مهندس عزمي إبراهيم
في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ مصر والمصريين. يحاول الجميع، حكومة وشعباً، إعادة بناء مصر بعد ما مَرَّت به من تدمير وتخريب في معظم جوانب الحياة مادياً ومعنوياً. وحيث نأسَى لاستحالة استرجاع ما خسرته مصر من أرواح،
نبارك الجهود الجارية على قدم وساق لاسترجاع ما خسرته من أموال ومنشآت وكرامة، ولاستعادة مكانتها بين الدول المتحضرة الكريمة. وذلك بالتركيز على تنمية قواها الوطنية والاجتماعية والعمالية والانتاجية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والسياسية، وبالطبع وعلى ذات المستوى، قواها الدينية والأخلاقية!!
نسمع اليوم أصوات من يحاولون التمسك بحجاب الرأس الذي فرضه الإسلاميون الأخوانيون والوهابيون (بإسم الدين) على المرأة المصرية. ولم يكن الحجاب من شروط الدين ولم يُذكر لفظه بالقرآن إطلاقاً، وما الحجاب إلا تقليد لزي نسائي تقليدي بدولٍ أجنبية أقل ثقافة وحضارة عن مصر. وتلك حقيقة أقرَّها علماء مسلمون وخبراء في التاريخ والاجتماع لهم ثقلهم الفقهي والمدني ومنهم الإمام محمد عبده. ولم يكن أبداً من أزياء نساء مصر في العصور القديمة أو الحديثة. كما لم يكن اختياراً شخصياًعلى الإطلاق. فقد لبسته بعض النساء في موجة التأسلم المفتعل لتبدو متدينة مع تيار ادعاء التدين السطحي تجنباً للتهديدات الهمجية العديدة التي كان المتأسلمون يوجّهونها للمرأة السافرة ومنها إلقاء "مَيّة النار" على وجهها.
ومن الناحية القومية والأخلاقية لا يرى عاقل في التمسك بالحجاب ما يساهم في جهود حكومة مصر وأجهزتها نحو استعادة قواها ومكانتها وكرامتها، أو يُحسن تعليم نشأها أو ما يسد رمق الجائعين من شعبها. كما لا أري في التمسك به وبالنقاب ما يحمي المرأة أو يرفع من أخلاقها أو أخلاق هواة التحرش الجنسي. فلا يحمي المرأة من (سوء خلقها) ومن (سوء خلق الآخرين) إلا ثقافتها وقوَّتها المعنوية وثقتها في نفسها والقانون المدني العادل الحازم، لا الحجاب ولا النقاب ولا حتى كتيبة من آلف شيخ أو خفير.
نسي هؤلاء الإسلاميون أن معظم نساء مدن مصر، مسلمات ومسيحيات وغيرهن، في النصف الأول من القرن العشرين وحتى نهاية الستينات وبداية السبعينات منه كنَّ سافرات أنيقات الملبس والزينة، وكنّ وقورات محتشمات حيث يعملن وحيث يسرن في شوارع مصر وأسواقها. وكنّ آمنات حتى في مسابح مصر وشواطئها بأحدث ملابس الاستحمام العصرية من أي تحرش أو مضايقة من شباب مصر حينئذ. نسوا أن التحرش الجنسي لم ينبت ويزداد إلا مع تحجيب النساء وتنقبهن وبرقعتهن بحجة التدين والتظاهر به، ومع تمسك الرجال المتأسلمين بلبس القميص والسروال الأفغاني الباكستاني واطلاق اللحى المشوشة واصطناع زبيبة الجبين بحجة التدين والتظاهر به.
نسوا أن جدودنا المصريون القدماء تركوا لنا من الكتابات والرسومات على برديات وآثار ما يثبت بفخر أن المرأة المصرية كانت ملكة حاكمة وقائدة قادرة وطبيبة وعاملة وفلاحة وراقصة ومغنية وعازفة قيثار وغير ذلك، وكانت سافرة غير مغلفة بأكفان وهي حية كما يريدها اليوم المصريون المتأسلمون المتخلفون. بل كانت تظهر في الرسومات عارية الرأس مطلقة الشعر مرتدية ملابس خفيفة أنيقة. كانت المرأة في الحضارة المصرية صِنْوَاً للرجل، لا أقل منه، ولا عبدة له ولا مملوكة ولا جارية ولا أمَـة ولا ملك اليمين ولا ناقصة عقل أو دين. ولم يكن صوتها أوشعرها أو وجهها عورة.
ونسوا أن في العصور الحديثة حتى اليوم كانت الفلاحة المصرية وبنت البلد العاملة وغير العاملة يلبسن الفستان الجلابية بألوانها المفرحة، والطرحة الجميلة الملونة على رأسها مطروحة للخلف مُبدية المنديل "أبو أوية" يعلو جبهتها، ومبدية وجهها وشعرها وعنقها، مُكحَّلة العينين بأناقة دون تبرج أو خلاعة.
وإذ في العقود الحديثة بدءاً من السبعينات واطلاق الأخوان من السجون على يد السادات وفيض الوهابية المستوردة من السعودية العربية (الحاقدة على مصر دائماً) والوهابيين المأجورين بأموال البترول، وعودة المصريين العاملين بدول الخليج مشبعين بالتخلف وقشور التدين. ثم إطلاق الزمام للأخوان والسلفيين المتأسلمين في الساحة المصرية بجميع حناياها وثناياها ينثرون التخلف والجمود والتشدد في شعبها خاصة المرأة، فحجَّبوها ونقبوها بأكفان سوداء كئيبة وسجنوها وغسلوا عقلها وأفقدوها شخصيتها فصدقت فعلا أن شعرها عورة وأنها هي ذاتها عورة وتابعة وناقصة عقل ودين.
وقبل بعض النساء أن يغطين شعرهن بحجاب ولو غير مقتنعات. والدليل أن بعض المحجبات (فتيات وشابات وحتى نساء ناضجات) علاوة على استعمالهن لكافة مكونات التزيّن والبهرجة من ألوان وخردوات يلبسن أحدث موضات الجينز (المحزق) والبلوزات الضيقة مما يبرز من مفاتنهن ما يثير شهوات الشباب المتحفز للتحرش أكثر ألف مرة من شعر رأسهن.
في زياراتي لمصر علاوة على قراءاتي ومشاهداتي لفيديوهات الأخبار بمصر، لاحظت كما لاحظ الجميع، اهتمام الإسلاميين بالسطحيات والشكليات كالملبس واللحى والزبيبة، دون الجوهريات كالعمل والإنتاج والإبداع. فاهتمامهم بفرض ملابس غريبة على مصر أكثر من اهتمامهم بصحتهم وأرزاقهم وتعليمهم وارتقائهم وسعادتهم. لاحظت ما فرضه الإسلاميون من تغيير يكاد يكون كاملا لوجه مصر الجميل وهويتها المصرية الأصيلة بموجة ملابس من دول لا ترقى لحضارة وعراقة مصر والمصريين. وذلك بنشر الحجاب والنقاب والبرقع والخمار والعباءة بين النساء والجلباب الخليجي والقميص والسروال الأفغاني الباكستاني واللحى المشوَّشة (مع حلق الشوارب) التي تزايدت بشكل مزري في السنوات الأخيرة بشوارع مصر وأسواقها ومؤسساتها وجامعاتها بل قهاويها وحول "شيشاتها" أي نارجيلاتها، رجال ونساء!!!
حقيقة أقولها في عين كل من يتمسك بأهمية تغليف المرأة حية بأقمشة كما يلفون الميت بأكفان قبل دفنه. الحجاب والنقاب والبرقع والخمار لا تحمي المرأة من تحرش شاب عابث فاسد خليع فاقد الأخلاق. ولا يمنع الحجاب والنقاب والبرقع والخمار من عبث أمرة فاسدة عابثة خليعة فاقدة الأخلاق. ومن الناحية العملية، لا ينكر أحد أن السافرات المرتديات الملابس العصرية أكثر نشاطاً وسرعة في الأعمال الإدارية والمكتبية والمهنية، وأكفأ وأنسب للعمل في المعامل والمصانع والورش المنتجة والمساهِمة في تحسين اقتصاد مصر ومستقبلها. بينما الأحجبة والأنقبة والبراقع تشكل عائقاً ملموساً في كفاءة لابساتها كما هي عقبة أمامهن في أن يحصلن على فرص العمل بتلك الأماكن.
وإدرج هنا واقعة حقيقية. في إحدى زياراتي الأخيرة لمصر أذكر أني دخلت نقابة المهندسين بالقاهرة لقضاء بعض الأمور النقابية الخاصة بي بعد بضعة سنين مغترباً عن مصر، ففوجئت بعدد من الأشباح السوداء لا يبدو من كل منها إلا ثقبان في مكان الوجه تبدو من خلفهما حدقات عيون لا أدري إذا كانت عيون رجال أو نساء. وبسؤالي لزميل كان بصحبتي علمت أن تلك الأشباح مهندسات جئن لقضاء أمورهن في النقابة مثلي. ساءني للفور الفارق المهول بين مهندسات مصر اليوم ومهندسات الغرب حيث أعمل. بل الفارق المهول بينهن ومهندسات مصر قبل هجرتي في أواخر الستينات من القرن الماضي.
في الغرب لي زميلات مهندسات على مختلف المسئوليات والمناصب إدارية ومهنية، سواء في تصميم المشروعات في المكاتب أو في تنفيذها في حقول الإنشاء حيث يُعامَلن ويتعاملن مثلهن مثل الرجال على قدم المساواة. ففي المكاتب مهندسات وقورات أنيقات الملبس ومحتشمات في زينتهن يقمن بأعمالهن ويقدمن خبراتهن ويجتمعن بالعملاء وأصحاب الأعمال ومسئولي ومهندسي الحكومة الفيدرالية وحكومات الولاية والمقاطعة والمدينة رجال ونساءعلى اختلاف خلفياتهم. وفي حقول الإنشاء مهندسات وقورات يلبسن (الجينز والبلوزة) وفي أقدامهن (البوت) وعلى رأسهن (الهارد هات) أي القبعة الواقية ويحملن الرسومات والأجهزة الهندسية ويخضن الأراضي الموحلة والرملية ويصعدن السلالم ويفحصن الحفَر والقواعد والأساسات وأعماق الأنفاق ويقفزن القنوات والعوائق والحواجز ويتعاملن مع فصائل الرجال من مهندسين ومقاولين وعمال.
وتدفعني المقارنة للدهشة، كيف يكره هؤلاء المتخلفون ضمن ما يكرهون (وما يكرهونه كثير) الملبس الجميل الأنيق الذي ليس فقط يبدي رشاقة المرأة وجمالها بل ويُسَهِّل لها أداء عملها وتأدية واجباتها تجاه الوطن. فلست أدري كيف لـ (مهندسة منقبة) أو (مغلفة بخيمة سوداء من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها) أن تقوم بمسئولياتها المهنية بكفاءة في مكتب هندسي، ناهيك عن في موقع إنشائي يغلي ويفور بالحركة المستمرة، كمهندسات الغرب أو كمهندسات مصر في الستينات.
نعرف نداءات قاسم أمين في أوائل القرن العشرين لتعليم المرأة وتحريرها من الحجاب والقيود السقيمة، ونعرف تأييد الكثيرين من زعماء العصر وقادته ونجومه المستنيرين في مجال الاجتماع والأدب والفن والإعلام والسياسة والدين وعلى رأسهم سعد زغلول ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وهدى شعراوي وسيزا نبراوي ودرية شفيق وطه حسين وجمال البنا ونوري السعيد. وما أجمله توافق أو صدى فكري من العراق الشقيق على لسان شاعرها الرائع جميـل صدقي الزهـاوي، أكثر من مئة عام مضت، حيث قال لبنات العراق:
مزقي يا ابنـة العـراق الحجـابا واسفري فالحيـاة تبغي انقـلابا
مزقيـه.. أو احرقيـه.. بلا ريثٍ فقد كــان "حارســـــــاً" كـذابا
زعموا أن في السفور سقـوطاً في المهاوي.. وأن فيـه خـرابا
كذبـوا فالسفـور عنـوان طهـرٍ ليس يلـقى مَعَـــــرّةً وارتيـــابا
*****
وقال أيضاً
كـان الحجــاب يسـومـها خسـفأ ويرهقهـا عـذابــا
إنَّ الألـَى قـد أذنبــوا هـــــــــــم صَيَّـروه لــها عقــــابا
وسيطلـب التاريخ من نــــــــاسٍ لها ظلمـوا... الحسابا
*****
وقال أيضاَ
اسفري.. فالسفورللناس صُبحٌ زاهـرٌ.. والحجـاب ليــلُ بهيـــمُ
كـل شـيء إلى التجَــدُّدِ مــاضٍ فلمــاذا يُقــَــرُّ هـــذا القـديـــــمُ
اسفـري فالسفـور فيـه صـلاحٌ للفريقيـــن ثَـــمَّ نفــــع عميـــمُ
زعموا ان في السفـور انثـلاما كذبـوا فالسفـور طهــرٌ سليـــمُ
لايَـقي عـِفــَّـة الفتـــاة حجــابٌ بل يَقيــــها تثقيفـــها والعلــومُ
********
أختم مقالي بأنه لا يحمي المرأة من سوء خلقها ومن سوء خلق الآخرين إلا ثقافتها وقوَّتها المعنوية وثقتها في نفسها وتطبيق القانون المدني العادل الحازم. لا يحمي المرأة الحجاب ولا النقاب ولا كتيبة من ألف واعظ وآلف رقيب أو ألف خفير.