الأقباط متحدون - القاهرة تقتل؟
أخر تحديث ٠٣:٥٣ | الاربعاء ١١ مارس ٢٠١٥ | ٢برمهات ١٧٣١ ش | العدد ٣٤٩٨ السنة التاسعه
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

القاهرة تقتل؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

تتبع هذه المقالة المصورة بعدسة نمير جلال شارع بورسعيد من فم الخليج الي الظاهر وهي تحاول عمدا اعادة انتاح إحساس المشي في المدينة. التمشية في القاهرة هي نوع من ممارسة للمدينة وهي ممارسة يفعلها أهل المدينة بالضرورة في حياتهم اليومية وهي نوع من التفكير البصري المتاح لكل من يمشي بطرقه الخاصة.

التفكير وأنت تتمشي له خفة وهو يرتبط بما تراه وبما تستدعيه الصدف الكثيرة والصدمات علي الطريق من ناحية وبالتعود وتكرار رتم الحياة من ناحية أخري. التمشية هي نوع من التفكير المرن الذي يفهم المدينة ويشكلها بطرق مختلفة عما يتم التخطيط له من قبل المهندسين والعمرانيين. وهي أيضا نوع من تقفي الآثار.

كل من عاش في المدينة سواء ذكره التاريخ أم لا، والتاريخ لا يذكر إلا قلائل، ترك آثار في المدينة عن طريق السكن والمشي والشغل والأكل والفسحة، كلها ممارسات تخلق المدينة وتخلق أنماط التعايش فيها. كنا نتمشي وكأننا محققين جنائيين، شيرلوك هولمز يبحث لا عن الجاني بل عن حياة شارع بعينه، شارع بورسعيد. لا نستنبط أهمية ما نراه في الشارع من جماله أو قبحه، بالفهم التقليدي للكلمة، ولا من مجرد فهم معلومات تاريخية عن الشارع وتطوره.

ما نحاول رصده عن طريق المشي في الشارع هو تشابك ترسبات التاريخ مع صراعات الحاضر وتصورات المستقبل. ماضي الشارع كقناة، مد خطوط الترام وما ترتب عنه من تغير أنماط العمل والعلاقات الشخصية، قاهرة الخمسينات والستينات وصعود أو هبوط طبقات اجتماعية، اقتحام قسم السيدة زينب في الثورة وما تعنيه يناير ٢٠١١ من لحظة طرح ثوري لم يتحقق، كل هذه الاستدعاءات تتركز في بضعة لحظات ويربطها المشي في الشارع، كخيط يعيد تركيب الزمن، فالمدينة تحتوي مجموعة تفاصيل تستدعي المدينة كلها بتاريخها وصراعاتها الإجتماعية والسياسية بالكامل.

ترجع تسمية شارع بورسعيد الي سنة 1957 عقب العدوان الثلاثي، وقد كان إسمه شارع الخليج المصري فيما قبل. كما يعرف الكثير من أهالي المناطق العديدة الذي يمر فيها الشارع، ترجع تسمية الخليج المصري الي أن الشارع كان بالفعل خليجا، أو بالأصح كان ترعة أو قناة مائية ضيقة مرتبطة بالنيل، يبدأ من منطقة فم الخليج عند بداية سور مجري العيون ويتجه ناحية الشمال الشرقي لينحني بإتجاه جامع السيدة زينت فيمر من أمامه مباشرة لينحني مرة أخري بإتجاه الشمال مارا بالحلمية ثم درب الجماميز ثم ميدان باب الخلق ثم الموسكي ثم ميدان باب الشعرية ثم الظاهر بالقرب من جامع الظاهر بيبرس ثم غمرة ليكمل طريقة فيما كان في الماضي أراضي زراعية إبتلعتها المدينة لتصبح الزاوية الحمرا والوايلي والأميرية والخصوص. وقد تم ردم الترعة في عام ١٨٩٨ من قبل شركة ترامواي القاهرة بالاتفاق مع الحكومة في مقابل إنشاء شارع يسير فيه خط الترام.

شريط المترو يخترق سور مجرى العيون

أرادت الثورة الفرنسية ليس فقط تغيير أسماء الشوارع بل إنها ابتكرت تقويم جديد، نفس التقويم الذي استخدمته كوميونة باريس قبل إنهزامها، فالثورة يجب أن تخلق مساحة وزمنية جديدة. تتغير أسامي الشوارع الرئيسية في القاهرة بسرعة تغير المزاجات السياسية والأنظمة والميول الأيدولوجية للسلطة: من سيلمان باشا لطلعت حرب، من الخليج المصري لشارع بورسعيد وهكذا. أما الشوارع الفرعية فكثيرا ما يتراجع ويترسب التاريخ فيها من صراع الحاضر علي الشوارع الرئيسية. شوارع وحارات مثل السكر والليمون، حارة الحبانية، حارة السقايين، درب البزازرة، سوق الزلط هي شواهد علي حيوات المصريين السابقة، علي أفول أنمطة اقتصادية وممارسات يومية واحتفالات لم نعد نحتفل بها. كانت احتفالية "جبر الخليج" أو قطعه تتم في أواخر صيف كل عام حول هذه المنطقة حيث يسمح لمياه النيل الآخذة في الارتفاع بالدخول للقناة ولكن تبقي القناة في حالة راكدة معظم السنة.

الخاص يتحول أحيانا لمتحف حي للمارين في الشارع. أنت الآن تنظر إلي حمام أحدهم في الدور الثاني. في باب الشعرية أشار أحد ساكني الحي الي مربع أزرق علي الجزء المتبقي من سور القاهرة القديم بعد أن شرح لنا أن الحكومة كانت قد أزالت ما بني عليه في منتصف العقد الماضي وقال «دي كانت أوضتي».

هرب الشارع في هذه البقعة من صخب و ضجيج القاهرة، فهو مسار غير مأهول إلا من "مدافن الأقباط الكاثوليك" على اليمين.

مفترق طرق في ميدان أبو الريش

يفترق الطريق عند ميدان أبو الريش إلى شارعي السد البراني جهة اليمين و شارع الخليج المصري (بورسعيد) جهة اليسار. بينما يموج الأول بصخب البيع و الشراء و ازدحام المرور و الضوضاء، يعم هذا الجزء من شارع بورسعيد حالة من السكينة و الهدوء النسبي و الظل لم يقطعها أثناء سيرنا إلا مجمع سكني compound صغير لفتت انتباهنا أبنيته المشيدة على الطراز الإنجليزي و التي لا تتعدى الثلاث طوابق و استخدم في بنائها الأحجار السميكة التي تعزل الحرارة. اكتشفنا أنه ملك لهيئة السكك الحديدية و يعود تاريخه لأربعينيات القرن العشرين و كان مخصصاً كإستراحة لعمال و مهندسي و موظفي الترام و المترو القديم.

كانت السيدة زينب من أوائل المناطق التي تم ربطها بشبكة الترام بعد ردم الخليج المصري. و كان فناء هذه الاستراحة نقطة عبور تصل خط الترام المار في شارع بورسعيد بخط المترو القديم (مترو حلوان) في شارع منصور، و الذي تم استبداله في الثمانينات بشبكة مترو الأنفاق.

مر الآلاف من هذا البرزخ في طريقهم بين شمال القاهرة و جنوبها، و اصطف مئات غيرهم في شارع بورسعيد في أواخر القرن التاسع عشر يشاهدون بدهشة تشغيل عربات الترام الكهربائية، والتي كان الأطفال يركضون خلفها صائحين «العفريت ... العفريت !!».

يضيق الشارع و ينحني بحدة إلى اليمين متبعا خط سير القناة القديمة، ليصل بنا إلى مفترق آخر بالقرب من دار الهلال. تطل علينا عند هذا المفترق عمارة ضخمة تأخذ واجهتها شكل نصف قوس بيضاوي، و تذكرنا بنمط معماري اشتهر في مصر في الأربعينات و الخمسينات من القرن العشرين يتميز بالواجهات المستديرة و انسيابية الأسطح و من أبرز شواهده عمارة "وقف رأفت" قرب تقاطع شارعي بورسعيد و شارع قدري و التي صممها واحد من كبار المهندسين المعماريين المصريين وهو علي لبيب جبر (أحد مصممي مباني شركة الغزل و النسيج بالمحلة و مصانع الحرير بكفر الدوار)، وكذلك مبنى سينما ولوكاندة الشرق التي لم نستطع الاستدلال على صاحب تصميماتها.

على خلاف العمران الخديوي في وسط البلد (طراز الآرت نوفو)، تعبر هذه البنايات الضخمة في شارع بورسعيد عن روح أخرى و عصر آخر. فالأسطح الملساء و الخطوط الأفقية الممتدة و الأطراف المنحنية (خاصة الهيكل الإسطواني الذي يظهر في البرج العلوي لسينما الشرق) تستمد فلسفتها من أسلوب ال Streamline Moderne الذي انتشر في أوروبا في منذ الثلاثينات و الأربعينات و الذي سعى لنزع الزخارف من واجهات المباني، و الميل بدلاً منها للتعبير عن التدفق و السيولة و السرعة التي واكبت التصنيع الثقيل.

دفعنا المرور بسينما الشرق لتخيل صورة طالب يقف متأملاً أفيش أحد الأفلام القديمة بعد أن قام ب"التزويغ" من المدرسة. ارتبطت سينما الشرق بأسطورة فريد شوقي "ملك الترسو" منذ النصف الثاني من الخمسينات في القرن العشرين، و التي تغيرت معها صورة النجم من الفرد البرجوازي الأنيق و المنمق إلى صورة أكثر شعبية تفرد مساحة لبطولة و شهامة ابن الحي الشعبي، للأسطى حسن، هريدي في الفتوة ، أبو سريع في باب الحديد، الشاويش خميس في رصيف نمرة خمسة. يروى أن "وحش الشاشة" كان يتابع عن كثب شباك تذاكر و استجابات الجمهور في صالة سينما الشرق التي تتسع لمئات المشاهدين و كانت لفترة طويلة بمثابة المعادل الشعبي لسينمات مترو و ميامي و راديو في وسط البلد.

الشرق كغيرها من صالات العرض الشعبية كانت علامات على التحول ل"عصر الجماهير الغفيرة" حيث تحولت السينما إلى وسيط فني شعبي واسع الانتشار ثم إلى أداة أيديولوجية في العالم الثالث. و على الرغم من تجديدها و تطويرها في منتصف التسعينات، لم تصمد الشرق- كغيرها من صالات العرض الكبرى التي تم غلقها أو تقسيمها- أمام التحولات النيوليبرالية في مصر.

تراجعت مكانتها و دورها أمام تغيرات كثيرة من أهمها ظهور المولات و صالات العرض الصغيرة، و انكماش مساحات الفسحة و اللهو في المجال العام، و كذلك سيطرة الاحتكارات على صناعة السينما. كل ذلك استصحب معه تغيرات أوسع في مزاج جمهور الترسو و جمهور الطبقة الوسطى التاريخية وفي صورة الفرد عن نفسه.

أبواب السينما المغلقة كانت كافية لفهم مآل هذا النمط من المشاهد الذي يشارك مئات وآلاف آخرين الفرجة على فيلم أو بروجرام أفلام.

رحلة الخليج المصري هي رحلة في الديموغرافيا والجغرافيا. تاريخيا و بدرجة من التعميم (أي مع اعتبار بعض الاستثناءات مثل بولاق ومصر القديمة)، تمركز أغلب سكان القاهرة شرق قناة الخليج، أي في المنطقة ذات المنسوب الأرضي المرتفع نسبيا بين القناة وهضبة المقطم، أو صحراء العباسية ذات المناسيب الأكثر إرتفاعا. أما الأراضي الواقعة غرب قناة الخليج، أي بينه وبين النيل وترعة الإسماعيلية في الشمال (شارع رمسيس حاليا)، فهي أراضي ذات منسوب منخفض، ولذلك كانت عرضة لفيضان النيل وإرتفاع منسوب المياه الجوفية المصاحبة له. فكانت تغطي معظمها الحدائق والبرك (مثل بركة الأزبكية وبركة باب اللوق) والقصور مثل قصر ابراهيم باشا. كان الخليج يمر من أمام ميدان السيدة زينب مباشرة ثم ينحني مرة أخري بناحية الشمال. يوجد سبيل السلطان مصطفي علي الناحية الأخري من الشارع/القناة فقد كانت القناة مصدرا هاما لمياه الشرب في المدينة.

