلاماً غير ما كان في زمن النبوة الشريفة ، حتى يلتقي مع ما يريدون الوصول إليه ، و هو الإمساك بدماغ المجتمع كله و إجباره علي الطاعة و التسليم بفروض لم تكن موجودة كالحجاب ، و هو ما يعني أنهم جعلوا المسلمين أكثر طاعة لهم من الطاعة لدينهم و لزمنه القدسي ، حتى فرضوا على أنفسهم بأوامر مشايخ اخر الزمان ما لم يفرضه الزمن القدسي .
و بإيعاز مستمر من فقهاء زماننا ، تصور المسلمون أن ما يسمى بالحجاب فريضة إسلامية من الفرائض العظمى ، حتى أنهم يخرجون في المظاهرات الصاخبة للاحتجاج على أى حديث معلن لا يقول بأن الحجاب فريضة ، كما لو أن هؤلاء المتظاهرين جميعا قد درسوا الأمر و عاينوه في مصادره الإسلامية المعاينة النافية للجهالة ، واقتنعوا بأن الحجاب فرض ، فقاموا يرجمون من قال بغير ذلك . المسلم لا يعلم من شئون دينه ما يجعله يفرز الأحاديث الضعاف من الصحاح المسندات من الآحاد ، و يسلم فوراً بالحديث المنسوب لنبينا أنه قال لأسماء بنت أبي بكر : إذا بلغت المرأة المحيض لا يظهر منها إلا هذا و هذا ، و أشار إلى كفيه و وجهه . بينما لا تجد في القرآن ولا في تاريخ الراشدين الذين عملوا بسنة رسول الله و بالقرآن و شريعته ، ولا في واقعهم العلمي ، ما يشير إلى هذا المعنى الفاصل القاطع ، و لم يكن معروفاً لديهم ولا معمولاً به عند السلف ، بل ستجد ما هو عكس هذا الفرض الوهمي الذي يقصد إقصاء المرأة و ترصدها .
بل و يبالغ المسلمون اليوم في عزل المرأة عن المجتمع ، فقاموا يخترعون إضافة إلى اختراع ( الحجاب ) اختراعاً آخر يزري بمخترعه هو(النقاب).
الذي يغطي كل الوجه ولا يترك سوى العينين ، أو ثقباً واحداً لعين واحدة ، و هو النقاب الذي كانت ترتديه المعلمة المسلمة الفرنسية وصاحبة القضية المشهورة التي رفعتها كي تدخل علي تلاميذها الصغار بنقاب له عين واحدة ، مما قد يرعب هؤلاء الأطفال. ثم هناك نقاب لا يسمح حتى بثقوب ولا للعين الواحدة، وهو ما أوجز الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور بشأنه ، فاعتبره نوعاً من الاستعلاء علي المسلمين ، و أنه إعلان تميز ، بل هو استعلاء على شرع الله و مزايدة علي الله نفسه ، و ان النقاب إذ يعطي المرأة فرصة التطلع إلي الآخرين و فرزهم واقتحامهم بعيونها ، فإنها بنقابها تمنع عنهم ذات الحق .
و هو ذات الحق الذي تم إعطاؤه للمصليات في المسجد خلف الرجال ، لهذا رفض الشيخ يوسف قرضاوي إمامة المرأة للصلاة بقوله معللاً : " لأن الرجل المصلي قد يسرح فكره .. ما أجمل قوامها .. ما أجمل جسدها .. فالإسلام دين واقعي ينظر للإنسان كإنسان تحركه غرائزه ، لذلك منع الإسلام أن تؤم المرأة الرجال ، فهي ستسجد امام الرجل بجسمها / حلقة الأهلية السياسية للمرأة / الجزيرة " .
و يستطرد الشيخ شارحاً " في مسجد النبي كان النساء خلف الرجال و لم يكن بينهم أي حاجز ، ( اليوم يقيمون الحواجز في المساجد مزايدة علي النبي ) .. و كان معروفاً أن العرب يلبسون إزاراً و رداء و كثير منهم لا يلبس السراويل ، و لذلك قال النبي للنساء : لا تعجلن برفع رؤوسكن / نفس الحلقة " .
