بقلم: د.يحيى الوكيل
تفضل السيد رئيس هيئة النقل العام، بمشاركتنا رؤيته المستقبلية. فصرّح أن أزمة المرور فى العاصمة ستنتهى نهائيًا فى عام 2012، وذلك بعد استيراد وتشغيل أربعة آلاف أتوبيس صينى جديد، وتشغيل الخط الثالث للمترو.
هكذا، ببساطة، وبقرار من سيادته، ستنتهى أزمة بدأت منذ بداية سبعينيات القرن الماضى بمجرد تشغيل أتوبيس صينى، وتناسى تمامًا الجذور الحقيقية للمشكلة.
صحيح أن عدم وجود مواصلات عامة تغطى القاهرة الكبرى وتحترم آدمية المواطن، من أهم أسباب انتشار حمى شراء السيارات الخاصة، وتنامى أعداد تلك السيارات بما يفوق طاقة استيعاب شوارع "القاهرة"، بل وكل عواصم محافظات الجمهورية، الإ أن ذلك ليس السبب الوحيد، حتى وإن بدا كذلك لسيادته على الورق.
السبب الحقيقى يعلمه كل من اكتوى بنار القيادة فى شوارع المحروسة، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وهو انعدام قانون فاعل للمرور فى "مصر".
لا تحتاج إلى صورة جوية لتلمس غياب التزام السيارات بحارات السير، وتداخل طوابير السير كشرائط الإسباجيتي، بحيث يغلق ذلك التداخل الطرق، بأكثر مما يغلقه ضيق الطرقات، أو العدد الزائد من السيارات.
ولا يفوت طبّاخوا الفوضى، إضافة اللحم المفروم وصلصة الدماء إلى اسباجيتى المرور، فتتكفل حوادث السير بإصابة وقتل أعداد من المواطنين، تفوق سنويًا خسائرنا الكلية فى حرب الإستنزاف.
فمن السبب فى تلك الفوضى؟ أو ما هى الأسباب التى أدت اليها؟
الدور الطبيعى للشرطة، هو الدفاع عن المجتمع ضد الفوضى. ولكنها صارت لا تؤديه بل وتضيف أيضًا إلى الفوضى؛ فشرطي المرور، وشرطى الدرك غائبان عن شوارعنا – ولا أدرى كيف. والبطالة تأكل شباب البلد – وحتى إن وُجد شرطي المرور، فلا هيبة له ولا احترام، إما عن قصد من المتبجحين بالنفوذ من الراقصات إلى أبناء اللواءات، أو بسبب امتهان الشرطي لنفسه، ومد يده لاستعطاء أموال يدرء بها عن نفسه العوز والحاجة.
الأكثر من هذا، إن ضُبّاط الشرطة أنفسهم، لا يطبقون قانون المرور على أنفسهم، فلا يلتزمون بالقيادة الصحيحة على الطرق – سواء فى سياراتهم الخاصة أو التابعة لجهاز الشرطة، ويشجعون المجندين الذين يقودون عربات الشرطة، من كل الأنواع، على كسر كل قواعد المرور. ومن على مكاتبهم، أو فى الشارع، يسمحون لكل من كان ذى سلطان أبيض (وهو كارت التوصية)، أو سلطان بنى (وهو لون أوراق النقد)، بكسر القانون وبالإفلات من العقاب.
فى غيبة المُثل والقدوة، وانهيار دور حفظة القانون، تنامت فى نفوس سائقى السيارات – إلا من عصم ربى – لا مبالاة، واحتقار لمبادئ القيادة وقواعد المرور، وصارت هواية عند الجميع التلذذ بالتعدى على القانون – ومن لا يصدقنى عليه متابعة عدد الذين يتكلمون فى الهاتف المحمول وهم يقودون سياراتهم، وأن يحاولوا ملاحظة الأسلوب الذى يقودون به، والذى لابد مؤدٍ إلى حادثة لها خسائر مادية على الأقل، إن لم تكن بشرية أيضًا.
وغير ذلك من ضروب الإستهتار الكثير.
هذه اللامبالاة التى تسم معظم سائقى السيارات الخاصة، توحشت لدى سائقى الأجرة من كل الأنواع، شاملة التوك التوك، والميكروباص، حتى صارت إجرامًا ولا أقل، وقد غذّى هذا الإجرام أخلاقيات العشوائيات، والتى أفرزت لنا أسوأ أنواع الخارجين على القانون، وهو النوع الذى لا يخشى الظهور بل يتبجح به.
