عندما توفى عبدالحليم حافظ فى مثل هذا اليوم من عام 1977 كنت فى الصف الثانى الإعدادى، لا أستطيع أن أصف لك كم الحزن والنكد الذى عاشه المصريون حينذاك. من عاصر فترة السبعينات يمكنه أن يتذكر كم كان عام 77 ثقيلاً ومحملاً بالعديد من الأوجاع، ويعلم أن المصريين أحسوا بموت «حليم» كما لم يحسوا بموت أى فنان آخر، بما فى ذلك سيدة الغناء العربى أم كلثوم بجلالة قدرها. الكل كان يحب عبدالحليم، الصغار والشباب والكبار، الرجال والنساء، المصريون وغير المصريين. فهو لم يكن مجرد مطرب، بل كان أقرب إلى «الحالة» المعبرة عن أخدود شديد العمق فى الشخصية المصرية، يمكن أن نسميه بـ«أخدود الحزن».
نعم.. نحن شعب «ابن حزن»، أكثر من كوننا «ابن نكتة» كما نوصف، بل قل إن السخرية هى جزء من الحزن الذى يرسخ مستقراً داخل الأخدود الذى يحتويه فى النفس المصرية. حزن تراكم عبر آلاف السنين، والمئات من تجارب الحكم، التى اختلفت فى نواح كثيرة، لكنها اتفقت جميعها فى فكرة «قهر الشعب». والقهر له أشكال عدة بعضها سياسى، وبعضها اقتصادى، وبعضها إنسانى، بل وبعضها ذو وجه دينى. والقهر هو السبب الأهم فى إفراز الحزن. عبدالحليم حافظ تمكن من لمس هذا الوتر فى النفس المصرية، لأنه كان يحسه بعمق نتيجة تجربته الإنسانية مع الفقر واليتم والمرض، ولأنه كان يحسه بعمق فقد عبّر عنه بعمق أكبر، فاستطاع أن يعيد الإحساس الخام الذى استعاره من الجمهور فى صورة فن، كان سر «الصنعة» فيه هو الصدق، فلمس قلوب مستمعيه، وتجول فى نواحيها بلا استئذان.
نجح عبدالحليم حافظ فى أن يحول «القهر» إلى فن، يتفاعل معه الناس ويغسل أحزانهم. فكثير من المصريين يغسلون حزنهم بالاستماع إلى ما يثير أشجانهم ويهيج أحزانهم، إنهم يطبقون ذلك المذهب «النواسى» -نسبة إلى أبى نواس- الشهير الذى يقول «وداونى بالتى كانت هى الداء»، لذلك كان غناء عبدالحليم تعبيراً عن أحزانهم، ودواء لها، فى حين واحد. أجاد «العندليب» حين غنى عن الهزيمة، ولم يعلِّم مع الكثيرين حين غنى للنصر، إلا فى الحالات التى كان يحسن فيها ربط النصر بالوجع، أجاد حين غنى عن الهزيمة فى الحب، والهزيمة فى الحياة، تماماً مثلما أجاد التعبير عن الهزيمة فى الحرب. امتلك الرجل صاحب الجسد النحيل والصوت الواهن من تأثيرات المرض قدرة عجيبة على التسرب إلى مشاعر وأحاسيس أجيال متعاقبة من المصريين، وكان السر فى ذلك أنه «ابن حزن».
لم يعبّر عبدالحليم عن مجرد حالة شخصية، أو مكانية، بل عبّر أيضاً عن حالة تاريخية، شهدت نوعاً من الوفرة غير المسبوقة فى عدد المبدعين، على مستوى الكتابة والتلحين، واستطاعت شخصية عبدالحليم -بما تتمتع به من ذكاء- أن تغريهم بإخراج خير ما فيهم وأفضل ما عندهم، بصورة مكّنته من الوقوف صامداً وسط عمالقة من المطربين. وكان جوهر ذكاء عبدالحليم مرتبطاً بإيمانه بالشباب، وعزوفه عن تقليد غيره، قناعة منه بأن الشخصية المستقلة هى الأقدر على الصمود فى المنافسة.. ذلك هو العندليب، المطرب العابر لكل العصور.
نقلا عن الوطن