و الإزار أو الرداء هو قطعة قماش تلف علي الوسط الأسفل للرجل ، و كانوا لا يلبسون السراويل ، و هو ما يعني بروز الأعضاء التناسلية للخلف عند السجود مما يسمح للنساء بالتطلع إليها ، لذلك أمرهن النبي ألا يعجلن برفع رؤوسهن ، و ينتظرن الرجال حتى يقومون من السجدة فيقمن بعدهم . " قال الواقدي عن ثعلبة بن أبي مالك قال : تزوج رسول الله ( ص ) امرأة من بني عامر ، فكان إذا خرج اطلعت علي أهل المسجد ، فأخبرته زوجاته بذلك ، فقال : إنكن تبغين عليها ، فقلن : نُريكها و هي تتطلع ، فلما رآها فارقها ، قال الكلبي : كانت عند رسول الله العالية بنت ظبيان بن عمر بن عوف بن كلاب ، فمكثت عنده ما شاء الله ثم فارقها بسبب التطلع " .
المقصود أنه أياً كان الوضع ، حجاباً أم خماراً أم نقاباً ، أو أن يكون أمام أو خلف في الصلاة التي هي وقت القداسة ، أو في المسجد الذي هو قدس أقداس الإسلام ، أو في حضور النبي بشخصه و كرامته ، و مع كل الحرص علي عدم التطلع فقد حدث التطلع و من زوجة سيد المرسلين نفسه ، و لم يعاقبها بشئ عظيم ، فقط فارقها ، لأنه يعلم أنه مع كل الحرص فإن نداء الطبيعة عند البعض أكثر استصراخاً ، و أنه شأن غريزي لا يمكن اقتلاعه .
و قد أعفانا الشيخ قرضاوي من مهمة مدى وجوب بقية الزي العربي للمرأة اليوم ، و شرح الشيخ أن المؤمنات كن يذهبن إلى التبرز في الصحراء لأنهم لم يعرفوا الكنف / دورات المياه . و كان يتبع النساء الشباب الذي لا يجد نساء لعله يصيب من إحداهن وطره ، لذلك تم نصح المسلمات بإطالة الجلباب حتى إذا ذهبت تتبرز تفرشه حولها دون الحاجة إلى رفعه فلا يظهر منها شئ حتى تقضي حاجتها ، و بعضهن كن يتسرولن ، لذلك كان النبي ( ص ) يقول : " اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي / الشيخ خليل عبد الكريم /الشدو 399 / 400 " .
و أفاد الشيخ قرضاوي في تفسيره أن تلك ملابس كانت تناسب زمانها لا زماننا حيث لم يعد عندنا جواري ، و أصبحت الكنف داخل البيوت ، فانتفى شرط إدناء الجلاليب للتميز بين الحرة والأمة ، كذلك أكد على الظرفية البيئية للخمار و هي غير موجودة اليوم
لمسلمون يتمسكون بفضائل انقضى زمنها و لم تعد ذات معنى حتى أنها أصبحت تضر و لا تنفع ، و يلّبس عليهم مشايخهم تلك الفضائل كما في القول بفرض جديد هو الحجاب ، الذى اخترعوه اختراعاً بعد المزج بين نصين قرآنين ، واحد يتكلم عن تخمير الصدر ويخص كل المسلمات ، و آخر يتكلم فقط عن زوجات النبي وحدهن فيخصهن بساتر يحجبهن إذا تحدثوا مع الصحابة لأنهن لسن كغيرهن من النساء . و يصرون علي اختراعهم و هذا و يعلونه كفضيلة تصل إلى درجة الفرض .
هذا علما أن الخمار نفسه كان فيه شئ من المغالاة ، لأن الثديين في جزيرة العرب لم يكونا محل اشتهاء ، بقدر ما كانا شيئاً وظيفياً مهمته الإرضاع ، بدليل حديث السيدة عائشة الذي تمسكت به حول رضاع الكبير عشراً ، و كانت تطلب من قريباتها إرضاع من أراد استفتائها في شأن دينه من الرجال . لكننا نسلم بالخمار كتوجيه سماوي لا يمكن الاعتراض عليه .
و لتتميز المسلمة عن غير المسلمة نسمع أن الحجاب هو مقابل العري و التهتك في بلاد الغرب لتمييز المسلمة عن غير المسلمة ، لذلك تم الربط بين عدم التحجب إن أرادته مسلمة وبين العرى و التهتك ، لذلك كان شعار ( الحجاب عفة و طهارة ). لكن ما يرد هذا المعنى و يبطله بالمرة هو أن العري الكامل و التام زمن الصحابة الراشدين لم يكن يستدعي أية عقوبة ، وهو ما توضحه حادثة المغيرة بن شعبة مع أم جميل ، و التي شهدها أربعة عدول من الصحابة شهادة واضحة ، وأن كلاهما كان عرياناً كما ولدته أمه ، وقد شهد ثلاثة منهم أمام الخليفة عمر أنهم رأوا الفعل كاملاً بفخذي أم جميل مرفوعين كأذني حمار وأن المغيرة كان يستبطنها ( أي بطنه فوق بطنها ) ، و أن خصيتيه كانتا تتأرجحان جيئة و ذهاباً بين فخذي أم جميل ، بما لازم ذلك من شهق و زفر ، و رفع و خفض ، بل أنهم رأوه يدخل عضوه فيها و يخرجه كما الميل في المكحلة . لكن الشهادة لم تكتمل لأن الشاهد الرابع زياد بن أبيه أقر بكل تلك التفاصيل لكنه لم يتمكن من رؤية عملية الإدخال و الإخراج كالميل في المكحلة ، فحكم الخليفة عمر ببطلان الدعوى و أقام حد القذف على الشهود الثلاثة ، بينما لم يتم استدعاء أم جميل بالمرة كطرف في الجريمة ، و لم تتم عقوبة المغيرة و لا أم جميل بسبب عريهما ووجودهما على سرير واحد فى خلوة بيت مغلق عليهما مع شهق و زفر و رفع و خفض و ساقين كأذني حمار و خصيتين تتأرجحان لكن دون دخول الميل إلي المكحلة . و لا نفهم هنا سر انزعاج مشايخنا من ملابس نساء الغرب حتى دمغوهن بالعري و الفساد و التهتك دون أن يتيقنوا من دخول الميل في المكحلة هناك ، أليس دمغهم بالعري هو ضرب من قذف المحصنات يستحق الحد الذي أقامه عمر على الشهود الثلاثة بالجلد ؟ .
و إذا كان التزين ( التبرج ) أو العري عندهم مصيبة أخلاقية تستحق العقوبة ،فماذا عن كل تلك الأحداث الجسام زمن الدعوة ؟ و إذا كان العري محرماً فهل كان يجرؤ الخليفة عمر بن الخطاب على كشف ملابس أم كلثوم بنت الإمام على ابن عم النبي و بنت فاطمة بنت النبي و شقيقة الحسن و الحسين ليرى مدى حسن ساقيها عندما أراد خطبتها ؟ و لشدة ما اعجبته أمهرها أربعين ألف درهم ( المغني لابن قدامه مج 8 ص 63 ) في الوقت الذي كان الخليفة نفسه يشجب ظاهرة المغالاة في المهور ، و لم يكن عمر قد تزوجها بعد عندما وضع يده على ساقيها إنما هو كان بعد يخطبها ، فلا عقد قد تم عقدة، و لا شاهدان ، ولا إشهار ، فقد أرسلها الإمام علي إليه ليراها الخليفة عن كثب و هو يخطبهما ( رواه أيضاً بن عساكر عن عمر و كذلك الطبراني ) ، فهل يجوز أن نطرح السؤال الذي طرحه الشيخ خليل عبد الكريم رحمة الله ونور له قبرة في هذا الموضوع : " هل يجوز للخاطب اليوم حسب الشرع الذي حمله محمد إلي الناس أن يكشف ساقي مخطوبته و يعاينهما ؟ و هل يمكن لأى خاطب أن يقتدي بعمر في ذلك باعتباره من النجوم الذين إذا اقتدى بهم المسلم اهتدى ؟ / كتابه مجتمع يثرب ص 60 : 64 "
و عندما تتجول اليوم داخل جامعة القاهرة ، أو داخل المترو اليوم ستجد أكثر الإعلانات وضوحاً و تكراراً و هو أن الحجاب عفة و طهارة ، و هو إعلان بغض النظر عن عمدة لإهانة غير المحجبات و اتهامهن بعدم العفة و الطهارة ، فإنه إعلان يؤذي الإسلام نفسه في أمهات المؤمنين ، لأنهن وحدهن من ضرب عليهن الحجاب دون نساء العالمين وهن بنص الآيات لسن كغيرهن من النساء، فهل كان ضرب الحجاب عليهن لأنهن كن غير عفيفات و لا طاهرات و هن سيدات الدنيا و الآخرة ؟ إنهم وهم بسبيل حجب العقل في بلادنا لا يتورعون عن التمادي بعد اختراع ما يسمى بالحجاب ، إلى إهانة أمهات المؤمنين بشعارهم الإعلاني الذي هو بكل المقاييس خطيئة حقيقية من العيار الثقيل . و لا حل معها سوى الاعتراف أن الحجاب لم يقصد به حماية الأخلاق و لا طلب الفضيلة ، فلا يعقل أن تكون نساء النبي أمهات المؤمنين غير فاضلات حتى يجبرهن النص القرآني على التزام الفضيلة بالحجاب ، و هن الفاضلات القانتات العابدات المؤمنات أمهات كل المسلمين بما في الأمومة من كل معانى الطهارة و السمو