نجحت إيران فى جعل المجموعة الأوروبية بقيادة أمريكا تُقَدِّر قرارَها الوطنى وتضعه فى الاعتبار عند اتخاذ ترتيبات تخصّها، وتراجع الغرب عن سياسة الضغط للإخضاع، كما يحدث مع دول كثيرة من العالم الثالث، وكانت هناك نقطة وسط يلتقى عليها الطرفان.
وكان هذا من أول الإشارات المهمة للاتفاق الإطارى بين الطرفين الذى توصلوا إليه قبل أيام. وبدا أن وراء هذا الإنجاز الإيرانى أنها تمسكت باستقلالها وأصرَّت على المضى قدماً فى مشروعها النووى، فى المفاوضات المضنية التى استمرت أكثر من عشر سنوات، وقد ظلت إيران تؤكد، ما لا يمكن أن يُصدِّقه أحد، أنها لا تنوى صنع سلاح نووى وأن كل برامجها سلمية. والمؤكد أن إيران لم تحصل على ما حصلت عليه إلا بعد أن تيقن الغرب من صلابة الأرضية التى تقف عليها، وأنها تعتمد على قوة وطنية حقيقية، مادية وعقائدية وقومية، فأدرك الغرب أنه من الأفضل لدوله أن تتوقف إيران عند هذا المدى الذى وصلت إليه فى مشوار التطور النووى، بدلًا من أن تُتاح لها فرصة لتعزيز موقفها أكثر!
ويبدو أن إيران أيضًا قد اقتنعت أن التوقف عند هذه المرحلة، بما يضمن الإبقاء على ما توصلت إليه، سيكون أفضل لها، خاصة مع التزام الغرب بإلغاء المقاطعة التى تفاوتت فيها تقديرات إجمالى خسائر إيران وأوصلها البعض إلى أرقام فلكية بمئات المليارات من الدولارات.
سوف تستمر إيران فى برنامجها النووى فى حدود الاحتياجات السلمية، وهذا كافٍ لها فى تحقيق واحد من أهم العوامل المساعدة على الوصول فى المستقبل إلى الهدف الكبير، الذى هو القدرة على صنع السلاح النووى، وذلك بتطوير برامج تكوين الكوادر الإيرانية العلمية المتخصصة فى الأبحاث والتطبيقات النووية، والارتقاء بمهاراتها، فى إطار الاستخدامات السلمية، إضافة إلى الدور الكبير الذى يقوم به التقدم فى هذا المضمار فى دفع واستنهاض كل نواحى المجتمع. وفى تقدير بعض الخبراء، حتى مع التزام إيران بكل القواعد المفروضة عليها، مع الخضوع للتفتيش، فإن هذا الطريق يصل بها فى غضون سنوات قليلة إلى أن يكون الفارق الزمنى بين قرار تصنيع السلاح النووى وتصنيعه بالفعل بضعة أشهر، ما دام أن الكوادر القادرة على ذلك موجودة.
لقد تخففت إيران من أعباء ثقيلة نتيجة لهذا الاتفاق، وازدادت إمكانياتها بعد فك الحصار وبعد التخلص من الاستنزاف على جبهة المفاوضات، وهى عائدة بقوة أكثر إلى مزيد من الاهتمام بالإقليم، الذى لم تهمله قط، بل إنها، وهى فى عز الضغوط الغربية صنعت لنفسها وضعية خاصة فى الإقليم، خاصة مع الاستفادة من أخطاء وقعت فيها إدارتا دبليو بوش وأوباما، اللذين ساعداها أكبر مساعدة بتحطيمهما لألد أعدائها: نظام طالبان فى أفغانستان، وصدام حسين فى العراق، حتى صارت إيران هى أهم ورقة فى معظم ما يخصّ الشأن العراقى، كما تجاوز نفوذها أفغانستان ووصل شرقاً إلى حدود باكستان، وصار لها وجود قوى فى سوريا وفى لبنان وفى اليمن ومع حماس، ويُحسَب لها ألف حساب فى السعودية والبحرين والكويت.
فماذا ستكون عليه سياساتها فى الدول العربية بعد أن تخلَّصت من الجبهة المستنزفة مع الغرب، أو جعلتها أهدأ بكثير مما كانت عليه؟ خاصة أن بعض الدول العربية متورطة بالفعل فى مواجهات عسكرية وسياسية ضد حلفاء إيران فى الدول العربية بقصد إضعاف إيران؟ فهل تظل المعادلة على ما كانت عليه قبل الاتفاق الأخير؟
هل يمكن أن يؤدى هذا الاتفاق إلى أن يتأسس تعاون إقليمى بين أمريكا وإيران بعد انتهاء مرحلة العداء؟ وهل تغير أمريكا تحالفاتها فتتعاون مع إيران ضد العرب، من أجل مشروع تقسيم المنطقة، بعد أن كانت، حتى أيام قليلة، تنسق مع العرب بهدف تحجيم إيران؟.
لأول وهلة، يبدو أن هناك توافقًا فى المصالح بين إيران وأمريكا فى تقسيم الدول العربية! وهو موضوع جدير بالدرس الجاد، ومعرفة إذا ما كان ذلك صحيحاً أم لا، وإذا كان صحيحًا، فإلى أى مدى يمكن أن يكون التوافق؟ وما الذى يمكن لإيران أن تقوم به فى هذا السياق؟ وكيف يمكن مواجهته؟
ومن توابع الاتفاق الجديرة بالدراسة أيضًا، أنه حتى تصل إيران إلى مكانة المرشح للتنسيق مع أمريكا، هل يمكن أن تكون مضطرة إلى أن تتراجع عن تأييدها الصريح، بالمال والسلاح والتدريب، للأطراف التى تواجه إسرائيل على الأرض، حتى تحصل على بعض المرونة من إسرائيل التى أشهرت رفضها للاتفاق، وأعلن رئيس وزرائها أن هذا ضد مصلحة إسرائيل؟ وكيف سيكون حال هؤلاء الذين اعتمدوا إلى حد كبير على إيران فى مواجهتهم لإسرائيل؟
كما أن هناك إشارة أخرى شديدة الأهمية تؤكد صحة المنهج الذى اعتمدته إيران فى التعامل مع الغرب برفض الانصياع، بل بإبداء القدرة، أحيانًا وبدرجات محسوبة، على تعويق مصلحة الدول الغربية! وهذا على نقيض المنهج الآخر الذى فشل فى الحصول على أى شيءله قيمة من الدول الغربية، وهو الذى سارت عليه الدول العربية طوال عقود، والذى امتثلت فيه للدوران فى فلك السياسات الغربية، بل وقبلت على نفسها تقوم بدور التابع، بوهم أن إبداء الامتثال للسياسة الغربية، والتطوع أحيانًا بما يثبت الولاء، يعود بالتأييد والدعم الغربى لهذه النظم!.
لم يفهم العرب، حتى بعد طول إحباطات أمريكية، أن السياسة لا تعرف سوى المصالح هدفاً، وأن الحلفاء يتبدولون وفق المصالح المتغيرة، بل التى قد تتغير بشكل مفاجئ، خاصة لمن لا يجيد الرصد والتحليل!
وهاهى الدول الغربية بقيادة أمريكا تبرم اتفاقًا مع إيران دون أن تلتفت إلى مصالح حلفاء الأمس القريب، خاصة السعودية ودول الخليج، وتتركهم لمصيرهم فى مواجهة إيران التى عادت أكثر قوة!.
وهذا درس إضافى، لمن لم يتخذ العِبرة من تجارب حسنى مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح، وكانوا جميعًا، بدرجات مختلفة، يستوحون خطوتهم التالية من اتجاه البوصلة فى واشنطن، التى كانت ترضى عنهم ما دام أنهم مستقرون على كراسيهم، أو كان يبدو أنهم مستقرون! ولكن، وبمجرد أن لاح أن استمرار أى منهم يشكل عبئًا على أمريكا لم تتردد لحظة واحدة فى رفع يدها عنه وتركه وحيدًا أمام قوى التغيير الجارفة!
نقلا عن البوبة نيوز
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع