الأقباط متحدون - من ذكريات معتقل سياسى
أخر تحديث ٠٨:٠٨ | الجمعة ١٨ يونيو ٢٠١٠ | ١١ بؤونة ١٧٢٦ ش | العدد ٢٠٥٧ السنة الخامسة
إغلاق تصغير

من ذكريات معتقل سياسى


قرأته لكم: ميرفت عياد
"فى يوم قارس، وفى تمام السابعة صباحًا بحوش سجن الواحات الخارجة، نتراص جميعًا فى صفوف على حصى أرض مغمورة بندى الشتاء، وأرجل حافية،  وأجساد عارية، وجدت نفسى أسرح مع خيالى إلى خارج السجن، إلى زوجتى وأبنائى الثلاثة، والأم، والأخت، والعائلة، فأحسست بغصة تدمى قلبى وكأنها غصة حديدية موحشة تضغط على شرايين الفكر والقلب، فالحنين أوجاعه تمامًا كأوجاع الجسد بل أشرس منه"
 هكذا قدم الكاتب "صليب ابراهيم" فى كتابه "من ذكريات معتقل سياسى" صور إنسانية خاطفة لبعض ذكريات السجون والمعتقلات التى بدأت فى عهد الملك "فاروق" مع حريق القاهرة فى 26 يناير 1952، فى معتقل "روض الفرج"، و"الهايكستب"، واستمرت فى عهد الثورة فى سجون ومعتقلات القلعة، والواحات الخارجة،وأبو زعبل، الفيوم، وسجن القناطر الخيرية، موضحًا بذلك ما عاناه هؤلاء المعتقلون من أبشع أنواع القمع الذى حُفر على أجسادهم وعقولهم غلاف الكتابلسنين طويلة.

يصورالكاتب "صليب ابراهيم" فى أولى صفحات كتابه شكل الحياة فى "القاهرة"، التى تلبّد سماها السحب السوداء، ويسيطرعليها القلق وعدم الإستقرار، وكيف كان الملك "فاروق" يمسك كل خيوط  لعبة الحكم،  وعائلته الملكية تعمل على ايقاف كل المد الثورى الموجود بالبلاد، وإزاحة الحكومة الوفدية من الحكم،  ووقف المظاهرات فى الشوارع، وإلغاء الكفاح المسلح ضد المستعمر بمدن القناة، وتكوين قبضة حديدية تحكم البلاد بالملك والحديد والنار.
 وفى 26 يناير 1952 أُعلنت الأحكام العرفية، وتم اعتقال عدد كبير من أصحاب الرأى الحر، وكان الكاتب من بينهم  فتم ترحيله إلى معتقل "الهايكستب".

كشف التآمر على سيادة الوطن
ويعلن الكاتب "صليب ابراهيم" فى كتابه، إنه لم يتم الإفراج عن أى من المعتقلين طوال فترة الإعتقال، والتى بدأت فى 26 يناير 1952 واستمرت حتى 23 يوليو من نفس العام، وعندما أُعلنت الثورة، وتمت الإطاحة بالنظام الملكى، تم الإفراج عن المعتقلين السياسيين حتى تبدو الثورة إنها أُقيمت من أجل مبدأ الحريات، وبعد الإفراج عن الكاتب توجه إلى شقته بـ"منشية الصدر" ووجدها فارغة، وعرف إن صاحب المنزل تسلمها نظير الإيجار المتأخر، وسافر إلى الفيوم موطن الأسرة التى احتفلت بإستقباله بصفته من حارب الملك، وأصبح من رجال الثورة. وسارت به الحياة وهو يبحث عن عمل بعد فصله من العمل القديم.

نكسة الحرية
إن الجو السياسى فى "القاهرة" فى يناير 1959 كان  متوترًا، حيث اتهم "جمال عبد الناصر" كل مخالفيه بالعمالة والخيانة؛ مما دفعه إلى حملة اعتقالات استمرت حتى 30 مارس من نفس العام.
 وكان "صليب ابراهيم"، واحدًا من آلاف المعتقلين، فنراه يشرح فى كتابه قائلاً: "لقد تم أخذى من منزلى بـ"الفيوم" إلى أحد أقسام الشرطة، حيث وجدت أصدقاء لى سبقونى إلى هذا المكان، ثم تم ترحلينا جميعا إلى سجن القلعة.

