مع توقيع مصر على اتفاق إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة، تم إسدال الستار على مرحلة خيَّم فيها التوتر المكتوم على العلاقات المصرية- الإثيوبية، على الرغم من الجهود المُضنية التى قامت بها الدولة المصرية من أجل التواصل وبناء الثقة مع إثيوبيا منذ تولى السيد الرئيس «عبدالفتاح السيسى» رئاسة الجمهورية.
فقد شهدت العلاقات السياسية بين البلدين تطورات كبيرة وملحوظة منذ اللقاء الأول الذى جمع بين الرئيس «السيسى» ورئيس الوزراء الإثيوبى «هيلا ماريام ديسالين» فى مالابو فى يونيو 2014، وما تبعه من لقاءات قمة مُتكررة على هامش قمم ومناسبات دولية عديدة، فضلاً عن الزيارات المكوكية التى قام بها وزير الخارجية النشط «سامح شكرى» إلى أديس أبابا، واللقاءات شبه الشهرية التى جمعت بينه وبين نظيره الإثيوبى. ولا شك أن انعقاد اللجنة المشتركة المصرية- الإثيوبية فى شهر نوفمبر 2015 بعد انقطاع دام لسنوات، واستقبال مصر وفد الدبلوماسية الشعبية الإثيوبى بعد ذلك، كان لهما الأثر البالغ فى تهيئة المناخ الداعم للتوقيع على اتفاق إعلان المبادئ الأخير.
ولعل النظرة المتأنية والدقيقة لمضمون الاتفاق، تكشف بوضوح منذ القراءة الأولى له، أنه جاء ليسد فراغاً أساسياً ونقاط ضعف هيكلية كانت تُخيم على المسار الفنى المُتمثل فى اللجنة الثلاثية المُشكلة من مصر والسودان وإثيوبيا، والمعنية بمتابعة إجراء الدراسات المشتركة التى أوصت بها لجنة الخبراء الدولية، والتى من شأنها أن تُحدد بدقة حجم الآثار المُحتملة لسد النهضة على دولتى المصب مائياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً. فالمسار الفنى الثلاثى، وفقاً لمراجع الإسناد التى اتفقت عليها الدول الثلاث، لم يكن يتضمن أى إشارة إلى التزام إثيوبيا بنتائج الدراسات المزمع القيام بها، أو الوضوح بشأن الخطوة اللاحقة بعد الانتهاء من إعداد الدراسات، وهو أمر طبيعى ومتوقع من الجانب الإثيوبى المعروف تاريخياً بعدم ترحيبه بتقديم أى التزامات أو تعهدات مستقبلية، ورغبته الدائمة فى ترك جميع الأبواب والخيارات المستقبلية مفتوحة أمامه.
ففى الحالة التى أمامنا، إثيوبيا– بطبيعة الحال– كانت تُفضل انتظار نتائج الدراسات لتُحدد بناءً عليها مدى استعدادها للالتزام بها من عدمه، ومدى استعدادها للاتفاق مع مصر والسودان حول قواعد ملء وتشغيل السد فى ضوء تلك النتائج، وهو أمر كان- إذا استمر- سيضع مصر فى موقف لا تحسد عليه نتيجة استمرار إثيوبيا فى عملية بناء السد، وعدم توفر أى ضمانات بأنها سوف تتفق مع مصر على قواعد ملء وتشغيل هذا السد قبل بدء التخزين الأول للسد. ومن هنا، فقد جاء إعلان المبادئ ليحدث نقلة نوعية فى الموقف المصرى، ليس فقط فيما يتعلق بوضوح الرؤية بشأن الخطوات القادمة، وإنما أيضاً على مسار تعزيز إجراءات بناء الثقة والتعاون بين الدول الثلاث الرئيسية المشتركة فى حوض النيل الشرقى. وهى خطوة فى غاية الأهمية، وينبغى تناولها بقدر أكبر من التفصيل لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لمصر.
-2-
فقد أرسى اتفاق إعلان المبادئ، رغم نطاقه المحدود الذى ينصب على سد النهضة، قاعدة جديدة تتعلق بالتعاون فى مجال العلاقات المائية والتنسيق بشأن قواعد إدارة السدود فى كل من مصر وإثيوبيا والسودان، وهو هدف طالما سعت مصر إلى تحقيقه على مدار سنوات طويلة دون طائل نتيجة غياب الثقة وأجواء التوتر والحساسية المفرطة التى يتم التعامل بها مع موضوعات مياه النيل فى كل دولة من الدول الثلاث. فالاتفاق الذى تم التوقيع عليه فى الخرطوم يوم 23 مارس 2015، قد نص على إنشاء آلية تنسيقية بين الدول الثلاث لضمان استمرارية واستدامة التعاون بشأن تشغيل سد النهضة بما يضمن عدم الإضرار بالمصالح المائية لكل من مصر والسودان. وهى تجربة، إذا نجحت، ستقدم نموذجاً مثالياً يحتذى به عند التعامل مع أى سدود مستقبلية فى إثيوبيا والسودان، فضلاً عن كونها تمثل نقلة نوعية فى التعامل الإثيوبى مع حق دول المصب فى أن يكون لها رأى بشأن السدود المقامة على الأراضى الإثيوبية، الأمر الذى كانت تعتبره إثيوبيا حقاً سيادياً خالصاً لها.
وأود أن أشير فى هذا الإطار إلى أنه ما كان بالإمكان الوصول إلى مثل هذه الدرجة العالية من التفاهم المشترك لولا الجهود الدبلوماسية الكبيرة التى قامت بها الخارجية المصرية، مدعومة بكل أجهزة الدولة المعنية، وتحت إشراف مباشر من السيد الرئيس واللجنة العليا للمياه برئاسة السيد المهندس رئيس مجلس الوزراء، من أجل تكثيف التعاون مع إثيوبيا فى المجالات كافة، وتعزيز قنوات الاتصال والتواصل بشكل مكثف، وإشعار الجانب الإثيوبى بأن مصر لم ولن تقف أبداً أمام تحقيق التنمية فى دول أعالى النيل، وأن شواغلها بشأن التأثيرات المحتملة لسد النهضة على استخداماتها وحقوقها المائية شواغل منطقية ومشروعة، وأن احتياجات الشعب المصرى من مياه النيل ليست ترفاً ولكنها احتياجات وجودية لا يمكن تجاهلها.
ولعل السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: ما الخطوة التالية وكيف يتم الإعداد الجيد لها؟ ولا شك أن الإجابة على هذا السؤال تقتضى الإقرار أولاً بأن اتفاق إعلان المبادئ لا يعنى بأى حال من الأحوال انتهاء أزمة سد النهضة، أو موافقة مصر عليه، وإنما هو خطوة أولى أساسية كانت مطلوبة لوضع أرضية صلبة يمكن البناء عليها للتوصل إلى التفاهم والاتفاق النهائى المنشود، كما أنها تتطلب توفر الإرادة السياسية الحقيقية لدى الجانب الإثيوبى لتنفيذ ما تعهد به من التزامات، لاسيما فيما يتعلق بالتوصل إلى اتفاق شامل مع مصر وإثيوبيا حول قواعد الملء الأول لخزان السد وقواعد تشغيله السنوية.
-3-
وفى تقديرى، فعلى الرغم مما قد يبدو من عمومية المبادئ التى تضمنها الاتفاق، مثل مبدأ التعاون، والتنمية والتكامل الاقتصادى، والالتزام بعدم إحداث الضرر ذى الشأن، والاستخدام المنصف والمناسب للمياه، وبناء الثقة، وتبادل المعلومات والبيانات، ومبدأ أمان السد، ومبدأ احترام سيادة الدول، وأخيراً مبدأ الحل السلمى للنزاعات، إلا أنها تمثل اختراقاً كبيراً فى مسار العلاقات المائية بين الدول الثلاث لكونها المرة الأولى التى يتم فيها تدوينها فى وثيقة قانونية تجمع بينها، الأمر الذى يرسخ لقواعد راسخة لا يمكن ولا يجب الاختلاف عليها مستقبلاً.
وبالعودة إلى السؤال المطروح أعلاه، يجب التأكيد على أن المرحلة القادمة سوف تتطلب المزيد من الجهد على المسارين الفنى والسياسى لضمان التنفيذ الفعلى والدقيق للمبادئ والأحكام التى تضمنها الاتفاق. فالحرفية والخبرة الفنية الواسعة والإلمام بجميع الأبعاد المائية والبيئية المرتبطة بسد النهضة وهيدرولوجية النهر، تعتبر شروطاً لا بديل عنها للمفاوض المصرى المشارك فى أعمال اللجنة الثلاثية الفنية، وصمام الأمان الحقيقى للاتفاق التفصيلى القادم حول قواعد الملء والتشغيل. كما أن الإدراك والإلمام السياسى الشامل لطبيعة العلاقات المصرية- الإثيوبية المتشابكة والتاريخية، شرط آخر ينبغى توفره فى كل من يتعامل مع الشق السياسى فى هذا الملف. فتاريخ العلاقات المائية بين البلدين يؤكد أن مسار التعاون والتفاهم المشترك والتواصل من أجل تحقيق المكاسب المشتركة وتجنب الضرر، هو الأسلوب الأمثل لحماية مصالح الدولتين، كما ينبغى التنويه إلى أهمية ومحورية الحفاظ على أكبر قدر من التنسيق بين أجهزة الدولة المعنية بمتابعة ملف العلاقات مع إثيوبيا لضمان توحيد الجهود وتجنب التشتت أو التضارب فيما بينها.
ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن تحديات المرحلة القادمة، أن نشير إلى الدور المهم والخطير الذى يضطلع به الإعلام فى صياغة وتشكيل الرأى العام والتأثير على المزاج النفسى للشعب المصرى. فلا شك أن مسؤولية الإدارة الناجحة لهذا الملف يقع جزء كبير منها على عاتق كبار الإعلاميين ورواد الفكر ورؤساء الأحزاب السياسية والفنانين وكل من له قدرة على التأثير فى الرأى العام المصرى. فصانع القرار المصرى فى نهاية المطاف، هو جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، يتأثر بما يتأثر به المواطن العادى، ويتحرك وفق ما يمليه ضميره ورؤيته وشعوره بشواغل واحتياجات المواطن المصرى. والمطلوب فى هذا الإطار أن يدرك الجميع أن مصر لا تتحرك فى فراغ من منظومة متكاملة من قواعد القانون الدولى المتعارف عليها، ومن علاقات متشابكة مع جيرانها، ومن بيئة دولية وإقليمية محيطة بها، وأن حقوقها المائية تقابلها احتياجات تنموية متزايدة لباقى شعوب دول حوض النيل. ومن هنا، فإن أى وثيقة قانونية سيتم التوقيع عليها الآن أو لاحقاً، سوف تمثل فى نهاية المطاف حلاً وسطاً بين مواقف الموقعين عليها، وأنها يجب أن تحقق مكاسب مشتركة لجميع الأطراف الموقعة عليها، وإلا فلن يكون لدى أى طرف الحافز الكافى للانضمام إلى تلك الوثيقة.
-4-
كما لا يجب إغفال الدور المهم والمؤثر الذى يمكن أن يقوم به القطاع الخاص فى حماية وتحقيق المصالح المصرية فى إثيوبيا وباقى دول حوض النيل. ولاشك أنه قد آن الأوان كى يتحرر القطاع الخاص المصرى من قيود التحرك التى فرضها على نفسه فى القارة الأفريقية خلال السنوات الطويلة الماضية، وأن يُدرك أنه أصبح الأداة الأكثر تأثيراً وفاعلية للدولة المصرية فى أفريقيا، وذلك لما يملكه من خلق مصالح متبادلة مع الأشقاء فى أفريقيا ودول حوض النيل على وجه الخصوص، وحوافز حقيقية تدفع تلك الدول للترابط مع مصر ومراعاة مصالحها. وقد لاحظت ما تم تحقيقه من تقدم على مسار العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إثيوبيا خلال الفترة الأخيرة، سواء ما تم إنجازه خلال أعمال اللجنة المشتركة، أو ما تم تحقيقه من اختراق غير مسبوق على مسار بناء الثقة خلال زيارة السيد الرئيس الأخيرة إلى أديس أبابا، والتى بلا شك سوف يكون لها الوقع الكبير على مسار التعاون بين القطاع الخاص فى البلدين.
رسالة أخيرة أود أن أنقلها إلى باقى الأشقاء فى دول حوض النيل، والتى قرأتها ما بين السطور التى تحدث بها السيد الرئيس أمام البرلمان الإثيوبى مؤخراً، حينما أشار إلى أهمية أن يمثل التعاون المصرى/ الإثيوبى/ السودانى نموذجاً لباقى دول حوض النيل، وحافزاً للتوصل إلى حلول بشأن المواد العالقة فى الاتفاقية الإطارية لمبادرة حوض النيل، والمعروفة اصطلاحاً بمسمى «اتفاقية عنتيبى».
فقد آن الأوان كى تلتئم دول حوض النيل من جديد لرأب الصدع الذى حدث نتيجة التوقيع المنفرد لعدد من الدول على الاتفاقية دون الاكتراث بمواقف باقى الدول. وإذا كانت مصر قد نجحت، بالتعاون مع إثيوبيا والسودان، فى التوصل إلى تفاهمات- ولو مبدئية- حول قضية أكثر خطورة وحساسية تتعلق بأمنها القومى وأمنها المائى مثل قضية سد النهضة، فلا شك أنه بالإمكان، وبمزيد من المثابرة والتفاوض الهادئ والطرح المنطقى، أن تنجح مصر فى إقناع باقى دول الحوض بالتوصل إلى حلول توافقية حول المواد العالقة فى الاتفاقية الإطارية، بشكل يضمن حماية حقوق واستخدامات مصر المائية بشكل عملى وواقعى. ولاشك أن الجهد المبذول من جانب الدبلوماسية المصرية حالياً للتواصل وتعزيز أواصر التعاون مع دول حوض النيل، والحرص الواضح من السيد الرئيس للتواجد فى المحافل الأفريقية والالتقاء المباشر مع القادة الأفارقة، سوف يكون له دور أساسى فى تعزيز الموقف التفاوضى المصرى.
* وزير الموارد المائية والرى الأسبق ورئيس المجلس العربى للمياه
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع