( قصة طريفة )
للشاعر والأديب فايـز البهجـورى
كـذبـــة أبـريـــل
إنتهى طابور الصباح فى "مدرسة النجاح الثانوية للبنات" ، واتجهت الطالبات الى فصولهن .
كانت الحصة الأولى فى " فصل تالته أدبى" مخصصة للمواد الفلسفية . وما كاد أستاذ الفلسفة يدخل الفصل حتى وجد فى انتظاره مفاجأة غير عادية .
لم تقف الطالبات لتحيته كالمعتاد . كن جميعا تخفين وجوههن فى أدراجهن ، وقد تصنعن حالة من الحزن الشديد .
ألقى الأستاذ عليهن تحية الصباح فلم ترد عليه أى
واحدة منهن .
تجاهل الأمر وبدأ يكتب عنوان الدرس على السبورة.
" سقراط : فلسفته ومنهجه ".
وانتظر لحظات حتى يتضح الموقف ، ولكن دون جدوى.
نادى على احدى الطالبات يستوضحها الأمر فقالت له فى حزن مصطنع :
" ريهام " انتحرت يا أستاذ . أهلها كانوا عايزين يجوزوها لراجل عجوز ، فرمت نفسها من الشباك من الدور الخامس وماتت.
وهنا بدا على الأستاذ تأثر شديد وهو يقول " لا حول ولا قوه الا بالله . ليه كده ؟
ومضت لحظة صمت وحزن .
وفجأه انفجرت الطالبات فى الضحك .
دهش الأستاذ لهذه المفاجأة الأخرى، وهذا الموقف الغريب . فهل يتناسب الانتحار مع مثل هذه الضحكات العاليه ؟
وقبل أن تذهب دهشته قالت له احدى الطالبات :
يا أستاذ كل سنة وأنت طيب . إنهارده أول أبريل . ودى " كذبه إبريل" .
وابتسم الأستاذ ابتسامة عريضة وقال : آه يا عفاريت . ما لقتوش لكذبة أبريل غير ادعاء انتحار زميلتكم ريهام ؟
وردت عليه احدى الطالبات : أصلها اتخطبت إمبارح
يا أستاذ . وعلشان كده غابت إنهارده .
قال الأستاذ : والخطوبة دى تبقى كدبة " أول نيسان "؟
فردت عليه طالبة أخرى : لا يا أستاذ . دى حقيقه.
واحنا إمبارح حضرنا خطوبتها على ابن عمها . وهو مدرس فلسفه زى حضرتك .واسمه وجدى مراد
وعلق الاستاذ : وجدى مراد أنا أعرفه .ده شاب مهذب ونشيط .
ثم صمت لحظة طويلة وواصل بعدها حديثه للطالبات :
طيب ما دام انهارده أول أبريل . والناس اتعودوا يكذبوا في اليوم ده . فأنا كمان حأكذب عليكم كذبه . والطالبه الذكيه اللى راح تكتشفها . حأقدم لها جايزه قيّمه.
وأضاف الأستاذ موضحا : حأشرح لكم درس النهارده عن الفيلسوف اليونانى سقراط . وحأذكر لكم بعض التفاصيل عن سيرة حياته وفلسفته . وقبل ما ينتهى شرح الدرس أكون قد كذبت عليكم كذبه
ركزوا معاى انتباهكم حتى تستطيعوا كشف الكذبه
***
وبدأ الأستاذ يشرح الدرس:
عاش الفيلسوف اليونانى سقراط فى مدينة أثينا فى القرن الخامس قبل الميلاد. وكان أحكم حكماء عصره .
وحدث مرة أن واحدا من تلاميذه سأل "عرّافة معبد الاله أبولون" فى مدينه دلفى باليونان ، وطلب منها أن تسأل الآلهه . هل هناك فى المدينة من هو أكثر حكمة من سقراط ؟
وبعد أن سألت العرّافة الآلهة، بطريقتها الخاصة ،
عادت لتقول لتلميذه : ليس هناك فى المدينة من هو أحكم من سقراط .
***
ولم يكن سقراط يهتم فى فلسفته بمعرفة " أصل الوجود . وهل هو الماء أم الهواء أم التراب أم النار . كما قال بذلك الفلاسفة من قبله .
ولكن سقراط اهتم بالانسان . وجعل شعار فلسفته " اعرف نفسك بنفسك " .
وهو الشعار الذى وجده مكتوبا على معبد دلفى .
ولذلك قال عنه الشاعر شيشرون " ان سقراط أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض " .
أى " جعلها تبحث فى الانسان" ، بعد أن كانت
" تبحث فى الكون والوجود لمعرفة المادة التى يتكون منها ".
سقراط مؤسس علم الأخلاق
ويرى سقراط أن الانسان خيّر بطبعه . وأنه اذا فعل الشر أو الرزيلة فانه يفعلهما نتيجة لجهله بالخير .
ويعتبر سقراط هو" مؤسس علم الاخلاق " . فهو الذى جعل من الاخلاق علما ، بعد أن كانت من قبله مجرد نصائح متفرقه تاتى فى أقوال الشعراء.
ومما هو جدير بالذكر أن سقراط نفسه كان شاعرا. وكان يؤمن بالاخلاق قولا وعملا .
منهج سقراط فى الحوار
وكانت طريقة سقراط فى الحوار مع خصمه تمر بمرحلتين.
فى المرحلة الأولى يبدأ بالايحاء الى خصمه بتسليمه بما يقول به ، رغم أنه فى قرارة نفسه يرفضه تماما.
ثم يبدأ فى منا قشه خصمه فيما يقوله . ويبرز له أوجه التناقض فيه. ويشككه في صحته ، حتى يسلم الخصم ببطلان أفكاره التى كان يؤمن بها .
وهذا هو الجانب السلبى فى منهج سقراط فى حواره مع الآخرين، وهو ما يطلق عليه " مرحلة التهكم والسخريه والتشكيك ".
وفى المرحله الثانيه يحاول سقراط أن يستخرج من خصمه الفكرة أو الرأى الذى يريده سقراط نفسه.
وهذا الجانب الايجابى هو ما يسميه سقراط " بالتوليد " .
ويقال أن سقراط تعلّم الجانب الأول فى طريقة تحاوره من خلال تعامله مع زوجته .
وتعلم الجانب الثانى " وهو التوليد " من أمه التى كانت تعمل "قابله" أى مولّده .
***
وقد تحاورسقراط مع العديد من المفكرين الجهلاء على أيامه . " الذين كانو يدّعون العلم والمعرفه بغير علم ولا معرفه ". وكانوا يطلقون على أنفسهم لقب "السفسطائيون " أى " الحكماء ".
فيلسوف سيئ الحظ
كان سقراط قبيح الوجه . ولكنه كان عبقرى التفكير . شديد الذكاء . ومثل أعلى فى الأخلاق.
ولكن هذا الفيلسوف العظيم فى أفكاره ، كان سيىء الحظ فى حياته الخاصة .
زوجته زنتيب
و كانت مأساته الكبرى فى زوجته " زنتيب" .
فقد كانت غبية وجاهلة وسليطة اللسان .
وكان يغيظها أن ترى زوجها سقراط وسط تلاميذه يعلّمهم الحكمه . وهم ينصتون اليه فى وقار واجلال واعجاب .
فكانت تسخط عليه وعليهم . وتشتم فيه وفيهم .
وكان سقراط يسمع كلامها ولا يرد عليها . وكأن الامرلا يعنيه فى شىء .
ويشتد بها الغيظ . فتزمجر . وتصرخ فيه . وهو لا يحرك ساكنا .
فكانت تأتى بدلو تملأه بالمياه القذرة. وتقذف بها عليه وعلى تلاميذه .
وفى هدوء شديد ينظر سقراط لتلاميذه ويقول لهم :
هكذا زوجتى " . ترعد . ثم تبرق . ثم تمطر".
***
وحينما طلب ابنه منه ان يقدم له نصيحه . هل يتزوج أم لا . بعد أن رأى ما تفعله أمه فى أبيه .
قال له سقراط: تزوّج يا ولدى ؟
فان كانت زوجتك صالحة أصبحت سعيدا .
وان كانت مثل أمّك أصبحت فيلسوفا .
محاكمة سقراط
وعندما عجز خصوم سقراط ، من" السفسطائيين " أدعياء العلم والحكمة " عن مقارعته الحجة بالحجة . وشوا به وقدموه للمحاكمة بتهمة أنه " يفسد أخلاق الشباب فى مدينه أثينا . ويقول كلاما ضد الالهه " . وحكم عليه القضاة المحلفون " بالاعدام بتناول السم ".
وفى الليلة السابقة على تنفيذ حكم الاعدام عليه ، حضر اليه تلاميذه فى السجن ، وفتحوا له الباب ، وطلبوا منه الهروب ، ولكنه رفض أن يهرب . وقال لهم : هل تريدون أن يقال عنّى بعد أن أموت أنّى خالفت قوانين المدينة ، وهربت من السجن ؟
وحينما تجرّع السم وبدأ السم يعمل فى جسده ، تذكر أن عليه " دين " لأحد المواطنين فلم يشأ أن يموت دون أن يسدد دينه . فاشار الى أحد تلاميذه وأخبره بالدين, وطلب منه أن يرده لصا حبه .
***
هذا هوالفيلسوف اليونانى العظيم الذى نحن فى حاجة الى أمثاله فى عالم اليوم . يعلمنا فن الحوار الذى يخلو من السباب والشتائم والمغالطة .
ويزرع فينا مبادئ الأخلاق السامية التى تهدى الى الخير والفضيلة اللتين ضللنا الطريق اليهما .
***
والى هنا توقف الأستاذ عن شرح الدرس .
وقال لتلميذاته معقبا عليه :
والآن انتهى الدرس . وكما قلت لكم أنى سأكذب فيه كذبه . والمطلوب هو اكتشافها . للحصول على الجائزة
محاولات الطالبات لاكتشاف الكذبة
وهنا بادرته الطالبة منال بقولها .
لقد كنت متحاملا على زوجة سقراط يا أستاذ .
وعلقت عليها الطالبة ميرا : يظهر ان الأستاذ ما يعرفش انه فيه صلة قرابه بين منال وزنتيب زوجه سقراط
وضحكت الطالبات . وضحك الاستاذ ..
ويدأت الطالبات تتبارىن فى الاجابه للحصول على الجائزة .
قالت ايمان : ان زوجة سقراط ليس اسمها زنتيب .
ورد الأستاذ : لقد ورد فى مراجع السيرة الذاتية لسقراط أن اسمها زنتيب.
قالت نيفين : سقراط لم يكن شاعرا .
ورد الأستاذ : بل كان شاعرا وفيلسوفا .
قالت هند : لم يكن سقراط قبيح الوجه .
ورد الأستاذ : مؤرخو سيرته قالوا ذلك
قالت صفاء : لم تقم زوجه سقراط بالقاء المياه عليه.
ورد الأستاذ: لقد جاء فى السيرة الذاتية له أنها فعلت ذلك .
قالت ميرفت : سقراط ليس هو مؤسس علم الاخلاق.
ورد الأستاذ: لقد اعتبره مؤرخو الفلسفة أنه مؤسس علم الاخلاق .
قالت هدى : لم تقل عرافة معبد الاله أبولون أن سقراط هو أحكم حكماء المدينة .
ورد الأستاذ: لقد سجلت كتب الفلسفة ذلك .
قالت صافيناز : لم يرفض سقراط الهروب من السجن ليله تنفيذ حكم الاعدام فيه .
ورد الأستاذ: لقد أكدت الوثائق أنه رقض الهروب .
وتحدثت كثيرات من الطالبات . وأبدين ملاحظاتهن على كل معلومة رواها الأستاذ فى الدرس مكذبات لها . وكان الأستاذ فى كل مرة يؤكد صحة كل معلومة عن سقراط قال بها فى شرحه للدرس .
وبعد ان يئست الطالبات من الوصول الى الحل الصحيح ، طلبن من الأستاذ أن يقول لهن الاجابة الصحيحة
وهنا ابتسم الاستاذ وقال لهن : يعنى زى المثل ما بيقول " غلب حماركم"
وأجابت الطالبات جميعا فى صوت واحد "غلب حمارنا "
وعلق الأستاذ وهم يبتسم ابتسامة عريضة :
لقد قلت لكم ، فى بدايه الحصة ، أنى قبل أن أنتهى من شرح الدرس أكون قد كذبت عليكن كذبه . وعليكن ان تكتشفنها ..
وأنا فى الواقع لم أكذب أى كذبة فى كل المعلومات التى قلتها فى الدرس . وأردت فقط أن تركزوا على الشرح .
وقاطعته الطالبه ناهد : وتبقى فين الكذبه يا أستاذ ؟
ورد عليها الاستاذ : الكذبه هى أنى قلت لكم أنى سأكذب عليكن فى شرح الدرس، ولكنّى فى الواقع لم أكذب .
وانفجرت الطالبات فى ضحك متصل .وهن يتبادلن النظرات بعضهن لبعض.
وقالت احداهن : لقد كنت فعلا أكثر ذكاء مناّ جميعا ..
ونجحت فى شد انتباهنا لكل كلمة فى الدرس .