مثلما يوجز الشارع قصصاً عن الماضي و عن الصراعات التي خلقت مع الحداثة، و مثلما يتعرج مساره يمينا و يساراً متداخلاً مع الطبيعة، تأخذ سيرة الشارع منحىً دراماتيكياً عند المرور من أمام قسم شرطة السيدة زينب خاصة و أن صورته الحالية تبدلت تماماً عما كانت عليه إبان الثورة. بينما تشير الأبراج و التحصينات التي استحدثها النظام إلى مستقبل سلطوي كئيب – قيد الإنشاء كما تشير الأشرطة الصفراء التي تطوق محيط القسم-، تستدعي في الوقت ذاته صور أخرى لانتفاضات شعبية و وطنية خلفت رماداً مضوياً من مباني السلطة الاستعمارية و الاستبدادية المحترقة في 1919 و 1952 و 1977 و 1986 و بالطبع في 28 يناير 2011. لم يختلف مصير قسم السيدة زينب الذي تعددت شواهد و شهادات التعذيب في سلخانته عن ما يربو عن ال 90 قسم آخرين احترقوا في جمعة الغضب بطول مصر و عرضها. إلا إنه استأثر ضمن قلة من الأقسام بتحوله إلى خرابة و ملقى للقمامة لما يزهو عن السنة. كانت الخرابة بالتعبير الشعبي "فردة"- بكسر الراء- على منطق السلطة القديم، و ظل واجهة القسم المحترقة شاهد و ذكرى حية لثورة في مأزق.

استدعت صورة القسم العديد من التأملات حول الثامن و العشرين من يناير (جمة الغضب)، اليوم الذي يفلت من إسار الزمنية الحديثة للتاريخ في مصر. مثّل هذا الحدث الجلل تحدياً للتصورات الإصلاحية قبل الثورة و بعدها، بشكل خاص رفضاً لفكرة الإصلاح و التراكم التدريجي و إمكانيات الهندسة الإجتماعية التي قد تخفف و تعطل الانفجار الاجتماعي أو تأجله على أقل تقدير. البطولات الجماعية و الخروج الكبير و الرهان على المستقبل وبالطبع هزيمة الشرطة و انسحابها المهين، جعلت هذا اليوم يستعصي على الحكي و يقاوم محاولات تسكينه في سردية خطية و منطقية. و ليس غريباً إن تراه الثورة المضادة مؤامرة على الدولة، كيف يفهم من غشت أبصارهم حركة التاريخ و سيرته!!

تتناثر صور الشهداء بطول الشارع، على عمدان الإضاء و الجدران و واجهات المقاهي، و كأن نظراتهم المتطلعة و ابتساماتهم البسيطة هي أجمل و أنبل شهود لثورة تائهة و مجهضة نصادف شظاياها في سيرنا. ثمة حكاية تتواتر في الروايات الشعبية عن الشهداء في جمعة الغضب، و هي أنهم زُفّوا إلى السماء قبل أيام أو فترات وجيزة من زواجهم. و منهم الشهيد إبراهيم صالح الذي اغتاله رصاص القناصة أمام قسم الدرب الأحمر في أثناء عودته من عمله في ورشة الحدادة.

يستمر تذكرنا للثورة لا عن طريق نصب تذكاري أو حكم قضائي أو عطلة رسمية، و لكن عن طريق صور و آثار مبعثرة لمئات من الغرباء.

تخيل كيف كان المشي في الشارع مباشرة بعد أن تحول الخليج إلي شارع، شارع لم يمشي عليه أحد من قبل؟ ردم القناة وردم بركة الفيل التي كان من الممكن رؤيتها في نفس الصورة من أكثر من مائة عام هو ردم لنمط حياة بالكامل فهو يخلق تجارب وممارسات حياتية كما ينهي أخري. ربما لم يكن ممكنا في الماضي رؤية مأذنة جامع بن طولون من شارع محمد قدري باشا المتفرع من شارع الخليج.

مفاجأة تظهر بين عمارتين

«الترام لما كان بيعدي من هنا، كان بيحك في حيطان السبيل»

تظل التكايا و سبل المياه القديمة علي شارع بورسعيد كشهود من الماضي علي الحياة اليومية لمن سبقونا. فنري في الصورة حنفيات سبيل بشير أغا. كانت القناة هي إحدي المصادر الرئيسية لمياه الشرب فحينما تكون المياه جارية يملأ خزاناته من يمتلك ويأخذ السقايين المياه من نقاط مختلفة علي طول الخليج أيضا. وكان إنشاء شركة مياه القاهرة صاحبة الإمتياز عام ١٨٦٥ برأس مال أجنبي نقطة فاصلة في توزيع مياه الشرب في المدينة، فمن ناحية كانت مياه الشركة المفلترة تباع بأثمان باهظة لا يقدر عليها سوي شريحة ثرية جدا. عندما غيرت الشركة نظامها في العقود الأولي من القرن العشرين بالاستعانة بعدادات، حولها سيد درويش إلى موضوع للتهكم حين قال “عايشين فى وادى النيل نشرب من عدادات على مللى وسنتى”. من ناحية أخري كان إنشاء الشركة بداية تضييق علي مهنة السقايين بل وبداية إندثارها، فعبر أيضا سيد دوريش بحسه الشعبي عن هذا في أغنية السقايين قائلا علي لسانهم "دي شركة غلسة ميتها نجسة تلقاها حدقة وخضرة وزرقة” مشيرا إلي عدم استحسان المصريين لطعم مياه الشركة في بعض الأحيان مفضلين مياه السقا. وتقع حارة السقايين في الناصرية بمكان ليس ببعيد عن شارع بورسعيد.

من المفارقات أن الخليج لم يكن فقط مصدرا لمياه الشرب، بل كان أيضا مصرف عمومي تصب فيه طرنشات ومواسير الصرف الصحي لبعض البيوت والجوامع القريبة ومقلبا للقمامة ومكانا لقضاء الحاجة لكثير من فقراء المدينة. وبالتأكيد فقد تسببت هذه الطبيعة المزدوجة للخليج لأن تكون المناطق المطلة عليه مثل السيدة زينب من أكثر الأماكن التي سقط فيها ضحايا أوبئة الكوليرا المتكررة والمثيرة للزعر طوال القرن التاسع عشر . وقد كانت تسمي «الهواء الأصفر» إعتقادا بأنه مرض مصاحب لتغيرات جوية قاتمة. وكانت علاقة الخليج وروائحه الكريهة بالأمراض الوبائة مصدر دائما لقلق السلطة، فكان قرار ردمه في سنة ١٨٩٧ مرتبطا ارتباطا وثيقا بقلق مسؤولي الصحة من علاقتة بالأوبئة. من ناحية أخري كان قرار ردمه متعلقا بدخول رأس المال الأجنبي في مصر بكثافة وبطفرة السوق العقارية التي شهدتها القاهرة في نفس الفترة وبالفعل فقد ارتفعت بسرعة أسعار العقارات المطلة علي شارع الخليج بعد ردم القناة. و تشير الكثير من الشواهد الي أن القاهريين لم يفتقدوا القناة كثيرا.

لم يصمد الطراز المعماري الحداثي (الذي تلمسنا أثره قرب دار الهلال و في سينما و لوكاندة الشرق و عمارة وقف خيري) أمام الزمن، و أفسح المجال لفلسفات عمرانية أخرى. فمع النصف الثاني من الخمسينات ستختفي تدريجياً الانحناءات و الأقواس و الواجهات الملساء و الشرفات الدائرية لتخلي الطريق لمنطق معماري أكثر جدية يعتمد على الأطراف الحادة و الخطوط المستقيمة و تظهر فيه الخرسانة بشكل واضح. جسدت عمارة السودان هذه التحولات، فقد أنشأت في عام 1957 و قام بتنفيذها المقاول اليوناني كومنينوس و تصميمها اثنان من أهم مهندسي العمارة في مصر آنذاك وهما مصطفى شوقي و صلاح زيتون (مصممي مطار القاهرة القديم). تتلمذ شوقي و زيتون على يد المعماري الأمريكي الشهير فرانك لويد رايت الذي زار القاهرة في نفس العام و أبدى اعتراضه على عمران وسط البلد و لفت نظر تلامذته لضرورة استلهام عناصر من البيئة المحيطة و الجمع بين التراث و الحداثة لصنع مستقبل مختلف للمدينة. انعكست بعض أساليب و رؤى رايت (تحديداً العمارة العضوية و الوظيفية) في واجهة العمارة، فالنوافذ و الشرفات الخشبية تمثل تصور حديث و عملي للمشربية القديمة. كان بناء العمارة حدثاً كما قال أحد سكانها، فقد بنيت بنظام "الخوازيق" المستجد وقتها، حيث حفرت الأساسات بعمق 15 متر في باطن الأرض حتى ترتفع العمارة بهذا الشكل. كانت "عمارة متكلفة" كما قال، و كان سكان السيدة و الحلمية يستيقظون على صوت دق الخوازيق في الأرض.

أنت الآن علي مفترق كوبري بورسعيد مارا أسفل كوبري الأزهر بمنطقة الموسكي بعد أن تخطيت ميدان باب الخلق ومديرية أمن القاهرة ومتحف الفن الإسلامي. شارع الأزهر (أو شارع السكة الجديدة سابقاً) لديه قصة أخري عن علاقة العمران بالأمراض برأس المال بحكم المدينة. خلفك في مكان غير محدد بالضبط ما كان في الماضي فندق النيل حيث سكن جوستاف فلوبير صاحب رواية مدام بوفاري عندما جاء الي مصر في أواخر عام ١٨٤٩ وتحتك ومن حولك وفي كل مكان صدمة أخري جديدة.

ارتبطت تجربة الحداثة في المدن الأوروبية و الأمريكية الكبيرة بضبط و تنظيم حركة الأجساد و تعقيم الحواس في المجال العام بفعل البوليس و ماكينة التسليع الضخم. و لكن للقاهرة قصة أخرى، فلا تزال التجربة الحسية محتفظة بالكثير من دهشتها و فوضويتها.

الاقتراب من الموسكي يباغتك بأصوات كثيرة متداخلة وكلاكسات وروائح عوادم وذرة مشوية وجوزهند وبطاطا وكسكسي ومحلات الجبنة وألوان البضائع الكثيرة في الشارع يقابلك بها تقاطع الموسكي مع كوبري بورسعيد. لا يمكن الهروب من فكرة إنك إخترقت حاجز داخلي في المدينة، حاجز تسمعه وتشمه وتراه، فهو هجوم حسي شامل مرتبط بنقلة في طبيعة الشارع الاقتصادية. أنت الآن في منطقة أسواق جملة ومحال الموسكي العديدة ذات التخصص في نوع البضاعة المعروضة. ما هي المدينة، أي مدينة، غير إنها تكثيف لنشاط ذهني ما ناتج عن تحول سريع و مستمر بين محفزات داخلية وخارجية ناتجة عن تعايش البشر في المعمار؟

الأفق الآن ممهد لنقلة أخرى لتخيل تواريخ للحياة اليومية في القاهرة مختلفة عن التاريخ المدرسي أو المتحفي، بداية من تخيل رائحة المكان في نهايات القرن التاسع عشر مع مد شبكة حديثة للمجاري و استبدال الطرنشات، و تخيل كيفية وصول أصوات مساجد السيدة زينب و الإمام الشعراني لفضاءات الأحياء المحيطة بها حين كان الآذان بمثابة الساعة و الساقية التي تدير إدراك سكان الحي للزمن كما صورها يحيى حقي في قنديل أم هاشم.

نتخيل كذلك البيانات و الخطب التي كانت تلقى من ميكروفونات معلقة على عمدان النور، و الصوت المدوي الذي أحدثته تكنولوجيا الحفر و البناء، و مشاوير شراء لوازم السبوع و الزواج و النجف و ورق الحائط و الملابس. كل هذه التراكمات تستدرجنا لاستكمال الرحلة.

من أهم معالم منطقة الموسكي: حارات اليهود والمعابد المغلقة مثل معبد موسي بن ميمون، مجموعة من كنائس الأقباط والأرمن والمارونية والسريان و دير الفرنسيسكان الذي يظهر في الصورة.

يمثل ميدان باب الشعرية نقلة أخري في شارع بورسعيد، حاجز آخر داخلي في المدينة نخترقه نحو معمار ومساحة أكثر وحشة. رغم وجود مقام سيدي الشعراني، يسكن الميدان وما حوله إحساس غريب بالهجر أو بإنه مكان قد تم نسيانه بشكل من الأشكال. يتوسط الميدان تمثال غريب للموسيقار محمد عبد الوهاب ساهم في نصبه أيمن نور نائب الدائرة و المعارض الشهير في التسعينات. بسط نور شعبيته في تلك الفترة من خلال المركز الثقافي الذي قدم العديد من الخدمات مثل حضانة للأطفال و مركز لتعليم اللغات و الكومبيوتر و مجموعات التقوية، و لا زالت حطامه و بقاياه موجودة و محاطة بالأسوار في الميدان.

سور القاهرة القديم من الناحية الشرقية وقد تم هدم أجزاء منه عند ردم القناة والتوسيعات المتكررة لشارع الخليج. أما ما تبقي منه في هذه الناحية فهو ما ابتلعته المباني المحيطة. علي اليسار بداية شارع و حارة درب البزازرة.

مرت القاهرة بتغيرات اقتصادية عنيفة في القرنين الأخيرين غيرت من أنماط تراكم واستغلال رأس المال ومن طبيعة البضائع والأسواق. كانت باب الشعرية مركزا لأسواق كثيرة إندثرت الآن مثل سوق الجراية ولكن المنطقة ما تزال مركز لنقل البضائع، سواءا كانت الموبيليا والأثاث المنزلي أو القطن أو الخضروات. كان ولايزال إنشاء الشوارع من أهم طرق فتح سكك جديدة لتدوير رأس المال واستثماره.

أحد محلات القطن بالشارع. حكي لنا صاحب المحل عن الأسواق في المكان. كيف يتعامل ساكني الشارع مع تراكمات وتداخل الماضي والحاضر ؟ هناك نوع من المعرفة يختلط فيها الواقع بالأسطورة والتاريخ الاجتماعي الشفاهي الذي تتناقله الأجيال عن المنطقة بالتاريخ العام والأحداث السياسية الكبري.

بمكان قريب من السور، كانت هناك واحدة من آخر بوظات تبقت في القاهرة. ولكن بوظة بلبل أغلقت أبوابها هي الأخري منذ حوالي أربع سنين. المكان الذي كان يقدم البوظة (وهو مشروب كحولي من الشعير) معروف بين أهالي باب الشعرية، فهو مشروب شعبي يقدم بثمن رخيص. لماذا أغلقت البوظة؟ بالتأكيد لم تعد البوظة هي مصدر المزاج الأساسي للطبقات الإجتماعية الأفقر في المدينة. يقول بعض المقيمين بالشارع أنه بعد أن كون بعض المال انتقل بلبل صاحب البوظة ذو الأصول السودانية الي شارع عبد العزيز واشتري ثلاثة عشر محل لبيع الأدوات الكهربائية. قال لنا أحدهم مازحا "أو إسأل عليه ف درب المهابيل” وهو شارع آخر قريب من العتبة كان في السابق معروف بمحل بوظة.

هل الماضي فعلاً بلداً أجنبيه كما يقال؟ الحطام الباقي من السور لا يكفي للاستدلال على تاريخه، و يقول بعض الماره أنه مجرد ركام لبيوت قديمة هدمتها المحافظة في منتصف العقد الماضي.

حاولنا اختبار معرفتنا بمراحل تاريخية سابقة على تخصصاتنا، فقد يكون حطام لباب الشعرية الذي كان يمثل حدود القاهرة القديمة، و ربما بقايا السور الذي شيده قراقوش وزير صلاح الدين الأيوبي و كان الخليج يمر من أسفله.

«الحضارة ليها ضحايا».. هكذا علق أحد أصحاب الورش على تحولات الشارع. منذ أن لمحنا أطلال احد المباني القديمة في منطقة السكر واللمون، و فكرة الأطلال بوصفها مجازاً مكانياً و زمنياً تطارد مخيلتنا في تصور و محاولة مختلفة لكتابة تاريخ شارع بورسعيد. تأتي الأطلال باعتبارها ركاماً لتناقضات الحداثة المادية و الفكرية الزمنية.

أحد اللوحات القديمة للشارع ظلت تقاوم التغيير لأكثر من نصف قرن.

القاهرة تقتل؟ ربما أحيانا.

بمجرد اجتياز ميدان باب الشعرية تزداد وحشة و غرابة الشارع سواء في أنماط المعمار و ألوانه أو في حركته و زخمه. و يبرز معمار السبعينات و الثمانينات بملامحه الأسمنتيه، فيقف كشاهد علي لاعقلانية القاهرة في طورها النيوليبرالي.

وافقت أحدى جولات التمشية في الشارع موجة عنيفة من البرد و التراب معاً ضربت القاهرة في يناير و طوحت معها مظاهر الحياة في حالة تذكرنا بتمثال الخماسين لمحمود مختار. يرتبط تاريخ الفضاء المديني في القاهرة بعلاقة وطيدة بالتراب و طبقات الغبار المتراكمة على واجهات المباني و على الأرصفة، كأن المدينة ماكينة لصناعة الغبار و غمر الحاضر به. يقفز في أذهاننا سؤال: هل يمكن تصور مستقبل للقاهرة بدون تراب ؟ هل التقدم و النهوض مرتبط بالضرورة بالتخلص من التراب ؟؟ هل ستهون تلك العشرة الطويلة بين الطبقة الوسطى و الغبار؟

هناك العديد من المستشفيات بالشارع و لكن لواجهة مستشفى باب الشعرية خصوصية . كأنها تفصح بأننا نذهب هناك لنموت.

إحدي النهايات المنطقية للشارع: تقاطع شارع بورسعيد وليد الحكم الإنجليزي للقاهرة بكوبري ٦ أكتوبر وليد نظام البنية التحتية المباركي.

يتميزجامع الضاهر بصحن واسع، هو الآن مساحة كبيرة فارغة وسط المدينة التي تذكرك بها العمارات الطويلة المحيطة. المكان هاديء، تعيش فيه الطيور وبعض الكلاب. الجمال الحزين لحطام المسجد يستدعي حالة من حالات أفلام المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي وكأنك تركت القاهرة للحظة ودخلت في عالم خيالي يعيش وسط القاهرة. الجامع بتفاصيله يبدو كشظية من الخيال أو كحلم يعيش وسط ما نطلق عليه الواقع واليومي. ربما يعطي نوع من الأمل أن الواقع ليس هو كل شيء وأنه دائما محاط بأحلام من سبقونا وبأحلامنا نحن عن المستقبل.

 

يثير جامع الضاهر الكثير من التأملات ليس فقط حول تاريخ و ذاكرة شارع بورسعيد ولكن أيضا حول السرديات التي تسيطر على فهم و تخيل القاهرة، تحديداً سردية "مصر بتاعة زمان" و سردية "مدينة المسخ" و سردية "التنوير".

فمن ناحية، يفتح المشي في القاهرة أفقا لكتابة و حكي تواريخ من الفشل و المثابرة و المقاومة، و لتذكر قصصا غير مكتملة و نهايات ليست قطعية الدلالة. فكأن المشي ممارسة نقدية ضد التاريخ الخطي التي تتسم به السرديات الوطنية والتنويرية. من ناحية أخرى يمكننا النظر للمدينة باعتبارها طبقات من الأطلال ليس بغرض النحيب على ماض جميل كما في الشعر الجاهلي أو في الأدب الرومانتيكي، أو كمصدر لنوستالجيا زائفة عن قاهرة كوزموبوليتانية جميلة و متسامحة و منظمة، ولكن باعتبار الأطلال مجاز لتفكيك الزمن و للتفكير في ما هو ممكن. ختاماً، نحن لا ننكر أن المدينة بالفعل قاسية- و بخاصة علي النساء- ولكننا في الواقع لا نعرف المدينة لإنها ليست متاحة لأكثريتنا. يردد الكثير من أبناء الطبقة الوسطي خطاب القاهرة تقتل والقاهرة لا تتعدي الخمس أو الست أحياء علي الأكثر بالنسبة لهم. جزء كبير من فكرة القاهرة تقتل ناتج من تخيل وهمي عن ما هي المدينة، وعن تصورات تعسفية تضع القاهرة تحت هالة سلبية كشيء غير مكتمل أو كمسخ قاتل. ما نقوله ببساطة هو أن أكثريتنا لا يعرف المدينة، فهي في أحيانا كثيرة محبطة وكئيبة ولكنها في أحيان أخري مدهشة وجميلة.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.