بقلم : نانا جاورجيوس
هي سيرة ذاتية خارج المقارنة وغير مألوفة في أدب السيرة. تناولها الروائي واسيني الأعرج بأسلوب تِقني فني رفيع ويختلف عما يتبعه عادة كُتاب السيرة العرب، فالأدب السيَّري يكاد يكون شبه منعدم نتيجة لخوف الكُتَّاب العرب من إنتقادات المجتمع أو نتيجة للنفاق الإجتماعي أو الأخلاقي والديني في مجتمعات عربية تنظر دائماً بعين ناقدة.
إلا أن الصراحة المجردة لعبت دور كبيراً في الجزء الواقعي بقساوته وتراجيدياته أحيانا كثيرة للشخصيات الحقيقية التي لعبت دوراً في حياة الكاتب. بينما الجزء الغيبي جاء مملوءاً بالمدى التخيلي الذي جعل منه الكاتب حياة حيَّة لكي يستدعي عبر رحلته الروحية شخصيات عائلته المتوفيين
والشخصيات التاريخية كجده الأندلسي الروخو وسيرفانتيس وإبن عربي كي يجعلهم يتحدثون عنه بلسانهم لا بلسانه كي لا يبدو أنه من يتحدث عن نفسه بصورة بطولية أو مثالية ملونة بالنرجسية، فالكتابة عن شخصيات رحلت أمر مؤلم وإعادة إستدعائهم ليتحدثوا عنه و معه هو أمر مُضنٍ، ولكي يتخلص
من إشكالية موتهم كان عليه أن يخلق عالم غيبي يستدعيهم فيه من حياة ماضية ويجعلهم أحياءاً إلى مساحة تخيلية نابضة بالحياة وموازية لعالمنا، مما قد يجعل القارئ أحياناً يعتقد أن ما يقرأه حقيقة حدثت بالفعل وليس مجرد خيالاً خصوصاً أن ثقافتنا الشرقية بها جزء كبير من الخيال تتناوله الناس على أنه واقعي، بخلاف مايحدث في الثقافة الغربية.
وعلى هامش ندوة «شهادات وتجارب روائية» لملتقي الكُتَّاب العرب السادس بالقاهرة، أتاحت الكاتبة إقبال بركة للسادة الحضور أن يقيموا جسراً حوارياً متبادلاً بين قاعة الحضور وبين مَنصّة الكُتّاب و جائت جميع الأسئلة من نصيب الروائي الجزائري واسيني الأعرج لما لسيرته من أهمية حيث أنها نقلة أدبية جديدة في الأدب السيري. وتركزت الأسئلة عن كيفية وصول الأدب العربي للعالمية، والمزج بين الواقع والمتخيل في إطار تاريخي، وعن تعاطف الكاتب مع المرأة خصوصاً شخصية الحبيبة مينا. وهل السيرة تقترب من الشكل الروائي أم السرد الذاتي وهل تأثر الكاتب بالثقافة الأمازيغية كإعترافات القديس أغسطين في الثقافة المسيحية، وغيرها من القضايا.
1- فطرحتُ على الكاتب سؤالي وكان حول شخصية الحبيبة مينا في سيرة المنتهى، فسألته: « من بين الذين عبروا طفولتي، بقت مينا فوق الكل هالة من النور لا يعرف أحداً سرها غيري.. وتحت عنوان من منكم بلا خطية فليرجمها أولاً بحجر» في إشارة لمريم المجدلية وعن حكم المجتمع على كلا
منهما، وقلتَ« كانت مريم المجدلية في كل خطوة من خطواتها تتماهى مع مينا التي لا أعرف ماذا فعل بها قتلة القلب. مريم لم تجد يسوعاً يخفيها في بيته بعيداً عن ظلمتهم القاسية. فالمجدلية وجدت قلباً رحيماً ومنقذاً لها من مجتمع ذكوري سرق الحياة الطبيعية من إمرأة ثم دفع بها للموت، كما فعل
القتلة بمينا» وكم لمسنا في كتاباتك تعاطفك الكبير لشخصية مينا، وكما قُلتَ ليس فقط لأنها ضحية بل لأنها عاشت وماتت مقهورة ومظلومة.
في حين أن تعاطفك هذا لم يلقَ قبولاً عن بعض القراء الذين هم في النهاية شريحة من ذات المجتمع الذي حكم يوماً بالموت على مينا. فهل توقعت إدانتهم لمينا ولك وأنت تبوح بأسرار حياتك بهذه الصراحة والجرأة. وماذا تقول لقرائك؟
** أجاب الكاتب:
العزيزة نانا، طرحت سؤال مهم في الصميم، أنا لا أدري ماذا أقول لأنه لو نفتح باب شخصية مينا لن ننتهي لأن هذه الشخصية بالضبط أنا وجدت قاسم مشترك بينها وبين مريم المجدلية، يعني من جهة أن عندتهم أخلاقية رغم أن مينا كانت موجودة في ماخور، وانا بأتكلم عن الستينيات و مينا لم تختر هذا المكان،
هذا المكان فُرض عليها،وكما قلت جزء من مجتمعنا صامت. وهذه إبن عمها وعدها بالزواج مثلما يحدث ملايين المرات وأقيمت هذه العلاقة وفجأة حملت منه، وطبعاً هي كانت مطمئنة بأنه كان لازم يسرع بالزواج قبل الولادة كما يحدث عادة.
جائته بنت خالته و فجأة ذهب لفرنسا وتركها في مواجهة وضعية، وين تروح؟ يعني موتين، إما الموت بالقتل لأن أهلها سيقتلونها أو أنها تروح تهيم، فراحت هامت والصدفة شائت أن إمرأة تلتقي بها إسمها عائشة الطويلة وهذه كانت مديرة ماخور عندها إدارة وعندها اطباء، منظمة و مهيكلة بشكل جيد، فأدخلتها إلى هذا المكان، إقتنصتها وكان مينا صغيرة وجميلة .
وأنا لقائي بمينا بدأ من هذا المكان وكان عمرها 17 سنة و أنا عمري كان في نفس السن وبعدين النهاية التراجيديا، تخيلوا واحد مثلاً يشتغل في مكان عام في الطابق الثالث، لما يدخلوا الناس تحت في هذه المساحة الكبيرة، حتى تختار المرأة مَن تريد منهم، يعني « الناس إللي تشتري اللذة» الموجودين بالمساحة التحتية «البهو » وتظل هي بالطابق الثالث تشوف الناس لأن الماخور يستوعب عشرة أفراد،
عشرة ذكور يدخلون ويغلقون الباب ثم يخرجون وبعدين تدخل الدفعة الثانية، وهي تنظر من فوق وتراقب الأشخاص خشية إذا فيهم واحد من أهلها يعرفها ، وفي الآخر ستكون ضحية هؤلاء الأهل وتُقتل.
أما القراء ، فهناك القارئ العادي وفي القارئ إللي يفكر وفي القارئ الداعشي إللي معندوش فكرة نهائياً. انا بعتولي طبعاً قُراء كثيرين بالمئات بدون مبالغة في الإنبوكس وعلى الصفحة، وأنا رحبت بردود الفعل، لأن رد الفعل ده«قراءة» مهما أتفقنا أو إختلفنا مش مشكلة ،
لكن في بعض ردود الفعل كانت قاسية جداً ضد مينا وضدي أنا كذلك، يعني كيف تقبل أنت بنفسك تروح مع إمرأة من هذا النوع، طيب يا أخي انا روحت كان عمري صغير ودخلني ولد عمي و ورطني و أنا ما عارف المكان يعني. بيت القصيد هو أن الناس يحكمون على الظواهر الخارجية وظهر
فيما بعد أنها إمرأة في أشد النُبل وذاكرتي تحتفظ بهؤلاء الناس، أنا كتبت عنها لأنها بالضبط مثل قضية مريم المجدلية، فقط لما قال لهم سيدنا المسيح، من كان منكم بلا خطية فليرمها بحجر وبعدين ترددوا لأن كلهم خطَّائون، وعلى الأقل أعترفوا بأنهم خطائين أرتكبوا الخطيئة، إحنا عندنا حتى مفيش هذا التردد، يحمل سيف وييجي يركض و يستنى إمتى يقطع رأس المذنب.
2- وكان هناك سؤال للدكتورة نانسي إبراهيم: يعرِّف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها محيك إسترجاعي نسجي يحكيه شخص واقعي بمنطلق الذات، فإلى أي مدى يمكن للروائي الإقتراب من ذاته حين يتناول السيرة الذاتية وإلى أي نص تقترب سيرة المنتهى، هل تقترب من الشكل الروائي أكثر أم من السيرة الذاتية بنسقها المعروف. حضرتك مقيم بالجزائر فإلى أي مدى كان تأثير الأمازيغية ذات النمط الجديد الذي إستخدمته في السيرة الذاتية ولا سيما أن أصول السيرة الذاتية ترجع إلى الأمازيغ وإلى كتاب«الإعترافات» لأغسطين، وتأثره بالثقافة المسيحية؟
** أجابها الكاتب:
العزيزة نانسي حول الإقتراب من الذات أعتقد توصيف نص من النصوص الذي ينتمي إلى السيرة الذاتية يجعل من هذه الذات قريبة ولكن السؤال المطروح، ليس القرب من الذات وإنما هو كيف نقترب نحن من الذات وكيف نصنع خصوصية هذا الإقترب. لأنك بالدرجة الأولى روائي وكاتب ولك حساسية فردية إنك تجربة شخصية.
إذن ما هي الوسائط الفنية الممكنة التي تجعل هذه القرابة فيها طابع الخصوصية وليس طابع التكرار. طبعاً هذا يقتضي جهداً كبيراً ويقتضي خصوصية في التعامل مع السيرة ولهذا قلتُ منذ البداية ومنذ اللحظة الأولى أخترتُ أن أقف على الطرف النقيض من تعريفات فيليب لوجون، فهو أهم الذين أشتغلوا على أدب السيرة لأن كتبه كلها عن السيرة خصوصا السيرة الذاتية،و نظَّر للسيرة الذاتية وكتب كتب تنظيرية بمعنى أنه لما أنت تكتب كتب تنظيرية، تستقي مشروعيتها من النصوص التي كُتبت و وصل إلى هذه النتيجة، ولكن نتائجه التي وصل إليها لم تُرضيني،
لم ترضيني لأني داخل العالم الأكاديمي وأهتم به كثيراً ولكن لم ترضيني على الصعيد الروائي. فشعاري دائما كعربي يعيش جزء من حياته داخل الصمت، هذا الصمت لا يعيره فيليب لوجون أي إنتباه مطلقاً. فالصمت بالنسبة لي هو جزء من الحياة وجزء من التجربة الشخصية، وطبعاً كل واحد يستوعبها كما يشاء. إذن الإشتغال منذ البداية بُنيَّ على هذه اللحظة.
طبعا أعطيتي مثال بـ saint Augustin – القديس أغسطين، معروف ماكتبه ولكنه كتب هذا النص في سياق خاص، في سياق الصراع الديني خصوصا الصراع مع الدوناتيين، وهو كان مع الكنيسة الغربية ومجموعة أخرى كانت مع الكنيسة الأفريقية، وهو حلل تدمير هؤلاء الناس الذين لا
ينتمون للكنيسة الرومانية و وجد كل المبررات لتدمير الدوناتيين وقبل بها، ولهذا أستغربت لأن عندنا شخصيتين في الجزائر هما saint Augustin و«أبّولي» وهو مؤسس رواية «الحمار الذهبي- L Ane d or» وهي الرواية الأولى التي نشأت في القرن الثاني بينما saint Augustin في القرن الرابع بينما مسافة قرنين. الغريب أن المعيار الثقافي الفرنسي أهتم أكثر بـ saint Augustin على حساب أبّولي، وبعدين فهمت لأن أبّولي ظل عنده
جزء أمازيغي في ثقافته وظل متأصلاً في الأراضي البربرية وحتى رواياته والصراعات التي قامت حوله والحكم عليه بأنه ينتمي لمجموعة الصحراء وحكم عليه بالإعدام وكيف هرب.. هذا قربته أكثر من المجتمع الشرقي. بينما saint Augustin بقىّ ضمن النموذج الغربي لهذا كان الإهتمام به أكبر و نكاد لانعرف أبّولي.
3- سؤال حول العالمية من الكاتب الروائي الفلسطيني الأستاذ يحيي يخلف: في كُتّاب ترجمت أعمالهم إلى الفرنسية وغيرها، لماذا ونحن نطمح في الوصول للعالمية و رغم الغنى والتنوع للرواية العربية الحديثة والمعاصرة، لماذا في العالم ظواهر عديدة وصلت للعالمية مثل ظاهرة الأدب في اليابان وفي أمريكا اللاتينية، لماذا لا يوجد ظاهرة للرواية العربية أو ظاهرة عالمية للأدب العربي ؟
** أجابه الكاتب:
العزيز الغالي يحيي يخلف طرح سؤال في غاية الأهمية حول خلق الظاهرة العربية في الرواية العالمية، أنا أتفق معك إلى اليوم مفيش، النصوص العالمية في الثقافة العربية، يمكن العالمية كمفهوم بحيث هذا النص يدخل في المخيال العالمي مش فقط الترجمة، في المخيال العالمي النصوص إللي
موجودة هي القرآن الكريم وألف ليلة وليلة وبس، دخلوا في المخيال العالمي وأصبحوا فاعلين فيه. خلينا نقول العالمية شوية ، النص يتنقل عن طريق الترجمات المختلفة إلى الأمم الأخرى، قرأوه بشكل جزئي، بشكل كامل، فهذا نقاش أخر، ولكن في هذه النصوص يوجد مشكل وهو أن العرب لا
يدافعون عن ثقافتهم، العرب يخسرون الملايير من الأموال ولا يخسرون مليم واحد في إشاعة هذه الثقافة، مثلا في أمريكا اللاتينية. الكُتّاب الأمريكان اللاتينيين لم تأتي فقط من الظاهرة الأدبية اللاتينية، ولكن الظاهرة الأدبية مثلاً في فرنسا في «دياسبورا» كبيرة وفاعلة وهم« شتات المهاجرين من
أوطانهم» وفيها منظومة ثقافية، وأمريكا اللاتينية أستوعبت هذه النصوص وأشاعت لها، مثل أليخو كاربنتير، أستوريا حتى قبل غارسيا ماركيز وهؤلاء حولوا النتاج الثقافي إلى مادة ثقافية عالمية، متكلمتش عن إخوتنا اليهود كمان لهم دور كبير في إشاعة الأسماء، في دياسبورا أستطاعت أن تستوعب كل النتاج الثقافي وتدفع به نحو العالمية، لأن العالمية حركة وليس فقط إنتاج، أولاً يجب أن تجد من يدفع بهذا الإنتاج ،فين المؤسسة العربية التي ممكن أن
تدفع بذلك؟، في مؤسسة واحدة هي معهد العالم العربي بباريس، لأن العرب لا يدفعون حقوقهم حتى تستطيع هذه المؤسسات أن تمشي. بالأول بدأوا 40% وفرنسا تدفع 60% والعرب يدفعون 40%، العرب كقوة ممثلين بالسفراء، ولهذا تجدوا رئيس المعهد العربي فرنسي وهو رئيس رمزي، لكن المدير العام للمعهد هو عربي . طيب أنت كيف تكون عربي وعندك هذه الهوية ولا تعرف كيف تدافع عن ثقافتك في أكبر مجمع عربي؟ وبالتالي «
دومينيك بوديس» الرئيس السابق للمعهد و إللي كان قبل« جاك لونغ » الحالي، طلّع قرار ونبه العرب إذا ما تدفعوا أموالكم راح نحوله إلى مركز إسلامي متوسطي وبالتالي مفهوم العروبة و مفهوم الإنتاج العربي سيزول إذا إستمر المعهد على هذا الحال، لأنه الآن أعيدت هيكلة معهد العالم العربي وإللي هيكلوه الفرنسيين وليس العرب. فقط لأعطيك صورة كيف ممكن لهذا المركز ممكن يتحول لمركز إشعاع وتخسر اموال وتدفع الثقافة العربية للأمام وتقدر تخلق الظاهرة العربية نحو العولمة.
4- السؤال الخامس من الدكتور والكاتب السعودي نبيل المحيش: سيرتك الذاتية حيوية ولم نحس فيها بالملل، ما يشدني كثيراً في كتاباتك الروائية هو قدرتك على التداخل ما بين السيرة والرواية في أعمالك وتسرد بشكل جميل جداً تُخفي شخصيتك من خلال رواياتك، كيف إستطعت أن تخفي سيرتك بهذه الطريقة ؟
** رد الكاتب:
العزيز نبيل أنت تعرف أن الكُتَّاب هم أصحاب حرفة كما كان يقول طاهر وطَّار الله يرحمه كان يقول: أنا مثل البنَّاء أعرف وين غشِّيت وأعرف وين بنيت صح.
الكاتب عنده هذه الصفة، طبعاً نسرِّب أحياناً جزء من السيرة الذاتية في الكُتب ولكن في الوقت نفسه في الكتب الأخرى إللي ماتحمل سمة السيرة،عندك مساحة تخييل أوسع، أعطيك مثال مثلاً، في رواية أنثى السراب العنصر السيري الذاتي طاغي جداً لكن في الوقت نفسه داخل هذا النص في نوع من الإيهام. في طوق الياسمين، حياتي الدمشقية جزء منها، في إيهامات كذلك داخلها،
لأن طبيعة النص هي روائية، إذن فالعنصر الذاتي موجود و العنصر التخيلي موجود. يعني جه واحد سألني وهو دمشقي أصيل صديق وكاتب، قال يا اخي أنت بتحكي عن مصبات بردى ومكانها الجميل أنا روحت بحثت عنها ما وجدتها، قلتُ هذه موجوده بدماغي وما موجودة بالواقع، أنت تبحث عن سيرة لكن هذه ليست سيرة، أنا إعجابي وحبي لهذا المكان جعلني أضفي عليه ما أشتهيه، وانا ماقولش سيرة لو قلت سيرة طبعاً ممكن أنه يحاسبني الموضوع.
5- و سؤال أخر من الأستاذ عبد الفتاح دياب: حضرتك تعتمد على السرد الروائي على واقعة تاريخية أحياناً حقيقية، زي رواية «الأمير» كيف تستطيع النسج بين الخيال و وقائع تاريخية واقعية دون المساس بمصداقية التاريخ؟
** أجابه الكاتب:
العزيز عبد الفتاح أنا أتفق معه تماماً وهو أن مسألة التاريخ هي مسألة مهمة وبالتالي الإنسان عندما يتناولها ويعمل عليها يجب أن يكون حذراً بالخصوص عندما يتعلق المر بفرد،
أنا اشتغلت على شخصية الأمير عبد القادر لكن في الوقت نفسه التاريخ ليس مادة منجزة، «التاريخ يكتبه المنتصرون»، إذن أنت عندما تتعامل مع التاريخ أنت عندك مساحة لكي تشتغل فيها، مش كما تشتهي، تشتغل برؤى أخرى وبالتالي تنجز شخصية ربما مخالفة لما هو موجود، لكن عندما تنتج شخصية مخالفة لما هو موجود لازم تعطي ظهرك لتتلقي الضرب، لأن الناس تعودوا على تاريخ معين وأنت تأتي بتاريخ أخر، فتصير عدو ومواطن خائن ومش مواطن صالح.
6- وسؤال من الأستاذ سمير: وإحنا أطفال كنا نعرف محمود هيكل وكاتب ياسين وهذه الأسماء العظيمة الجزائرية إللي بتكتب بالفرنسية هل الأجيال الجديدة إستطاعت جماليا أن تتخطى هذه الكتابات إللي كانت مؤثرة في هذه الفترة، ممكن يكون أبناء هذا الجيل أكثر إنتشارا،ولكن فكرة التأثر في المحيط العربي هل نستطيع نحن أن نقول أن الجيل الجديد إللي منهم الأستاذ واسيني أستطاعوا أن يصنعوا فكرة أن هناك كتابة مركزية ولها أصداء في الوطن العربي؟
** أجابه الروائي:
الأستاذ سمير كلامك صحيح، الرعيل الأول من كُتَّاب اللغة الفرنسية، كاتب ياسين، الفقيدة آسيا جُبار، محمد ديب، مولود فرعون، مولود معمري،كوكبة من الكتاب الكبار في ظاهرة إلى اليوم لم يتم التنبه لها داخل الجزائر والمغرب العربي، هؤلاء كانوا داخل تراجيديا فقدان اللغة، ولما تحط إنسان داخل
تراجيديا فقدان اللغة، فالقراء لا تحاسبه لأن هذا عبر عن شيء كان مستحيل التعبير عنه، معناه أنه من داخل اللغة الفرنسية والسياسة الفرنسية في ذلك الوقت كانت سياسة تجهيل وبإسم قانون فارني مُنع إستعمال اللغة العربية، هؤلاء عبروا عن الإشكالات التي كانوا يعيشونها وعبروا عنها بجمالية عالية، ثلاثية محمد ديب هذه ملحمة الجزائر، تشوف إلى أي مدى إستطاعت هذه النصوص أن تعبر، طبعاً الأجيال الجديدة عبرت، لكن المشكل في الأجيال
الجديدة هو في خلاف صغير بالنسبة للجيل الأول عنده مسألة وطنية يدافع عنها، بالنسبة للأجيال الجيدة هذه المسألة الوطنية أخذت صبغات أخرى، فآخر روائي جزائري وهو شاب إسمه كمال داود، حكم عليه الإسلاميون بالقتل، وفي التليفزيون رسمياً قيل بأنه أدان الإسلام، طبعاً هو أنه لم يدين، ولكن في الوقت نفسه العلاقة الوطنية إللي كانت موجوده عند الأخرين إنزاحت وتحولت لمعنى أخر.
7- وسؤال من الأستاذة فاطمة : معروف الكتب بتاعة حضرتك بتتوزع مع مجلة دبي الثقافية أعتقد أن دي حاجة مهمة لتتعرف الناس على الأديب من خلالها،
هل تنصح الأدباء والكتاب إزاي يتواصلوا مع المجلات الأخرى والمصادر الأخرى ويبقى في نوع من التكاتف لنشر هذا الأدب. حاجة تانية ، حضرتك النموذج الأعمق الذي يطفو على سطح الحياة الآن. في التعايش ما بين بين، بين إنسانين وطنين العالم العربي والعالم الغربي بين ديانيتن ، هل وجدت صعوبة في التعايش بين إنسانين وعالمين وكيف إستطعت أن تحل هذه الإشكالية التي نحن مقبلين على شيء أكبر من التعايش معها؟
** أجابها الكاتب:
حول دبي الثقافية أتمنى أن تتاح هذه الفرص لكل النصوص الروائية، لأن أجمل شيء في دبي الثقافية أنها تطبع من 30 إلى 50 ألف نسخة ، تخيلي كتاب عربي يصل لهذا المستوى، أتكلم من ناحية التوزيع، أقول شيء جميل، وبعدين الحقوق لا تملكها دبي إلا لمدة شهر، مجرد ما يطلع الكتاب الأخر انت حر في أن تطبع كتابك أينما تريد.
– إلى هنا إنتهت الأسئلة المطروحة ولي تعقيب بسيط كقارئة وهو أن سرد الكاتب جاء بأسلوب جمالي شيِّق خرجت به مرويته بتقنية أدبية عالية ساهمت في إخراجها بهذا العمق التفصيلي والمزج بين الواقعي والمتخيل،
رغم أن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل أكثر مما يعرفه و تترجمه مشاعره و حواسه، وسيرة المنتهى كانت رحلة روحية للعالم الأخر و طغى عليها الأدب التصوفي في عالم روحي موازي لعالمنا،و الذي كان يتنقل فيه الكاتب برشاقة دون ملل لقارئه بل بشغف كبير يرمي بنا في عمق الأحداث و كأنها حروف متجسدة ونابضة بالحياة حتى أن القارئ يمكنه أن يعتقد أن ما يسرده الكاتب عن تلك الشخصيات هو حقيقة حدثت بالفعل وليست نسج تخيلي،
و كيف حول جمود التاريخ بأحداثه وبشخصياته وأحدث به عملية حِراك لينبض بالحياة لتفاصيل حياتية إنسانية مُعاشة، كشخصيتي سيرفانتيس وإبن عربي وبصورة مملوءة بالمدى التخيلي لحياة وكأنها حيَّة و نابضة من خلال عمل الفلاش باك لإسترجاع الماضي وتسليط الضوء على تفاصيل
شخصياته التي كان يستحضرها، بدءاً من الجد الروخو والجدة حنّا فاطنة والوالد الشهيد والأم ميما أميزار مروراً بالحبيبة وبالشخصيات الأدبية سالفة الذِكر، بالإضافة إلى أن بعض النصوص الأدبية التي كونت لديه إرثه الأدبي الأساسي كنص ألف ليلة وليلة و مروية دون كيخوتى لسيرفانتس اللذين غيروا مسار حياته الأولى وإنعكسوا على أدبه وأثروا في نصوصه .
فقبل أن يشرع واسيني بكتابة سيرته صرح بأنه لو طلب منه تعريف أدب السيرة لقال أنه متجسداً في «تقرير إلى غريكو» لنيكوس كازانتزاكيس، وبعد الإنتهاء من كتابتها، رأينا كيف أن سقف مرويته جاء عالياً على غرار «تقرير كازانتزاكيس»، خصوصاً في أسلوب المزج بين الحقيقي وبين المتخيل. بل أرى بعين القارئ أن سيرة المنتهى تخطت تقرير كازانتزاكيس إلى سقف أعلى خصوصاً في الجانب التخيلي والغيبي.
ليهدى الكاتب سيرته إلى« ميترا- Mitrá » التي رافقته عُمراً في رحلة إبداعاته الأدبية:« إلى ميترا حتى لو لم يكن لكِ أي وجود إلا في كتبي وأحلامي وفي قلبي تحديداً. أنتِ الوحيدة التي أستطيع أن أروي لها قصتي، قصتنا دون أن أخاف» .. ميترا الأسطورة، لشمس الحياة و نورها في الميثولوجيا
الإغريقية وإله ميثاق العهد الأبدي عند الفرس وإله الخلق في الفيدا السنسكريتية.. ميترا الأبدية التي خلد الكاتب إسمها في مرويته «رماد الشرق»، لتخلَّد ميترا كشمس للحياة والحب و ميثاق قوسها القُزحي، و كأيقونة إبداعية يخلق بها الحياة التي إشتهته.