هناك، يعيش الشاعر فى مخبأ. عاصرته عدة مرات وهو يتألم ويكتب ويدخل حالة النشوة ثم ينعزل عن الدنيا ليحول إلهامه إلى قصيدة.
كان فى أحد الأيام غائباً عن الوعى، يحكى معنا وذهنه مفقود تماماً.
وكنت أستمتع بهذا الشرود والهلوسة لأنى أعرف أن أبياتاً بديعة ستليها. وأنا فى توق لأى إبداع لأنى أعيش منطقة تعيد اختراع العجلة آلاف المرات كل يوم.
فى الديكور وفى الأغانى، فى البرامج، السينما، الأزياء.. كله تكرار عربى لإنجازات قديمة.
لذا فمن ناحيتى أغفر كثيراً للمبدع. أتجاوز عن أخطائه طالما أنها كانت ضمن محصلة حياة تنتج فناً ولا تقتل. فكيف يحاسبه العالم، كيف يحاكمه ويدخله السجن أحياناً؟
المبدع لا خطايا له. لا ذنوب. هذا الفرد النادر خاصة فى بيئتنا التى قتل فيها الإبداع منذ سبعمائة عام أو يزيد، منذ حكمنا بنو عثمان. وسلخونا عن الحضارة. هذا الفرد واجبنا أن نبحث له عن مخبأ سرى وركن بعيد كالذى يعيشه شاعرى.
نحن ماهرون بإزاحة الإبداع عن الوجود وعن بكرة أبيه. ماهرون بتحويل الفن لبضاعة يتاجر بها أصحاب رؤوس الأموال فيختفى الفن ويبقى الربح الصافى.
فى السيارة أستمع إلى لحن مزعج مصدره الراديو كفقرة وصل بين البرامج، نفس اللحن أسمعه فى الحفلات يتراقص عليه الناس ويدندنه ملايين الأفراد الذين نسوا أو أنستهم الظروف والأيام أن للأغنية عموداً مهماً اسمه (اللحن). ليس مهماً ربما كنت ضمن من رقص عليه أيضاً.. اللحن يخفى الكلمات. الشعر غير ظاهر. لكن حروفاً بين الموسيقى السخيفة التى لا تصلح إلا أن أرقص عليها لأحرك جسدى، تذكرنى بشىء لا أتمكن من تمييزه.
كأنها نفس أبيات صديقى الذى يعيش حالات من النشوة والوله والألم والسوريالية قبل أن يتمكن من كتابة الشعر.
فماذا يفعل الشاعر عندها؟
هل يخرج من كهفه ويقف على المسرح ويصرخ دفاعاً عن نشوته وإلهامه؟
هل يخرج من الخيال ويجبر على دخول عالم الواقع؟
كيف وافق على تحويل ألمه لمقطع سخيف لن يدوم عمره أكثر من شهور؟
كيف وافق المجتمع على تشويه القصيدة؟
وافق لأنه سبق أن وافق على تشويه أشياء كثيرة. لقد شوه الشارع أمام عينيه وصمت. وشوهت النساء ومارس صمتاً مريعاً. وأسدلت العباءات والملاءات وصودرت الكتب ومنع الاختلاط وخرجت فتوى تقول: إن كل شىء عدا الرجعية حرام.
تجار الشنطة الدينية والمالية أفسدوا كل شىء وأفتوا فى كل شىء، وما تدمير قصيدة صاحبى إلا واحد من ضمن الفساد.
صار (السلم والحرية) كلمات يحيطها برواز معلق على جدار فى شقة نجتمع فيها وحيدين. شلة متبقية من الأحرار. وحدنا. نترحم. نبكى. نفرح. عزلة تبعدنا عن الواقع. مثل ركنه الهادئ البعيد.
نقلا عن المصري اليوم