صار من الطبيعى جدًا عند هذه الفئة – والبعض كذلك يقلدونهم – تعطيل الطريق بقطع الشارع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس؛ للدخول فى تقاطع أو العودة فى ملف، وهو ما شرحه لى أحدهم بنظرية "البوز"، وتنص تلك النظرية على أنك إذا احتللت مكانًا ببوز السيارة فالآخر مجبر على تركه لك تفاديًا للحوادث؛ وهذه نظرية تستحق أن تُدرّس فى مقررات العلوم السياسية بـ"هارفارد" و"كامبريدج" على قدم المساواة مع نظرية "حافة الهاوية" و"الردع النووى".
أضف إلى هذا الوقوف العشوائى والمفاجئ، والتلوى بين السيارات، وغير ذلك كثير كما تعلم من تأثير عشوائية الأخلاق على أسلوب القيادة فى مصر، وخاصة سائقى الميكروباص، والذين يستقوون ليس فقط بالبلطجة، ولكن أيضًا بحقيقة أن معظم السيارات التى يقودونها مملوكة لأفراد فى جهاز الشرطة، يدافعون عنهم عند وقوعهم تحت طائلة القانون.
الحقيقة أن أجهزة وزارة الداخلية، ليست وحدها المتسببة فى أزمة المرور فى "مصر"، فهناك أيضًا أجهزة المحافظة، والتى سمحت – سواء جهلاً أو طوعًا، وسواء بالأبيض أو بالبنى – بكارثة إنعدام أماكن انتظار السيارات وعشوائيتها، بالسماح للمبانى بالإرتفاع فوق المسموح، وغض النظر عن تحويل الجراجات إلى مخازن ومحال، مما ساهم فى تضييق الشوارع، والأمثلة على ذلك كثيرة.
حتى هيئة النقل العام من أهم أسباب أزمة المرور الخانقة، بأتوبيساتها المتهالكة وغير الآدمية، وأسلوب قيادة سائقيها المستهتر، ولا أدرى كيف سيحل الأتوبيس الصينى الجديد مشكلة نظافة الأتوبيسات ورعونة سائقيها، وطبعًا لا زلت حائرًا كيف سيحل مشكلة المرور الإ إن كان الأتوبيس الطائر.
هل خطر ببال سيادته حل لعدم وجود أماكن انتظار للسيارات عند محطات المترو؛ ليستعملها أمثالى ممن تبعد أقرب محطة مترو – لا زالت قيد التخطيط وليس حتى الإنشاء– عن منزلى حوالى الثلاثة كيلومترات أو تزيد؟ هل لدى سيادته حلول لعدم وجود محطات أتوبيس قريبة من منزلى لأستطيع استعمالها، ومثلى كثير؟
أنا شاكر لسيادته أحلامه الوردية، ولكن أسباب مشكلة المرور فى "مصر" كثيرة وعميقة بأكثر مما يتحملها تصريح سيادته، أو مقالى هذا، ويلزم لمعرفتها دراسة متخصصة، ولحلها أدوات لا يملكها سيادته.
شهر رمضان القادم، سيعلن شهادة وفاة القاهرة باسفسكيا الإختناق المروري، ولا مفر من هذا، ولا أجد حلاً ذا مدى زمنى قريب يمكنه تفادى هذه الكارثة، ومن يجده فأنا واثق أن السيد رئيس هيئة النقل العام سيكافئه بمقعد فى أتوبيس نظيف.
أحد الحلول القابلة للتطبيق على المدى البعيد، يكمن فى تفعيل جهاز قوى لشرطة المرور، نملأه بالخريجين العاطلين، ونوفر لهم دخلاً شهريًا محترمًا جدًا يدفع عنهم غول الفساد، ولا خوف على ميزانية الدولة، فحصيلة المخالفات التى سيحصلونها، ستضيف ربحًا بشكل أكيد إلى الخزانة العامة، ولا خوف عليهم من أن يضعفوا أمام مراكز القوى، بل ربما كانوا أشد عليهم لطول ما اعتمر فى نفوسهم من الغل واليأس، الذين يعلمون جيدًا أن من كانوا السبب فيه هم هؤلاء الكبار وذوى النفوذ.
أنا واثق أن المتخصصين قادرون على الخروج بحلول أخرى، وأرجو العمل على هذا بسرعة، وعدم التعويل على اطلاق تصاريح بحل كل مشكلات مصر بحلول عام 2012، آملين أن تصح نبوءة شعب "المايا"، وتكون نهاية الكرة الأرضي