 وبالرغم من وجود هذه المعتقلات، الإ أن الصحف المصرية لم تنشر عنها أى خبر؛ طبقًا لتعليمات أجهزة الدولة، ورغم هذا فإن الصحف العالمية بدأت تبث الأخبار عن الحملة الضارية التى بدأت فى "مصر" فى أول يناير 1959، ومعتقل القلعة الذى يمتلئ بالمعتقلين،  وبدأت فى نقد الأساليب غير الديمقراطية التى تتم، ونقد النظام الحاكم.
 وفى نهاية شهر مارس، جاءت تعليمات بالترحيل من "القلعة" إلى سجن "الواحات الخارجة"، وما حدث أثناء الترحيل أحسسنا أن هناك عملاً يُدبر لتنفيذ مؤامرة إبادة أو قتل أو على الأقل تكسير عظام.

مخطط للابادة داخل المعتقل

إن غضب الطبيعة فى شهر نوفمبر من برد قارس وعواصف ترابية فى الصحراء، جاء مقدمة للخطة الحربية التى أعدها اللواء "اسماعيل همت" وفريقه المتوحش، فبدأت المجزرة البشرية من ضرب وسب وقذف للمعتقلين، حتى جاء الليل ودخلنا إلى العنابر. هذا ما يذكره الكاتب "صليب ابراهيم" فى كتابه قائلاً: "ولأول مرة فى حياة الإنسان يحس المرء فى الليل ببعض الطمأنينة من عذاب الإمتهان، ويخشى الصباح بما يحمله من معاناة جديدة، حيث فُتحت الأبواب،  وأنطلقت الحناجر المسعورة، والأحذية الثقيلة، والشتائم؛  لنخرج من العنبر للعمل فى الجبل لنقل الصخور والرمال بدون فائدة، وبدون أدنى رحمة، وكأن الإنسانية قد تلاشت تمامًا عن وحوش الصحراء. فكان مخطط الإبادة داخل المعتقل موضوعًا بعناية ودراسة متخصصين فى فنون التعذيب، وكان الجوع هو أحد أركان هذا المخطط، إلى جانب الوحشية فى التعامل،  والضرب، والسحل، والتعذيب، والحفاء، والعرى،  والعزل عن الحياة داخل زنازين مغلقة لا تعرف الشمس أو الهواء، فيذبل جسد الإنسان وتُلغى إنسانيته تمامًا،  فكانت الإرادة والرغبة فى الحياة، هى الإستمرار فى المقاومة النفسية والعقلية ضد كل ما يحدث فى صحراء الواحات الخارجة.

دم الشهيد يوقف المجزرة
ويقص الكاتب "صليب ابراهيم" فى كتابه كم كان اندهاشه من القرارات الجديدة لمأمور السجن  فى منتصف يونيو 1960، وهى توقف العمل فى الصحراء.
  وبدأ العمل فى مزرعة السجن، السماح بكتابة خطاب واحد فى الشهر لأسر المعتقلين، السماح بالأدوية وبإرتداء الأحذية، وظلت هذه الدهشة إلى أن بدأت الأخبار تتوارد عن استشهاد أحد المعتقلين، وكيف تناقلت وكالات الأنباء خبر مقتل الشهيد "شهدى عطية" من جراء التعذيب على باب ليمان "أبو زعبل"؛ مما أدى إلى إصدار أوامر من "عبد الناصر" بوقف التعذيب، واجراء تحقيق فى ذلك.
 ومن هنا كانت بداية التقاط الأنفاس للمعتقلين، وبجانب العمل فى مزرعة السجن، كان لابد من المقاومة الفكرية والثقافية، وتنمية القدرات العقلية التى أُريد لها أن تتوقف وتبلى، فنظمت الندوات والمسرحيات والسهرات الغنائية.

الإفراج والبحث عن عمل
وينهى الكاتب "صليب ابراهيم" كتابه بذكريات الترحيل من الواحات إلى معتقل "العزب" بـ"الفيوم" ذو الشهرة الدموية فى أغسطس 1961، وبعد ثلاثة شهور تم الترحيل مرة أخرى إلى سجن "القناطر"، واستمر الحال فى هذا السجن حتى أول يناير 1962، عندما تم الإفراج عنا، فسافرت إلى "الفيوم"، حيث الحنين إلى الزوجة والأطفال والمسكن والأقارب.
 ومرت شهور كثيرة  بلا عمل، وبلا دخل، حتى لجأت إلى قريبى وصديقى الأستاذ "سامى داود"- نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية والذى قابلنى بالاستاذ " محمد عبد الرحمن نصير " رئيس مجلس ادارة الشركة العقارية المصرية   والذى قام باصدار قرار بتعينى بالشركة بمرتب متواضع يتناسب مع المؤهل ، وبعد ذلك بدأت فى تحقيق رغبته فى اعداد مجلة شهرية تصدر باسم الشركة واتفق على تسميتها " الأرض " ، وهكذا سار الحال حتى توليت منصباً مهماً بالشركة بعد طول عناء وكفاح .


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter