صلاح فضل | الثلاثاء ٢١ ابريل ٢٠١٥ -
٠٤:
٠٩ م +02:00 EET
صلاح فضل
صلاح فضل
بين «الماس والنساء» تتهادى الروائية الدمشقية ليناهويان الحسن بخطى حريرية فى روايتها الجديدة التى خطفت موقعها المستحق فى القائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام،
حيث حبست الكاتبة نفسها فى ردهات المكتبة العامة لتبعث أضابير الجدود المهاجرين من رقدتها، وتعيد مسرحتها فى
القارات الثلاث عبر شوارع دمشق وبيروت وباريس وساوباولو وبيونس أيرس، وهى تجوس خلال ثلاثة أجيال دفعة واحدة، دون أن يخيفها انفراط عقد الأمكنة أو تباعد الأزمنة، أو انهمار عشرات الأسماء فى صفحات متتالية تكاد تصيب القارئ بدوار البحر، لولا ذلك السلك الذهبى الرفيع الذى يعبق بعطر السرد وينظم حباته فلا تفلت من بين أصابعها الرشيقة، وهى تلم شتاته بحنو بالغ ونفس أنثوى طويل وحميم. وهل هناك ما يخطف الأبصار أكثر من حبات الماس وقصص العشق ونماذج النساء الجبارة وهى تعاند أقدارها لتحقق بعثها الطموح فى مطلع القرن الماضى، كى تنتزع مكانها فى حياة الرجل بالتوازى معه، ولو عبر ابتسامة مفعمة بالدلالات يرصدها الراوى العليم بحنكة مدربة وهو يحكى «أعجوبة بدت تلك الماسة الزرقاء الشاحبة التى زينت عنق ألماظ الأسمر، قليلون هم أولئك الذين كانوا يعرفون أن لون بشرة الخانم الدمشقية الصغيرة قد ورثته من جدتها الهندوسية، رغم أن الكونت لم يكن قد رأى فيها امرأة جميلة، لكنها بدت له كائناً غريباً، خلال سلام مسائى حلقت فيه عيناها مأخوذة بصخرة شاهقة كانت تحاذى الباخرة الروسية «أورنوف»، اتسعت عيناها السوداوان فيما تذكر بها بروفيل اللوحات الجدارية لمعابد البطالمة فى مصر المضاءة بالتألق البارد للألماس» يتميز منظور الراوى بالجمع بين عين الكونت، وهو ذئب عجوز يصحب عروسه ذات الخمسة عشر ربيعاً إلى العالم البكر فى القارة الأمريكية الجديدة، ومنظور المرأة القادرة على اختراع كم هائل من الابتسامات العجيبة التى تتراءى خلال الضحك أو التقبيل أو التلمظ أو التأوه، بما يفتح صندوق الأسرار النسائية الحميمة.
لكن ما يعطى لهذه الرواية قيمتها الإبداعية العالية فى الاستبطان والتوثيق هو ولع الكاتبة بتجسيد روح الأمكنة وجمالياتها، وعبق الأزمنة وخصوصيتها فى السياق التاريخى الذى تصنعه بمتغيراته وأنماطه وما ينبت خلالها من ألوان وأفكار، نكاد نرى حفيفها وهى تتفتح وتنتشر، ولنأخذ مشهدين متباعدين لنرى كيف تستطيع لينا وهى تقص حكاية نسائها ورجالها أن تفاجئنا بما هو أبعد وأعمق وأشهى فى السرد، تقول مثلاً عن مدينة النور «مرور سنتين على وجود ألمظ فى باريس لم يكن يعنى لها إلا سنتين من الضجر والكبت، ليلاً تغلق أرقها بسدادة شمبانيا، وصباحاً يقدم لها قهوتها عاملون صامتون ويشكرونها على البقشيش، واظبت على ارتياد مقهى (فلور) ذى المقاعد المغطاة بالمخمل الأحمر من دون أن تعرف أو تكترث إلى أنه من أقدم مقاهى «سان جرمان» وأنه ظهر عند بداية الجمهورية الثالثة فى العام 1885م، وأن ثمة نصباً منحوتاً لآلهة الزهر تدين باسمها لهذا المقهى فى ركن الشارع المجاور الذى يقابله تمثال الفيلسوف (ديدرو)، وسيشهد ميلاد السيريالية وموضة الوجودية، بدت على ألمظ طباع الباريسيات فى ذلك الوقت الذى أخذت تظهر فيه علامات التغيير العميق على دواخل النساء وأخذ ينعكس على مظهرهن الخارجى، وأخذ الأدباء بوصفهن بالتقلب والغموض، حيث كانت المرأة على شفا عصر أنثوى جديد بدت ملامحه من خلال تسريحة مخروطية مرتفعة مع عقدة من الجدائل أدخلتها إلى الموضة راقصات الباليه الروسيات».
هنا تبدو حساسية المرأة الفائقة فى التقاط روح العصر كما تتجلى فى قصائد الشعر وقصات الشعر، وعلى الرغم من أن الراوى مثل الملائكة لا يفصح عن جنسه، فهو لاشك يتلبس بروح الكاتبة، وتلعب الرواية دورها الخطير لا فى توثيق الأحداث السياسية والحروب، بل فى رسم التضاريس المائزة للتطور الحضارى للشعوب، وإذا كانت السينما التاريخية تستثمر بقوة هذه الخواص لإحكام التمثيل الجمالى للحياة فإن ميزة الرواية أنها تنفذ خلال المادى والمعنوى فى لمسة واحدة تعجز عنها الكاميرا البصرية، فأهمية الكلمة أنها تقوى على التجسيد الرمزى للأشكال والصور من خلال العبارات الموحية، ولعل هذا يتضح بشكل جلى عندما ننتقل مع ألماظ ذاتها إلى ساوباولو فى البرازيل، حيث تشارك صديقتها الجديدة لوليا فى محل أقمشة، وتتولى هذه الأخيرة كتابة الإعلان عنه بأفكار الطريقة قائلة: «إذا قامت البولشفية بمبادئها، والفوضوية بتعليماتها، وتحركت الثورات الفكرية، وهاج فى الأمة العصيان والتمرد، فاعلم أن الناس يطالبون بحقوق مهضومة، فإذا ذهبت إلى التسوق وتريد أن تحفظ مالك فى جيبك فإلى محلات دينالوليا المعروفة بإنصافها للشارى من اعتداء البائع، ونحافظ على المهاودة التامة مع جودة الصنف وحسن المعاملة»، وعندما اجتمعت جهود ليوليا وألماظ بتمويل خاص من الخواجة أنطون عميد الجالية السورية، ليتم جلب حمولة من أقمشة دمشق النفيسة لمست النساء أقمشة مختلفة تحمل غموض الشرق: البروكار، الألاجا، الداماسكو، وفغرن أفواههن وهن يسمعن أسماء تلك النقشات المنسوجة على الحرير، العاشق والمعشوق، السبع ملوك، السبع بحور، الخشاش، ما يعنينا من كل هذا ليست الإعلانات ولا لغتها المتراوحة بين الفصحى والعامة، ولا استدعاؤها للتيارات الأيديولوجية فى فترة ما بين الحربين دون ضرورة، ولا الأقمشة وأنواعها - على أهمية الجهد التوثيقى الواضح - بل ما يفضى إليه كل ذلك من تصوير لدواخل النساء والرجال وحركة المجتمعات ورنين الأحداث فى وجدان البشر وتسرب نسغها فى أعماقهم ليصبغهم بلون العصر يقود حركتهم على إيقاعه، مما يمدنا بالوعى العميق بطبيعة التطور الحضارى للإنسان المعاصر.
تماهى البشر والحجر:
تتوالد النماذج البشرية فى سرد كاتبتنا بتلقائية مذهلة وتعادل عجيب، كأنها حاوٍ يخرج من جرابه الأشكال والألوان المتجددة باستمرار، ويلعب تكرار الأدوار والمظهر بإيقاع منتظم دوره فى تأكيد بطولة إحدى الشخصيات أو اختفائها مؤقتاً من مسرح الأحداث ليظهر الجيل التالى لها، حاملاً خواصها فى لون من التطريز والتعشيق الذى تتميز به المرأة الشامية المتماهية مع معمارها وأحجارها الكريمة ونفائسها الغالية، فهى مثل الماس الذى يحافظ على خواصه، ويتكون عبر «اعتباطية الزلازل واستبدادية البراكين ومقاومة الامتثال والخضوع، احتجاج الأعماق الغاضب العنيد والمصر والموجع هو الذى يحدث هذا البريق الاستثنائى»، ولا يلبث أن يرتفع صوت إحدى الشخصيات المسكونة بالوعى الاشتراكى المضاد للطبقية ليقول رداً على الفقرة السابقة: «يظن البشر أن الطبيعة تشبههم.. فثمة أحجار كريمة وأخرى لا تقدر بثمن مقابل أحجار مجانية متاحة للجميع، إسقاطات بشرية سخيفة، نوهم أنفسنا بأن العالم يزخر مروءة، الصقر طائر نبيل والنسر كائن سام، ثمة طبقية ألصقناها بالعالم عمداً، فيرد عليه رفيقه: «نحن نمنح السمو لتلك الأشياء التى لا تمنحنا نفسها بسهولة، لهذا نصرّ على ضرب الأرض بمعاولنا لاكتشاف صخرة مزهوة برقائق الذهب لتزهو بها امرأة متباهية»، لكن ألماظ التى تجسد وعى المرأة الحديثة تخفى وراء الولع بالزينة والجواهر والمظهر الأرستقراطى حساً مرهفاً وإدراكاً عميقاً لضرورة تحرير المرأة الشامية «فاحتفظت لنفسها بفكرة إنشاء جمعية نسائية من وراء البحار تشجع حركة التحرير وتتابع أخبار النساء فى الوطن وتحديد اللواتى ينزعن الحجاب وسط اعتراضات غاضبة، تتهم النساء اللواتى أدخلن الأزياء الأوروبية على ألبستهن اليومية، وأصبحت عبارة كل شىء فرنجى صار برنجى - وهى كلمة تركية تعنى الأول - تلقى على مسامح النساء اللائى يغيرن الأزياء الشرقية المحافظة، فى بيروت بدأ الرجال يقبلون أيدى النساء على الطريقة الغربية وتتعلم الفتيات رقص الفالس».
هكذا كانت حركة الحياة تمضى قدماً لدى الجيل الثانى أو الثالث من المهاجرين خلال فترة ما بين الحربين، لكن الرواية سرعان ما تغرق فى تفاصيل مشاركة أبناء الجاليات العربية فى الحياة السياسية لبلدان أمريكا اللاتينية، مع التركيز على الحضور الأنثوى البارز، فنرى على شاشة هذه الحياة أصداء ما يجرى عند منتصف القرن فى البلدان العربية دون أن يلتحم ذلك بقوة فى النسيج الدرامى للعمل، فيظل مثل الزوائد التى تتدلى من الألبسة، نقرأ مثلاً عن «كارلوس» الذى كاد يصبح بطل الجزء الأخير من الرواية أنه نال إعجاب الآنسة سلمى «الفتاة التى تربت فى كنف جدها جورج حداد الذى أنشأ جريدة قبل أكثر من خمسين سنة بعد أن قام بجولة فى مختلف الولايات لإقناع المهاجرين بالاشتراك فيها مع أن معظمهم كانوا من الأميين أو أنصاف الأميين، لم يحصل على أكثر من أربعمائة اكتتاب، لاحقاً باعها بما قيمته خمسمائة بيسو (أرجنتينى) وكان عدد صفحاتها لا يتجاوز الأربع وتحرر بلغة أقرب للعامية منها للفصحى، كانت عائلتها من بين تلك العائلات التى علقت صور جمال عبدالناصر فى منازلهم ونواديهم، شقيقاها حملا اسمى جمال وناصر. اسمان انتشرا بين الجاليات العربية بكثرة فيما ساهم والدهما بيدرو حداد بتأسيس نقابة الصحافة السورية فى الأرجنتين، فى وقت حرصت فيه إذاعة (روساريو) على تخصيص جزء من بثها لكل ما يحدث فى الشرق الأوسط»، ولأنى كنت شاهداً مباشراً على الفترة التى أعقبت ذلك فى السبعينيات خلال مقامى ثلاثة أعوام فى المكسيك فأنا أدرك الجهد التوثيقى الهائل الذى قامت به الكاتبة لتمثيل حيوات هذه الأجيال الثلاثة من المهاجرين العرب، لكن المشكلة هى اتساع الرؤية وضيق الصفحات عن احتوائها فى مائتين وثلاثين صفحة لا يمكن أن تتسع لكل هذه العوالم دون الشعور بالتكدس المعلوماتى وازدحام الشخصيات التى تزيد على عشرين شخصية تعمرها فلا تجد المساحة الحيوية والإنسانية الكافية، لكن تظل رواية «الماس ونساء» بتنكير الكلمة الثانية بشكل يقلق العطف، تظل قطعة فنية دمشقية باذخة الثراء فى تطريزها وأحجارها الفكرية الكريمة التى تلمع ببريق الشعرية وسحر السرد الجميل.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع